نص خطبة: قراءة في تاريخ علم التربية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين جميعاً، ورحمة الله وبركاته.
فضل العلم وأهميته:
في القرآن الكريم: ﴿وقل رب زدني علماً﴾([2]).
العلم هو معرفة حقيقة الشيء، فمتى ما وقفت على حقيقة أمرٍ ما فأنت به عليم. وفي فضل العلم والتعلم والمعلمين روايات عديدة عن النبي الأعظم والآل الكرام (ع) ملئت بها بطون الكتب، واستُظهرت عند الكثير من الأعلام، وتشكلت منها مدارس حديث.
ففي الحديث الشريف عن النبي الأعظم (ص): «إن العلماء ورثة الأنبياء»([3]). وفي حديث آخر عنه (ص): «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم»([4]). وفي حديث ثالث عنه (ص): «من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع»([5]).
هذا هو العلم من حيث القيمة والمنزلة في مدرسة الإسلام المتمثلة بالرسول الأعظم محمد (ص).
والتعليم بحاجة إلى أرضية طيبة كي يُنتج، وهذه الأرضية تُستقي من روافد عدة يجمعها عنوان واحد هو التربية، فمتى ما تمت التربية وصلحت سارت روافدها ونفذت في مجال الحياة بكل تفريعاتها حتى تُنتزع منها الأرضية الصالحة لانعكاس العلم وانطباعه فيها.
من هنا تتفاوت المجتمعات تقدماً وتأخراً بقدر ما تكون تلك المساحة صالحة وقابلة للانطباق، ولا يتأتى ذلك إلا وفق ما يتوفر من تلك المقدمات المساعدة على الوصول لذلك.
العلم والتربية:
لقد قيل في التربية: إنها توأم التعليم. وقيل: إنها متقدمة عليه. وقيل: إنها المهذِّب للعالم إذا ما أمسك بأصول المعرفة. فالعلم بلا تربية يعني الضياع والتضييع، والضلال والتضليل، أما إذا كانت التربية هي التي تسوس جميع الحركات التي يقوم بها العالِم، وجميع النظريات التي يؤصل لها، فإن النتيجة ستكون في الاتجاه الصحيح، وعندها تتمازج التربية بالتعليم، والتعليم بالتربية، نخلص إلى مجتمع راشد وأمة راقية.
وقد بذل العلماء جهوداً مضنية في سبيل الوصول إلى تعريف محدد للتربية، يشتمل على ركنين: الأول الاختصار، كي يمكن حفظه واستظهاره واستحضاره، والثاني أن يكون كافياً في استحضار مفهوم التربية. فقد قالوا في تعريفها: هي عبارة عن نظام اجتماعي لها جميع خصائص النظم الاجتماعية التي وضعها أرباب الفن ـ لا ما تواضَع عليه الناس فيما بينهم، لأن الثاني لا يخضع للقوانين والأصول العلمية، على العكس مما عليه الحال في الأول ـ وتكون بيئتهما من نفس العناصر التي تتكون منها تلك النظم الاجتماعية.
أثر المجتمع في التربية:
لذلك يقال: الإنسان ابن مجتمعه، سواء في ثقافته أم إبداعه أم عطائه، فالمجتمع يلقي بظلاله على ذلك الفرد الذي يبدأ صغيراً ثم يكبر ويرشد ويتطور حتى يصل مرحلة الإبداع، فيبقى للمجتمع أثره وانعكاسه وتوجيهه وظله في الاستنتاج الأخير. لذلك تكفّل الله تعالى أمر الأنبياء والأولياء، أما من هم دون ذلك فيبقون في حدود دائرة هذه المنظومة التي نشترك فيها أنا وأنت والأستاذ الأكاديمي والمرجع الحوزوي وأمثال ذلك من العناوين والمسميات والاعتبارات التي تطرح.
إن الحركة العلمية والتربوية تستمد عناصرها من خلال المجتمع وثقافته، وهذا أمر طبيعي، لذلك يختلف ابن القرية عن ابن المدينة، وابن المدينة الناهضة يختلف عن ابن المدينة الواصلة، وابن هذه الأخيرة يختلف بقدر ما تضاف إليه تلك المدينة. فبعض المدن تتميز بالطابع السياحي، فيكون لها انعكاس مباشر على ذهنية المتولد فيها، والمتكون من ترابها وعناصرها المتكاملة فيما بينها، أو ما استفاده من خلال وجوده في تلك المنطقة. ومثل ذلك المدينة العلمية أو الأخرى التي تحظى بصفات معينة، فكل واحدة من هذه المدن تؤتي أكلها ويكون طابعها وانعكاسها على شخصية الفرد واضحاً ومميزاً. والشواهد التاريخية تساعدنا على ذلك وتوصلنا إلى الهدف، وهي كثيرة.
فالشاعر العربي مثلاً يتحرك وفق معطيات الصحراء، على العكس من ذلك الشاعر في اليونان، الذي يستغرق في البعد الفلسفي، والأكثر من ذلك عندما تذهب إلى الشرق، إذ تجد بصمات الفلسفة الشرقية في معطيات شعره، ولو أردت استعراض الشواهد لطال بنا المقام.
فالمجتمع في ثقافته عبارة عن مجموعة من المفردات، منها أفكار المجتمع، فالأفكار تختلف من مجتمع إلى آخر، ومن منطقة إلى أخرى، بل الأكثر من ذلك أنها تختلف من أسرة إلى أسرة، فالأسرة التي نهضت ودعمت وجودها بأصحاب القلم والفكر والثقافة والدراسة الأكاديمية والدينية وأصناف الدراسات المتواجدة في عالمنا الفسيح، فلا شك أنها تشغل واقعاً وتشكل لبنةً من ذلك المكون الاجتماعي العام في بعده الفكري. وكذا الأمر في العادات، فبقدر ما تكون المجتمعات سامية وراقية بقدر ما تتوارث تلك العادات فيما بينها حتى تكون تلك الأمور من الممارسات الطبيعية التي يمارسها الفرد بعفوية صرفة، فلا يتكلفها تكلفاً. كالكرم مثلاً، فأنت تجد أن الكرم في بعض المجتمعات والدوائر والتشكلات السكنية يفرض وجوده من الطفل الصغير حتى الشيخ الكبير، بل حتى المرأة لا تكون بمنأىً عن ذلك المشهد، على العكس تماماً في بعض المجتمعات التي لا تأخذ هذه المفردة والمفهوم الإنساني الكريم (وهو الكرم) بعين الاعتبار، ولا تعطي له دوراً مميزاً ولا مساحة كافية، بحيث لا يصل إلى مستوى العادة، إنما يكون فيه شيء من التكلف والمجاراة للسلوك.
وكذلك التقاليد، وهذه تختلف عن العادات تماماً، فالعادات ربما يتبناها جماعة معينة حتى تندكّ في سلوكهم فتمارَس عفويةً من جميع أفراد المجتمع، أما التقاليد فهي من صنع صانع ويؤخذ الفرد باتجاهها، وقد يكون الصانع المؤصّل لذلك رجل دين، فتأخذ التقاليد المسار الديني، وقد يكون من أرباب الفن فتأخذ المسار الفني، وهكذا تتكثر المفردات بقدر ما يكون من الرموز الذين يوضعون على رأس السلّم ممن يرتاد ويتعاطى هذه المفاهيم والمفردات لترتبط به، وسوف نصل إلى انعكاساتها في نهاية المقام.
وهنالك أيضاً أعراف، والبعض قد يتصور أن (العادات، التقاليد، الأعراف) مترادفات لفظية، ولكن الحقيقة أن بينها حالة من الانفصال والانقطاع التام وإن حاول البعض الدمج بينها بدعوى أنها تفنُّن من أصحاب الفن.
وكذلك المهارات التي اكتسبها الإنسان، فمهارات الآباء والأجداد التي كان لها انعكاسها على المجتمع يومئذٍ، تختلف تماماً عن ممارسات ومهارات الأبناء اليوم، فأولئك كانت لهم مساحاتهم التي عمروها بالجهود الفكرية والنشاط الجسدي الكبير، فأصلوا الأمور لمساحات معينة في هذا الاتجاه، أما شبابنا اليوم فأخذوا مساراً آخر، لما للمدنية من أثر في إدارة عجلة التاريخ.
التاريخ وقصة التاريخ:
أيها الأحبة: يجب أن ننتبه إلى أمر مهم، وهو أن هناك خلطاً كبيراً يقع فيه الكثير من الكتاب وحتى النقّاد مع شديد الأسف، ونتعاطاه نحنُ أيضاً دون أن نشعر. فلدينا (تاريخ) ولدينا (قصة التاريخ) وهنالك فرق بينهما، فقصة التاريخ هي ما تقضّى من حدث، أما (التاريخ) فهو التاريخ المصنوع. فنحن في هذا اليوم لا يُكتب لنا تاريخ، إنما نحن نصنع التاريخ، ونترك الأمر لمن يأتي بعدنا ليكتب التاريخ الذي صنعناه بأيدينا. لذلك علينا أن ننظر إلى ما نقدمه للإنسان بما هو إنسان يعيش على هذا الكوكب الذي نعيش عليه، لأننا سوف نُقرأ بعد عشرات من السنين أو قرون من الزمن.
والتاريخ ينبغي أن يكون مشرقاً معطاءً صافياً من كل كدر، وأن نتجاوز تلك الإخفاقات التي وقع فيها من تقدمنا من الأجيال التي نقرأ اليوم قصة تاريخها فلا نقدم ولا نؤخر من تاريخهم ولو مفردة واحدة.
من هنا فإن الولوج في تاريخ الماضين ينبغي أن يكون بحذر، ولا يُفصل من ظرفه الزماني أو المكاني أو الحيثي، لأننا إذا فصلنا بين هذه المفردات الثلاث، وبين التاريخ الذي نقرأه على نحو القصة، عندئذٍ سنكون ممن شارك في المؤامرة على بعثرة ووأد التاريخ الذي بذل فيه المتقدمون الشيء الكثير، سواء كان ذلك التاريخ يعنى بالجانب الديني من رسالات الأنبياء والأوصياء ومن على نهجهم، أم الجانب المدني والحضارة المدنية التي بذل فيها الإنسان الكثير من الجهد، ولا يمكن لأحد أن يقلل من قيمة وأهمية الدور الذي يقوم به أرباب العلم والمعرفة والأدب في تقديم مسيرة الإنسان. صحيح أن رجل الدين يشكل جزءاً مهماً من النسيج العام، ولكن متى ما خرج من محيطه كان أشبه بالسمكة التي تخرج من البحر، إذ ليس هنالك سوى الموت.
لذلك يجب على كل فرد أن لا ينفصل عن محيطه ومجتمعه، لأن المجتمع يعني مجموعة من المفردات المتكثرة التي تجتمع فيما بينها لتشكل ثقافة تبنى عليها حضارة، وكلنا شركاء في هذا المسار. فمتى ما حاول أن ينفرد رجل الدين أو الأكاديمي أو غيرهما، فعلينا جميعاً أن نقرأ على أنفسنا السلام، لأننا في زورق واحد، فإن غرق فسوف نغرق جميعاً.
أضف إلى ذلك القيمة، وقد تحدثت عنها كثيراً، ولن أقف عندها أكثر من إشارة بسيطة. فالقيمة تعني فيما تعنيه الثمن والمقابل، فلكل شيء قيمته.
أيها الشباب: كل ما يطرق أسماعنا، أو يقع عليه بصرنا، علينا أن نتأمل فيه مهما كان متناهياً في الصغر، والقرآن يدعونا لذلك، قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرَاً يَرَهُ ~ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهُ﴾([6])، فهذا المكون والأثر الصغير في الخارج له أثره، وما نفعله نحن هو على سبيل الاعتبار، سواء كان معتبراً من قبل العرف الخاص أو العام، أم من قبل الشرع والقانون. فما من أمر اعتباري إلا وله أثر في أمر تكويني، وقس على هذه الحقيقة جميع مجريات الحياة من حولنا: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوْا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾([7]) فالبداية من هنا، أي من داخلنا، فمتى ما أصلحنا داخلنا استطعنا أن نحدث التغيير في المحيط الخارجي، وإلا سوف نبقى نراوح مكاننا ولا نتعداه.
التصادم الاجتماعي والتربية:
يقال: أن ثمة علاقة جدلية بين المسار التربوي والهاجس الاجتماعي، والعلاقة الجدلية تعني الشد والجذب، والمد والجزر. وهذه الحالة قد تصل ببعض المجتمعات إلى حدّ التصادم، وهذا التصادم يحدث بسبب تخلي أحد الطرفين عن شيء في سبيل اللاشيء، لذلك تجد أن من يتحرك تحت هذا العنوان له أثر سلبي قوي في الأمة، متى ما كان قادراً على التأثير، أما المسلوب الصلاحية الذي ليس بيده أن يقدم أو يؤخر فهو لا يقدم ولا يؤخر فعلاً، لأنه سالب بانتفاء الموضوع، أما من بيده القرار ويستطيع أن يقدم أو يؤخر، خصوصاً إذا كان قد جرب في أكثر من موقع وموطن وأحدث تغييراً، فيلزمه الواقع والمسؤولية الشرعية والعرفية والشخصية والاجتماعية والدينية والإنسانية أن يقوم بدوره، وإن كلفه ذلك أغلى الأثمان، ولنا في سيرة الأئمة (ع) خير دليل.
فالإمام الحسين (ع) الذي عشنا ذكرى شهادته كان بهذا المستوى، فلم يكن معه من أنصاره وأهل بيته سوى أقل من مائة شخص، فيما تذكر الروايات التاريخية أن أقل عدد وصل إلى كربلاء في المعسكر الآخر كان أربعة آلاف، فيما ذكر بعضها أنه وصل إلى سبعين ألفاً. وليكن العدد أربعة آلاف، فهو عدد كبير جداً في مقابل مائة ألف، فيهم الكبير الطاعن في السن الذي يشد حاجبيه بعصابة، وفيهم الطفل الصغير، فمن قتل من الأطفال في كربلاء يصل حدود الثلث من عدد القتلى الكلي، وقد ذهب هؤلاء تحت سنابك الخيول، أو التهمتهم النيران، أو قتلوا بالسهام أو غيرها. إلا أن الإمام الحسين (ع) مع قلة العدد وخذلان الناصر، لم يعط الدنية من نفسه أمام هذا المشهد، ولم تكن مسيرته بهذا الاتجاه، إنما كان يرى أنه يحمل مسؤولية شرعية، وأنه تحرك من أجل الإصلاح في هذه الأمة التي تردى وضعها وانقلبت على المفاهيم التي حاول النبي (ص) أن يغرسها في وسط الأمة، على أن لا تتخلى عنها وتتنكب الطريق، ولكن مع شديد الأسف حصل الانقلاب الكبير في الأمة خلال هذه الفترة من الزمن من عمر الإمام الحسين (ع). فكان تكليفه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
تصوروا لو أن الإمام الحسين (ع) لما التقى بالحر بن يزيد الرياحي لوى عنان فرسه ورجع من حيث أتى، فهل كان الحر يتركه؟ لقد كان الحر مأموراً بقتل الحسين (ع) إن لم يمتثل لأوامره، وهي أن لا يذهب إلى الكوفة ولا يعود من حيث أتى، إلا أن الإمام الحسين (ع) اقترح حلاً ثالثاً وهو أن يسلك طريقاً لا يدخله الكوفة ولا يعيده إلى المدينة، وبذلك لم يطع الحر ولم يمتثل لأوامره، وفي الوقت نفسه لم يتخلَّ عما أراد من أهداف، وإن كان الثمن باهضاً.
وهنا نقف قليلاً مع فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي خرج الإمام الحسين (ع) من أجل تحقيقها، فنقول: إن أي مكلف أراد اليوم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإن ذلك لن يكلفه أكثر مما كلف الإمام الحسين (ع) بأن يقتل هو وأبناؤه وإخوته وأبناء إخوته وأنصاره، ويفرق بين رأسه وجسده، وهو أطهر رأس في وقته على وجه الأرض، ويوطأ جسده بالخيل، وتسبى عياله، وتسحق الأطفال تحت سنابك الخيول، وتفرى لحومها فرياً، إلا أن شعار الإصلاح لدى الحسين (ع) أرفع من ذلك كله.
فالتصادم بين هذين المفهومين يوصلنا إلى هذه النتائج الكارثية في وسط الأمة، فنرى المنكر بأعيننا ولا يعنينا، ويروَّج للمنكر فلا يعنينا، بل على العكس من ذلك، لو سمعنا عالماً أو مفكراً أو غيرهما يتمرد على أسلوب خاطئ أو سلوك خاطئ في جهة معينة فإننا نصطف بالضد منه إلى جانب مناوئيه.
إن علم التاريخ التربوي هو الذي يبين لنا أهمية تلك العلاقة وانعكاساتها، لذلك أعيد وأكرر قائلاً: أيها الشباب، اقرأوا، وأكثروا من القراءة، واجعلوها توأم مأكلكم ومشربكم ومنامكم ويقظتكم، وبمستوى أولويات الأهداف التي رسمتموها من أجل الوصول إليها. فالقراءة مفتاح التطور والتقدم والوصول إلى الأهداف.
هذا العلم إذا ما تسلحنا به كان العامل الأساس في كشف حركة المجتمع وتفاعلاته وما له من تأثير في التربية في الخارج، ولا يتصور أحدنا أنه أنهى الدراسة الجامعية ثم عمل في وظيفة وانتهى الأمر، فما هو المانع أن تقرأ وتتقدم وتتطور؟ فالمسارات اليوم مفتوحة، والأمور متيسرة لنا والحمد لله، فهنالك اليوم قبائل على حدودنا وليست بعيدة عنا، تبذل الأموال الطائلة في سبيل أن يصل بعض أبنائها إلى مقامات علمية متقدمة رغم أنهم لا يأملون من ذلك منصباً أو وظيفة أبداً. فوجود شخص أو أشخاص في العائلة يصلون إلى مقامات علمية أكاديمية ورمزية متقدمة له انعكاسات إيجابية على النشء، وهذا أمر واضح، فعندما يسمع الابن أو البنت أن عمه أو خاله أو أحد أفراد عائلته وصل إلى مقام علمي متقدم، وأصبح رمزاً من رموز العائلة، فلا شك أنه يشعر بالسعادة، وسوف يكون لذلك انعكاس إيجابي على شخصيته. لذلك تجد في المجتمعات عوائل علمية دينية، وأخرى أدبية، ورأسمالية، وهكذا؛ لأن تعدد الرموز في العائلة الواحدة من نفس الطيف يجعلها تحت عنوان واحد، وهذا ممكن أن يحدث في جميع الأسر والعوائل.
يقول الإمام الحسين (ع): لطلب الإصلاح في أمة جدي. فقد بعث النبي (ص) للبشرية، لكن المسلمين ضيقوا دائرته وجعلوه في حدود المسلمين فقط، وإلا فإنه رحمة للعامين وكافة للناس.
أهمية علم التربية:
إن هذا العلم يأخذ بأيدينا إلى مسارين:
الأول: المناهج والأهداف، فالبعض منا ليست لديه منهجية يسير عليها، ولم يرسم لنفسه أهدافاً ليصل إليها، فتراه يتخبط في حياته. ومع شديد الأسف حتى بعض الشباب الجامعي أصبح اليوم في هذا الميدان من الهوس، فتراه يخضع لرغبات والده في التوجه المنهجي، ثم يقضي من مسيرته سنة أو سنتين، وفي نهاية المطاف يعزف عن تلك المسيرة ويرى أنه غير منسجم معها، فيكون قد خسر من عمره تلك السنين بسبب المجاملة، وكان عليه أن يرى ما هي مواهبه وإمكانياته وقدراته ويضع المنهج الذي يسير عليه وفقها، ولا بد أن يكون الهدف مرسوماً مسبقاً، ثم يبذل الجهد المطلوب للوصول للهدف.
الثاني: أننا يجب أن نحل المشاكل بالعلم، ومتى ما رفعنا أيدينا عن ذلك تخلفنا وسقطنا.
دور التربية الأسرية:
من هنا كانت التربية الأسرية على رأس التربية في مقسمها العام. فلدينا نوعان من التربية، أحدهما داخل الأسرة، والأخرى خارجها، فالتربية الأسرية مهمة جداً، وهي تبدأ من حين الصغر، فأول لبنة توضع في التربية تكون في مرحلة الصغر، ولو أننا التفتنا إلى هذه الحيثية لأمكننا أن نواكب معطيات مدرسة أهل البيت (ع) ومدرسة الإسلام الأصيل المتمثلة بالقرآن الكريم المنزل على قلب الحبيب المصطفى محمد (ص).
وتتمثل التربية الأسرية في تلك المرحلة بالشريكة الصالحة، والزوجة الصالحة لها أكبر الأثر في تكوين الأبناء الصالحين.
يقول الحبيب المصطفى (ص): «إياكم وخضراء الدمن. قيل: يا رسول الله، وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء»([8]).
وكذا الحال في الرضاعة والتغذية، يقول: «لا تسترضعوا الحمقاء، فإن اللبن يُعدي»([9]).
ومما يدخل في هذا الباب تحسين الاسم، يقول (ص) لعلي (ع): «حق الولد على والده أن يحسن اسمه وأدبه ويضعه موضعاً صالحاً»([10]). ولو أننا فتشنا الأسماء شرقاً وغرباً، ما وجدنا أفضل مما تسمى به محمد وآل محمد (ع). ومن يتصور أنه إذا ما سمى ابنه ببعض تلك الأسماء فإن مسيرته العلمية أو التعليمية سوف تتعرقل فإنه يسيء الظن بالله أولاً، ثم بنفسه. فقد كان الدكتور صادق العمران (رحمه الله) استشارياً، واسمه (صادق) وهو شذرة من شذرات الأحساء الطيبة، وقد أوصله مستواه العلمي إلى ما وصل إليه، وفرض وجوده في الواقع. فمن أقبح الأمور أن تجعل من الآخرين شماعة في التبرير للإخفاقات، والتنصل من المسؤولية في تحمل الخطأ، فمن كان له الغنم فعليه الغرم.
الشهيد المطهري وتهذيب الشعائر:
كنت قد ذكرت في الأسبوع الماضي كلاماً للشهيد المطهري (رحمه الله) حول قضية الإمام الحسين (ع) وأن إحدى المؤامرات على القضية الحسينية هي المؤامرة الداخلية، وهي الصورة الثالثة من صور القتل التي تعرض لها الإمام الحسين (ع). فهذا الصنف من القتل لا يقل خطراً على ثقافتنا وعلى أجيالنا القادمة وبنائنا من القتل الأموي أو التشويه الأموي أيضاً، وذلك من خلال تشويه القضية بالدخيل المشوه من الموروث والمدسوس على أيدي من ينتمي للحسين (ع).
وقد يتحسس البعض وينزعج عندما نذكر مفردة (الصفوية) ولكن علينا أن لا ننزعج ولا نتحسس من ذلك، لأن تلك الدولة بقدر ما أعطتنا أخذت منا أيضاً، وبقدر ما بنت لنا بقدر ما هدمت على رؤوسنا، وأنا مستعد أن أقول هذا الكلام وأن أدفع ضريبته. فنحن إلى اليوم لا توجد لدينا الجرأة والاستعداد في قراءة منتوج الدولة الصفوية.
إنكم ترون اليوم ما يبث في الكثير من الفضائيات، فهل هذه المشاهد مريحة ومناسبة؟ وسوف تتطور الأمور إلى ما هو أسوأ، وقد ذكرت هنا قبل سنوات أننا في نهاية المطاف سوف نقدم الأطفال قرابين باسم الشعائر الحسينية، كما كان يحصل في المعابد الإغريقية والفرعونية والهندية وغيرها من تقديم القرابين للآلهة، وقد بدأت الخطوة الأولى عندنا بجرح رؤوس الأطفال، وسوف تصل إلى مرحلة الذبح في المستقبل، بذريعة أن الحسين (ع) قدم ابنه الرضيع قرباناً في سبيل الله تعالى، ولو أنه شاء أن يحفظه لتركه عند أمه أو عمته زينب، وأنهم يفعلون ذلك أسوةً بالحسين (ع).
فإن لم تتدخل المرجعيات العظمى فسوف تصبح الأمور أشد سوءاً، ونحن لا نعلّم المرجعية تكليفها إلا أننا من حقنا أن نشير إلى موقع الخطر، ونحذر منه، وأتمنى أن لا ينزعج من هذا الكلام أصحاب العقليات الضيقة جداً، الذين لا يعنيني أمرهم كثيراً. فما لم تتدخل المرجعيات العظمى، وكذلك أصحاب الحل والعقد، وما لم تنهض الأمة من كبوتها، وتعي وتقرأ ما وراء السطور وماذا يراد بها، فسوف نذهب إلى منحدر خطير جداً. فما يحصل اليوم لا يمكن السكوت عنه. فلم تقف الأمور عند التطبير وشق الرؤوس، إنما تجاوزت إلى الزحف على الأرض، وتقطيع لحم الخدين، وهو عزاء جديد ظهر في مدينة مشهد، وذلك بوضع الخدود على الأرض وسحبها حتى يزول اللحم ويبين العظم، والإدماء المبالغ فيه، وتطبير النساء كاشفات، وقد طبّرت الكثير من النساء في النبطية في لبنان حاسرات ومرت الأمور برداً وسلاماً على قلوب أصحاب الشأن.
والأنكى من ذلك أنني كنت أتحدث عن طريق الوتسب مع أحدهم، ممن له ميزانه ومعياره، وقد أضطر ذات يوم أن أذكر اسمه، فكان يبرر هذا الفعل ويقول: لا بأس بذلك، لأن الإنسان عندما يصاب بالذهول يكون خارج دائرة التكليف!! وهذا الكلام منه من حبائل إبليس بلا أدنى شك.
أما مواكب (التكليب) فلا أحد يلوم عامة الناس إذا كان بعض المراجع يحمي هذا التصرف، ويقول بشكل صريح: من لا يرى هذه الأمور فهو أموي، أو يقول: من لا يرى ذلك فهو في قعر جهنم! يا سبحان الله! وكأنه يمتلك مفاتيح الجنة بيديه ويمنحها لمن يشاء.
نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.