نص خطبة: قراءة في العمق الشيعي

نص خطبة: قراءة في العمق الشيعي

عدد الزوار: 1970

2015-06-26

أسس الثقافة الإسلامية:

في الحديث الشريف عن الإمام الباقر (ع) عن جده رسول الله محمد (ص): «لا تزول قدم عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأله عن أربع: عمره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن حبنا أهل البيت»([2]).

بارك الله لنا ولكم هذا الشهر الفضيل، وتقبل الله منا ومنكم الطاعات، صياماً وقياماً، وسلم الله المؤمنين والمسلمين عامة في كل مكان، وجعل هذا البلد آمناً مطمئناً.

أمام الإنسان في هذه الحياة الكثير من المفترقات، ربما تتشعب به الطرق فيضل في مسيرته، وربما يحكم توجيه البوصلة فيصل إلى الهدف من أقصر طرقه.

ومذهب أهل البيت (ع) ذلك المذهب الإسلامي الكبير الذي يستمدُّ أصوله من خلال ما صدر عن النبي (ص) وحياً في كتاب كريم هو القرآن المجيد، أو سنةً مطهرةً وصلت إلينا عبر طرق معتبرة بعد تمحيصٍ، شريطةَ أن لا تتعارض مع الأصل الذي نعرض كل شيء عليه، ألا وهو القرآن الكريم.

وربما يعتقد بعض الباحثين والعلماء أن الرواية إذا ما وصلت إلى حد التواتر، فلا مجال للنقاش فيها، لأنها قطعية الصدور، حال أن المساحة فيها للباحث متاحةً إذا ما أراد. وهناك الكثير من النصوص تحظى بصفة التواتر إلا أنها تصطدم مع أبسط البديهيات والمسلمات الاعتقادية، فليس بالضرورة أن تُكسِب الكثرةُ النص حجيةً، إنما هي تنبع من خلال الثوابت والقواعد والأصول التي أسسها أهل البيت (ع) وثبتها وسار بها إلى مسافات بعيدة العلماء المخلصون الصالحون الواعون.

التعاطي مع الآخر:

(نحن والآخر) إشكالية قائمةٌ منذ اليوم الأول: ماذا نريد منه؟ وماذا يريد منا؟ حال أن هذا التقسيم لا يعني أننا أطراف متقابلة، إنما التلاعب في الكثير من المفردات استوجب منا أن نقول: نحن وهم، حال أن المشتركات كثيرة، بل من الكثرة بمكان بحيث لا يوفق الكثير من الناس للوقوف عليها كلها، إنما يقف عند بعضها.

فنحن نلتقي في إله واحد، وكفى به قاسماً مشتركاً بين بني البشر. ويجمعنا دين واحد أصوله واحدة لدى كل فريق من المسلمين، وكفى بالإسلام عاصماً للدم والمال والعرض. كما أننا نرتبط بقبلةٍ واحدة، فليس هنالك مسلم يستدبر القبلة ويصلي، أو يضعها عن يمينه أو شماله، إنما هي القبلة التي ارتضاها الله لعباده: ﴿وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوْا وُجُوْهَكُمْ شَطْرَهُ([3]). وكفى بالقبلة الشريفة أن تكون عاصمة لنا من التشرذم والشتات.

كما أن النبي الذي أُرسل للأمة منقذاً ومصلحاً ومرشداً وهادياً، هو نبي ختمت به مسيرة الأنبياء والرسل، لأنه الأشرف والأكمل، وهو النبي الأعظم محمد (ص). والنبي (ص) في إنسانيته وخصوصيته يكفينا جميعاً أن نتحلّق من حوله لنزرع بذور السلام والمحبة، وأن ننتزع الغلّ الذي سيطر على بعض النفوس المريضة التي جهلت أبسط مبادئ الإسلام، وهو الرسالة التي لم تأت إلا بالمحبة والسلام والسماحة. وهذه القضية ينبغي أن يلتفت إليها الجميع.

لذا نرى أن سماحة السيد المرجع (حفظه الله وأيده وأطال في عمره الشريف) عندما يصل إلى هذه المحاولة من التقسيم ـ التي أفرزها زرعٌ هنا أو هناك، لم يكن يانع الثمر إنما كان مراً زعافاً ـ يقول: لا تقولوا إخوتنا، بل هم أنفسنا.

إننا نسير عن نهج وصراط اختطه أئمتنا (ع) من منطلقات الوحي والسنة المطهرة، وسافر به علماؤنا البررة، حتى استقر بين أيدينا. فمن كان يرغب أن يركب سفينة أخرى فالبحار مشرعة، وبمقدوره أن يصعد في أي سفينة شاء ويبحر. أما من أراد أن يأخذ الحق والحقيقة من أهلها فمنتزعنا واحد، والعلماء الصالحون أمناء على الأمة في زمن الغيبة. وهذا مختصر ما أداه أئمتنا عن جدهم النبي الأعظم (ص).

أسباب التقسيم الطائفي:

إذن، ما أسباب هذه الحالة من التقسيم؟

هناك العديد من العوامل، أهمها:

1 ـ غياب الحقيقة بين الفريقين: فلأن الحقيقة بين الفريقين غائبة، أو مغيبة بفعل السلطات التي تناوبت على أبناء الأمة منذ غياب النبي (ص) لا سيما ما تمثل منها بالدولتين الأموية والعباسية، فقد حصل هذا التقسيم. ولو أنك تتبعت الأمر في أي موقع من مواقع السلطات لوجدت أنك تضع يدك على جرح نازف، يستحيل أن يقف نزفه ما لم تحكم البصيرة الأمور في جميع المسارات.

فغياب الحقيقة أمر بيّن، وتغييبها أكثر وضوحاً وبياناً، لأن الغياب معلول للتغييب.

وقد نهضت عبر مسيرة المسلمين قاماتٌ سامقة أرادت أن تفتح العقول من حولها، ولكن اعتُرضت مسيرتها، وأُسقط مشروعها، وتمت ملاحقتها في كل حجر ومدر، لأنها تصطدم مع شيء واحد، هو المكاسب، المضافة للذات أو الفريق والتحزب، وإلا فإن من يحمل مشعل نور يستضيء به الناس، وهدى يتبصّرون أمورهم على أساسه، فلا يدير ظهره له إلا من أصيب بلوث في عقله، وظلمة حاجبة في قلبه.

2 ـ عدم الرغبة في تحصيل الحقيقة: وهذا مرض فتاك، بدأ يغادر منطقة الارتكاز ليتفرع على جميع نواحيها. وأنتم تعلمون أن أضيق المناطق هي منطقة الارتكاز، فإذا ما اتسعت أخذت أبعاداً كثيرة مترامية الأطراف. وهذا ما نعيشه عندما لا تكون الرغبة جادة في التعرف على الحقيقة، لا في الشأن الديني فقط، إنما في الشأن الأمني والاقتصادي والفكري والاجتماعي والأسري والصحي وغيرها. ولكن في واقع الدين والمعتقد يكون ذلك هو الأمر الأهم والأكثر خطورة، لقابليته للترشح على جميع الأطراف.

3 ـ عدم الرغبة في ترتيب الآثار بعد معرفة الحقيقة: فعلى فرض أن الحقيقة باتت جلية، وأن الرغبة في الوصول إليها كانت موجودة، لكن الرغبة في ترتيب الآثار على ذلك مفقودة، وهذه واحدة من أهم الإشكاليات، فكثيراً ما نعرف الحقيقة ونصل إليها، ونرغب في التمسك بها، لكننا لا نرتب آثاراً عليها، فالحقيقة تعني الحب، لكننا نُشيع الكراهية، والحقيقة تبعث نحو صون الدم والمال والعرض، لكن العكس هو ما يحصل. فعدم وجود الرغبة في ترتيب الآثار عليها، هو ما يدخلنا في هذه المجموعة من الأنفاق المظلمة.

دوائر الحقيقة:

إن مساحات الحقيقة كثيرة، منها:

1 ـ شتات الدراسات التاريخية: فكم عمل كتّاب التاريخ على تمزيق الأمة! بعضهم بدافع شخصي، وبعضهم لتوجه وانتماء حركي، وبعضهم لوقوعه في دائرة التسييس من هنا أو هناك.

2 ـ النسيج الاجتماعي: ففي يوم من الأيام كان النسيج الاجتماعي يمثل الرافد الأول للتشريع، في تصحيح مسار الأمة فيما بين أبنائها، في منظوماتها الخاصة والعامة، لكنها ـ مع شديد الأسف ـ عندما تفرقت إلى مناطق هنا أو هناك، وصلنا إلى ما وصلنا إليه نحن اليوم، ونسأل الله تعالى أن لا تطول الحالة بنا.

3 ـ التسييس: فعندما تتدخل السياسة في جميع مفاصل الأمة فلا شك أن الأمة سوف تضيع، لأن السياسي مها كان، فإنه لا يحظى بعصمة، وحيث إنه يتعاطى مع نتاج بشري يرتب عليه الآثار، فحكمه من الموفقية وعدمها بقدر ما قدم من مقدمات واستخلص من نتائج. لذلك نجد في الكثير من المشاهد عبر مفاصل التاريخ، أن هذه القضية ثابتة وحاكمة.

4 ـ المنتديات الدينية: التي تعمل أحياناً على تغييب الحقيقة، فلأنني أنتمي للطائفة الفلانية، فلا أحسب نقاط الكمال عند الطرف الآخر كمالاً، والعكس صحيح. فهل أن منشأ ذلك هو الرغبة في تحصيل الحقيقة وترتيب الآثار عليها؟ أو أن ثمة نوازع نفسية تتشاطر الأشخاص في أكثر من مكان رغبة في جلب منافع معينة؟ مع أن تلك المنافع لن تدوم طويلاً، لأن ما أُسس على باطل لا ينتج إلا الباطل.

التشيع ومسارات الرفض:

هناك الكثير من العوامل المهمة لا بد من ملاحظاتها في مسارنا، ومنها:

1 ـ الشعور بالإقصاء:

إن شعور المنتمي لمدرسة أهل البيت (ع) بالإقصاء يدفعه للانطواء على نفسه، والأمور بحساباتها تختلف من موقع إلى موقع، ولو في البلد الواحد، فضلاً عن بلدان متعددة. فعدد الدول الإسلامية اليوم يصل إلى أكثر من أربعين دولة، ولا شك أن المسلم في هذه الدول يختلف في تعاطيه مع فروضه ومعتقداته وشعائره من موقع إلى موقع آخر. فشعوره في بعض المواقع بالإقصاء وعدم القدرة على الممارسة الواقعية لما يريد، ربما تنمي لديه حساً وشعوراً  بضرورة الانغلاق على النفس، ونحن نعلم أن الانغلاق على النفس أكثر ضرراً من الانفتاح على الطرفين.

لذا من الجميل أن نكون واضحين في حدود ما يسوقه الدليل، مع حفظ واحترام وتقدير جميع الرموز عند الطوائف الأخرى. ولا نعني بكلامنا هذا طائفة بذاتها، إنما هي جميع طوائف الإسلام.

2 ـ تضعيف الصف الواحد: فنحن أتباع مدرسة واحدة، لكننا بين مشرّق ومغرّب، وثمة شمال وجنوب، ومعتقد وغير معتقد، بل وصل بنا الحال أن نصف فلاناً بأنه ذو عقيدة، وفلاناً بأنه ليست لديه عقيدة!

بل يُذكر أحد المراجع في شهر رمضان المبارك في أحد المجالس فيقول أحدهم: لا يجوز الترحم عليه! في حين أن هذا شهر الرحمة.

3 ـ الخوف من القادم: إن الضعيف يخاف دوماً، أما من يعيش الثقة في نفسه فلا يخشى شيئاً، فإنما هي خاتمة واحدة، وما هي إلا حياة وعمر نقضية، ثم ننتهي أن نكون بين يدي عزيز مقتدر، رحمان رحيم.

ما هو الحل؟

يتمثل الحل في العديد من الممارسات والفعاليات، ومنها:

1 ـ الرجوع إلى المصادر الأصيلة لدى أتباع كل طائفة: فنحن نعرف أن الموروث السني فيه الكثير من الدغش، وكذلك الموروث الشيعي، وحيث إن الدغش هنا أو هناك، فإننا نلتمس من أركان الطائفة والطائفة الأخرى، والطوائف من حولنا، ورموزها، أن يفعّلوا هذا الجانب، وهو (غربلة الموروث)، فنحن لا نريد أن ننسف موروثاً عندنا أو عند الآخر، وإلا فإننا ننسف الطوائف، عندنا أو عند الآخر، إنما نريد أن نصل إلى حالة يحترم على أساسها كلٌّ منا أخاه. فالله تعالى يقول: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُوْنَ إِخْوَةٌ([4]). ويقول: ﴿وَاعْتَصِمُوْا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيْعَاً وَلَا تَفَرَّقُوْا([5]).  

2ـ القراءة الميدانية: المبتنية على الأسس الحديثة التي وضعت اليوم، كي تتقلص مسافات الافتراق. تصوروا أننا كنا نعمل في يوم من الأيام على أن يكون جمع المصلين في مساجدنا خليطاً من أبناء العامة والخاصة، الشيعة والسنة، ولكن تحول الحال إلى ما نحن عليه، وهو ما لا نرغبه، ولا نريده، ولعن الله من تسبب فيه كائناً من كان، ونسأل الله أن لا تدوم هذه الحالة، وأن يأتي اليوم الذي نعيش في أجواءً لا نفرق فيها بين من يأتي لهذا المسجد أو ذاك، دون أن ينظر ما إذا كان هذا المسجد لتلك الطائفة أو لهذا المذهب، إنما يؤدي صلاته في أمن وأمان ومحبة. وهذه هي الحياة الطيبة السعيدة الكريمة.

3 ـ الابتعاد عن حالة التجريم: فعلينا أن نستبدل حالة التجريم فيما بيننا، إلى حالة الواقعية والحقيقة التي بدأنا بها، فنحن لا نقدس إلا من قدس الله، وهم أشخاص معدودون، وكل ما عداهم إنما هو في دائرة الاستفهام، بل وحتى الاستنكار عليه إذا ما ابتعد عن دائرة الحق.

نسأله تعالى أن يكتب لنا ولكم التوفيق، ويجعلنا وإياكم من الصائمين القائمين، وأن يتقبل الأعمال منا ومنكم، وأن يعيد الشهر علينا وعليكم، وأن يُتمَّه على المسلمين وهم في أحسن حال مما هم عليه، وأن يحفظ بلادنا ويجعلها آمنة مطمئنة، وأن يقطع دابر هذه الفئة الفتنوية، صاحبة شعار الضلال، وأن يرد كيدها في نحرها، ويسلّم جميع بلاد المسلمين، وأن يحفظ المسلمين أينما كانوا.

نسأله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.