نص خطبة قراءة جديدة لولاية العهد للإمام الرضا (ع)

نص خطبة قراءة جديدة لولاية العهد للإمام الرضا (ع)

عدد الزوار: 1128

2017-08-16

الجمعة 1438/11/18هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (ع) قال: «من دعا ولم يذكر النبي (ص) رفرف الدعاء على رأسه، فإذا ذكر النبي (ص) رفع الدعاء»([2]).

وفي حديث آخر عنهم (ع): «من شك أو ظن فأقام على أحدهما، أحبط الله عمله، إن حجة الله هي الحجة الواضحة»([3]).

ولادة الإمام الرضا (ع):

في الأسبوع المتصرّم عشنا ذكرى ولادة الإمام الثامن الضامن، أوصلنا الله تعالى إلى ضريحه الطاهر، وهي حياة لا يمكن لأحد أن يختصرها ضمن حدود دائرة ضيقة أو مفردة واحدة ثم يقول: هذه حياة الإمام الرضا (ع) لأن حياته (ع) يمكن أن نقرأ من خلالها حياة المعصومين، من تقدمه من آبائه وأجداده ومن لحقه من أبنائه (ع) حيث كانت حياته ملأى بالكثير من المسارات التي تختزل لنا الكثير من المسافات التي مُلئت بالكثير من العطاءات من المعصومين (ع).

نقف هنا مع الإمام الرضا (ع) وصناعة الهدف عبر مسارات الحياة، فلكل إمام بطاقة عمل، يتلقاها من السماء بواسطة الآباء والأجداد، عن النبي محمد (ص) ليسعى في تطبيقها قدر إمكانه وما تأتّى له من المساحة.

حكمة الإصلاح في حياة الأئمة (ع):  

والأئمة (ع) كانوا يعيشون المرحلة بما هي هي مضافة لهم، فتكون إشراقاتهم على تلك المساحة واضحة وبينة، فلم يبخلوا بشيء من قول أو فعل، حتى وإن كلفهم ذلك حياتهم، كما هو الحال في المشهد الواضح الجلي للإمام علي (ع) الذي لم يؤثر السلام لنفسه، إنما أراد سلماً مدنياً عاماً يشمل جميع الناس من حوله، فالناس إما شريك لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، فأراد أن يبسط العدالة بين جميع أفراد المجتمع. وفي النهاية قُتل، لأن الذين لا يرغبون في العدالة العامة ولا في السعادة للإنسان بما هو إنسان هم من الكثرة بمكان، ولا يخلو منهم زمان من الأزمنة. نعم، هم يعيشون مداً وجزراً، ويتحركون أحياناً في الهواء الطلق عندما يجدون الثغرات التي ينفذون من خلالها والمتبنَّي الذي يحتضنهم، وأحياناً أخرى على  العكس من ذلك تماماً، فهم يكمنون كما تكمن الخفافيش نهاراً، ليطلقوا لأجنحتهم العنان ليلاً، فيتركوا هنا ما يتركون وراءهم، كما يتركون هناك ما يتركون.

والإمام الحسين (ع) أيضاً حمل لواء الإصلاح بالكلمة، ابتداءً من المدينة المنورة حتى مكة المكرمة، إلى أن عقد العزم على مغادرة الديار المقدسة والتوجه صوب العراق. وفي العراق بقي حتى الرمق الأخير يدعو بالكلمة، ويشجب موقف الطرف الآخر. فكان يقول: «وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم أعراباً كما تزعمون». ويقول: «لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا ظالماً لا مفسداً، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي». فلماذا ذهبت الأمور في اتجاه آخر؟

الجواب: إن صوت العقل مصادَر دائماً ومحارب، ولا يراد له أن يشق طريقه في آحاد الأمة، لأن من يدفعون الضرائب جراء العقل والتعقل والتنور وعيش الواقع كثيرون أيضاً، ومن تذهب مصالحهم أدراج الرياح عندما توقد في رأس كل إنسان جذوةٌ منهم، تحرك عقله داخله كثيرون أيضاً، أي أن المصالح بات يطوى البساط من تحت أقدام أصحابها. وهذا من المسلّمات، لذا فإن النتيجة طبيعية بأن يُقتل الإمام الحسين (ع) في ذلك المشهد المأساوي المرّ، الذي لم يحدثنا التاريخ بمثله رغم فظاعة الأحداث التي تلفّ العالم شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً.

الظرف، الواقعية، التشخيص:

إن الكلمة هي الوسيلة الأكثر نفاذاً متى ما وجدت عقولاً نيرة، لأنها الوسيلة والواسطة في نقل المعلومة، وقدحها في ذهن المتلقي. لذلك عندما تكمم الأفواه، ويحاصر البعض، سواء كان من مؤسسة رسمية أو دينية أو اجتماعية أو أسرية أو غيرها، فالسبب هو قاعدة: دع ما كان كما كان، لأنه لا يجعلك تدفع ثمناً، والحصص موزعة، فإذا كان في حسبانك أن تأخذ المشهد إلى مساحة ثانية فهنا تبدأ الكارثة والمصيبة والطامة، ومن الطبيعي أن الإنسان عندما يجد الخسارة أمامه، يلوذ بما يجعله يتجنبها، وهذا ما نشهده في الواقع من حولنا.

والإمام الرضا (ع) هو من هذه الكوكبة النيرة المصطفاة من الله تعالى، والمهداة لأهل الأرض، فمشروعهم واحد، والهدف واحد، إلا أن الوسائل تختلف فيما بينهم، وهذا ما لا يعسر على الإنسان أن يقف على مفرداته، بل هي واضحة وجلية وبينة، سواء كانت للفريق الموالي أم المعارض، بدليل أنه حتى علماء الطرف الآخر لهم خطوطهم وكتاباتهم وتوجهاتهم المعينة في قراءة المشهد لكل معصوم على حدة، وما ينبغي لنا فعله أن ننفتح على كل ما هو من حولنا من نثار ثقافي من غربلة للموروث، ودراسة للتاريخ، وتحريك للنقد فيما هو موروث وما هو منتَج. فالبعض يرفع عقيرته بالنداء لغربلة الموروث، لكنه يغض الطرف في الاتجاه الآخر من غربلة الموجود، فبقدر ما نحن بحاجة لغربلة الموروث فنحن في مسيس الحاجة أيضاً لغربلة ما هو موجود مُنتَج، فاليوم لدينا منتَج يمثل تاريخاً للقادم من الأيام، وهذا ينبغي أيضاً أن نقرأه قراءة جادة، وأن نغربله كما ينبغي، كي لا نخلّف وراءنا تاريخاً أعوج، فيه الكثير من الغث، ولا نقع في ما وقع فيه أولئك الذين كتبوا التاريخ إما من خلال أقوالهم وما سطروا، أو من خلال أفعالهم وما سُطر عنهم. فعلينا أن نتحرك اليوم بهذا الاتجاه.

والإمام الرضا (ع) كان يعيش الحيادية والترقب، مراعياً الظرف والواقعية وتشخيص الحالة، فهذه الروافد الثلاثة إذا ما حركناها نحن كأناس نعيش الإمام ولياً مفترض الطاعة علينا، فسوف تكون النتائج إيجابية، وهذه سيرة المعصوم ومنهاجه ومدرسته.

وهذه العناصر الثلاثة التي أعمل فيها الآلية في ذلك الزمن هل ما زالت اليوم قادرة على أن تأخذ بأيدينا إلى ما هو المستشرَف والمأمول، أم لا؟

فالظرف الذي نعيشه له أهمية كبيرة، لأنه تحكمه مجموعة من الأمور، كالسياسة والاقتصاد والإعلام والمال والعلاقات العامة والخاصة، والمصالح المتقاطعة بين الدول والشعوب والقوميات، فهذه كلها تفرض فيما بينها أمراً من خلال إسقاط الواقعية على الظرف في عمومه، فتُقلَّص الدائرة.

أما تشخيص الحالة، فما لم يشخّص الإنسان الظرف الذي يعيشه، ويُسقط الواقعية كأمر يفرض نفسه على ذلك الظرف، فإنه لا يستطيع أن ينتقل إلى الرافد الثالث، ألا وهو تشخيص الحالة، لذلك تجد التخبط اليوم يسود جميع المساحات والأمكنة فلا السياسي قادر على أن يعيش هذا الرافد ويحركه بالاتجاه الذي ينبغي أن يصل من خلاله إلى هدفه وغايته، لذلك تكون النتائج وخيمة وفي منتهى الخطورة. ولا الاقتصادي أو الاجتماعي أيضاً أو غيرهما من الناس، إلى أصغر من يمكن أن يترك أثراً في مكون الواقعية يمكنهم أن يحدثوا شيئاً.

وهنا نخلص إلى نتيجة مفادها أننا إذا نسبنا أنفسنا إلى علي وآل علي، فهؤلاء عبارة عن فكر وسلوك وعلينا أن نتعامل مع ذلك الفكر وننصهر في بوتقته، وهذا أمر مهم أيها الشباب. فاليوم يختلف عن الأمس، والغد يختلف عن اليوم، فربما أستطيع اليوم أن أقف بين أيديكم وأتحدث، ولكن قد يأتي جيل بعد هذا اليوم، أحار معه في اختيار المفردة واقتناص المعنى، فضلاً عن إيصاله وإقناع الطرف الآخر به، فالأجيال في تقدم وتطور، وصغار السن اليوم هم رجال الغد، لكن لا بالآليات التي صنعنا ثقافتنا وما لنا وما علينا من خلاله، فهذه تختلف تماماً.

عليك أيها الأب أن تنظر إلى نفسك وما لديك من مؤهلات أكاديمية، وتقارنها بما لدى ولدك من تلك المؤهلات، وما لديك من انفتاح وتقدم وتعامل واقعي مع آليات العصر الحديث، وما أنت عليه اليوم، فستجد أن المساحة كبيرة شاسعة. فأنت اليوم في أصغر البرامج وأقلها مؤنة، وأكثرها استعمالاً، تحتاج إلى معونة طفل صغير عمره دون العشر سنوات. فلا بد أن ينقدح هذا الأمر في أذهاننا وإن كنا رجال دين أو غير ذلك، معممين أو غير معممين، بذلنا سنين من أعمارنا بحثاً وتحقيقاً ودراسةً، فيجب أن لا نتعالى على واقعنا، وأن نقبل بالواقع، فإن لم نقبل بالواقع فسوف لن نتطور، ولن نستطيع التعامل مع الناس من حولنا، وسنكون غرباء في أوساطهم ويكون حالنا حال المصاب بالصمم بين جمع من الناس.

لذلك على رجل الدين وغير رجل الدين ممن يشعر بالمسؤولية، أن يؤمن بحتمية التغيير، وأن يعيش هذه الحقيقة، ويسلّم بحتمية السعي للتغيير وتطوير الذات. فمن كان يقرأ لطبقة معينة وكاتب معين عليه أن ينتقل لمربع آخر وينوّع في قراءاته، فيقرأ العلوم والبحوث الجديدة.

الانفراج النسبي في حياة الإمام الرضا (ع):

والأمر الثاني في مسيرة الإمام الرضا (ع) حالة الانفراج: فالإمام الرضا (ع) عاش مرحلتين: شدة وغلظة من هارون، وإن كان الإمام (ع) صريح العبارة في قوله: «إن أبا جهل أتى النبي صلى الله عليه وآله فقال: أنت نبي؟ فقال: له: نعم. فقال له: أما تخاف مني؟ فقال له: إن نالني منك سوء فلست نبياً. وأنا أقول: إن نالني من هارون سوء فلست‏ بإمام‏»([4]). وقد طوى التاريخ هارون، ولم يستطع القضاء عليه، لكن الإمام (ع) تعرض للأذى الشديد منه فيما هو دون ذلك. وقد شاء الله تعالى أن يدفن هارون عند رجلي الإمام الرضا (ع) حتى قال دعبل:

قبران في طوس خير الناس كلهمُ    وقبر شرهمُ هذا من العبر

ما ينفع الرجس من قرب الزكي وما   على الزكي بقرب الرجس من ضررِ

هيهات كل امرئٍ رهنٌ بما كسبت    كلتا يديه فخذ ما شئت أو فذرِ

  فالإمام (ع) تعرض للشدة، لكنه كان في وقت الشدة يتعامل بلون، وفي وقت الرخاء بلونٍ آخر، وهذا نوع من أنواع التكيّف، لكن المهم أن تعيش الساعة التي أنت فيها بجميع معطياتها. وهذا دليل وعي وتوازن وحكمة، ودليل قراءة وإلمام بالمشهد من جميع زواياه وجوانبه.

كان هارون شديداً مع الإمام الرضا (ع) أما المأمون فكان إلى حدٍّ ما ليناً، فوضع الإمام (ع) العلامات الفارقة بين المسارين رغبةً منه في تحديد الهدف، وتوجيه البوصلة صوبه وتجاهه، وهكذا كان مراده. لذلك كان نتاج الإمام الرضا (ع) في تلك المرحلة في شدتها ورخائها فيه حالة من المزاوجة والمعادلة، ولا زالت نتائجها إلى يومنا هذا.

ولاية العهد: قراءة جديدة:

لقد قبل الإمام الرضا (ع) ولاية العهد، وهذا القبول أحدث نقلة كبيرة وغير مألوفة، فالإمام       علي (ع) كان إماماً وخليفة، آلت إليه أمور المسلمين، لكنه لم يكن ولي عهد لأحد قبله. والإمام الحسن (ع) كان إماماً، ثم تولى الخلافة ستة أشهر وأياماً، ولم يكن ولي عهد لأحد قبله، أما الإمام الرضا (ع) فقد أصبح ولي عهد لخليفة المسلمين المأمون، بحسب الاصطلاح الشائع. والمأمون قام بتقريب الإمام الرضا (ع) والإمام بالمقابل أراد من خلال قبوله بتلك الولاية إحداث النقلة النوعية واستثمارها في تثبيت العلامات التي ركزها صوب الهدف، لذلك تعتبر تلك الفترة من أكثر الفترات بركةً على أتباع مدرسة أهل البيت (ع) وذلك بفضل نفوذ رأي الإمام وحركته وواقعيته وانفتاحه والأخذ بالأيدي نحو الاتجاه الصحيح.

محاور تحرك الإمام الرضا (ع):

أما المحاور التي تحرك فيها الإمام فهي كثيرة نذكر منها:

1 ـ أنه استطاع من خلال موقعه الجديد أن يخاطب الخليفة بشكل مباشر دون واسطة ولا حاجب أو مانع. فأنت اليوم عندما تريد أن تتحدث مع جهة مسؤولة، كبرت أم صغرت، فلا شك أنك تحتاج إلى أكثر من واسطة، أما الإمام (ع) فأسقط جميع تلك الوسائط، وصار يجلس في مقابل الخليفة ويخاطبه مباشرة في مجمل ما يعني الدولة الإسلامية آنذاك، أو يعني المجتمع عموماً أو أتباع مدرسة أهل البيت (ع). ومن هنا يعد الإمام الرضا (ع) مصداقاً لمن نذر نفسه لأيتام آل محمد.  

2 ـ أن أتباع المدارس يغرد كل منهم في سربه، فأتباع مدرسة أهل البيت (ع) يغردون في مساحتهم، وأتباع المدارس الأخرى كل يغرد في سربه، فلا هذا ينتقل لذاك، ولا ذاك ينتقل لهذا، كما هو حاصل اليوم. وإن بدا عند بعضهم شيء من المرونة ولو بكلمة انقسم الشارع بشأنه بين مادح وقادح، وبين شاتم ومادح، بل لا يستطيع أن يصف عالماً بصفة العلم ما لم يكن من مدرسته، وإلا فإنه يتعرض للكثير، فلا الشيعي يستطيع أن يقول في العالم السني إنه عالم، ولا السني يستطيع أن يقول في العالم الشيعي مثل ذلك. فكان الحنبلي لا يتحمل الحنفي، والشيعي لا يطيق السني، وهكذا.

أما في حياة الإمام الرضا (ع) فكان هنالك هامش كبير للحوار بين أتباع الديانات والمذاهب، من القضاة والأعيان، فكان يجلس في صدر المجلس، ويجلس العلماء والقضاة عن يمينه أو شماله من جميع الطوائف والملل والنحل والمذاهب والتوجهات، فكانوا يتكلمون ويتحاورون ويتناقشون، وكان الإمام الرضا (ع) يعطي رأيه، وإذا قال الرضا (ع) فإنه يقول عن أبيه عن آبائه، حتى يصل إلى جده النبي مجمد (ص).  

3 ـ الجلوس مع الوزراء وأعضاء السلك (الدبلوماسي) في منظومة الدولة آنذاك: فلا يعيَّن الوزير أو غيره إلا بموافقة الإمام الرضا (ع). وما ورد في التاريخ من أن الإمام (ع) اشترط أن لا يعزل ولا ينصّب ولا يأمر ولا ينهى، ما هو إلا من حشو التاريخ وأقلام المؤرخين الذين لا يريدون أن يعيشوا الواقع، فالإمام (ع) بعد أن صار ولياً للعهد أصبح ملزماً أن يجري مراسم الدولة التي هو فيها، فلا بد أن ينصب أو يعزل أو يقرر.

لننظر اليوم إلى واقعنا على ضوء ما عاشه الإمام الرضا (ع) نجد أننا على خلاف ما كان عليه، فما من أحد منا يخطو خطوة بهذا الاتجاه إلا ويدفع دونها ألف ضريبة، فأحياناً يذهب البعض في سبيل إنقاذ فردٍ بعينه أو في حلٍّ لمشكلة تعاني العرقلة والتعقيد فلا يجد خلفه غير الهمز واللمز، في حين أن قضاء حوائج الإخوان من أقرب القربات إلى الله تعالى، وهو أهم من الطواف.

فقد ورد عن أبان بن تغلب قال: «كنت مع أبي عبد الله (ع) في الطواف، فجاء رجل من إخواني فسألني أن أمشي معه في حاجته، ففطن بي أبو عبد الله (ع) فقال: يا أبان، من هذا الرجل؟ قلت: رجل من مواليك سألني أن أذهب معه في حاجته، قال: يا أبان، اقطع طوافك وانطلق معه في حاجته فاقضها له. فقلت: إني لم أتم طوافي، قال: أَحصِ ما طفت، وانطلق معه في حاجته. فقلت: وإن كان طواف فريضة؟ فقال: نعم، وإن كان طواف فريضة. إلى أن قال: لَقضاء حاجة مؤمن خير من طواف‏ وطواف‏ حتى عد عشر أسابيع. فقلت له: جعلت فداك، فريضة أم نافلة؟ فقال: يا أبان، إنما يَسأل الله العباد عن الفرائض، لا عن النوافل»([5]).

إننا مع الأسف الشديد، عندما يتصدى أحد وجهائنا لقضاء حوائج المؤمنين أمام جهة من الجهات، فإننا نشهر السيوف على رقبته، والسياط على ظهره، ومع ذلك عندما تستجدُّ حاجةٌ لدى البعض فإنه يبحث جاهداً عمن يسعى في حاجته، ويتوسط له لدى تلك الجهات.

إنه واقع مرير، ولا أعنيكم بالذات، لكنها واحدة من المشكلات التي أعانيها في هذا المجتمع، لا سيما من بعض رجال الدين، فلا يظنَّنَّ أحدٌ أنني أُشخصن الأمور، لأنني أغنى من أن أشخصنها، إنما أشخصها تشخيصاً فقط، أما إذا كان الآخر يتحسس من ذلك فهذا شأنه.

إن هؤلاء الذين يقدمون للجمهور المساعدة، ويسعون في قضاء حوائجهم علينا أن نشكرهم، بدل أن نشتمهم، فهؤلاء على منهج الإمام الرضا (ع) الذي استطاع أن يحقق الكثير في هذا الاتجاه، وقد توسط وتدخل في الكثير من شؤون الناس، وأرجع الكثير من الحقوق، وأعاد الكثير من الأسرى، وخلص الكثير من الرقاب.

فالاتصال خير من الانفصال، وهي حقيقة لا بد أن نعيشها، وينبغي أن لا يرى بعضنا نفسه أكبر من حجمه.

4 ـ فتح العلاقات مع الآخرين: فقد كان هنالك جمود واضح بيّن وقطيعة كبيرة بعد الإمام الكاظم (ع) بين أتباع مدرسة أهل البيت (ع) والمدارس الأخرى، بل حتى بين أتباع المدرسة ذاتها. فأكثر الروايات التي جاءت مؤكدة للحفاظ على أيتام آل محمد (وهم الشيعة) في عهد الإمام السابع، تدلل على وجود مشكلة. ونحن اليوم نعيش مشكلة مشابهة لتلك، فلا تجد أحداً يطيق الآخر، إلا أن يكون تحت عباءته، وإلا فإنه يتعرض للتهشيم والتهميش. وهذا أمر غير وارد بين البشر إطلاقاً، فالناس فالأفكار تختلف، والدراسة كذلك، والبيت، والجماعة التي نتحرك فيها، والمصالح، وغير ذلك. ومن المنطقي أن يعمل كلٌّ على شاكلته، ويسعى كلٌّ لمصالحه، وهذه هي الحياة منذ يومها الأول حتى يومنا هذا، وليس هناك سوى الاحترام المتبادل بين أبناء البشر.

فالإمام الرضا (ع) كان يسعى لتوطيد العلاقة بين أبناء المجتمع، سواء بين أبناء الجماعة الواحدة أم بينهم وبين أبناء الجماعات الأخرى.

لذا أؤكد على الشباب أننا وإن كنا بحاجة ماسة سابقاً للانفتاح على أبناء المجتمع من حولنا، وتوطيد العلاقات مع الآخرين، فهم منا ونحن منهم، مع وجود بعض الاعتبارات التي تُحدث فوارق كبيرة، وعلى الجميع أن يسلّم بها ولا يتعالى عليها، لكننا اليوم أكثر حاجة، وفيما يأتي من الأيام تتضاعف حاجتنا لذلك.

لقد كنت أقول من قبل سبع سنوات، لماذا تقتصر الحسينية على الشيعي فقط؟ ولماذا لا تكون للشيعي والسني معاً؟ فهل قُتل الإمام الحسين (ع) من أجل الشيعي فقط، أم من أجل الشيعي والسني معاً؟ بل قتل من أجل الإنسان بما هو إنسان، ومن أجل السعادة العامة والعدالة المطلقة، فلم نحجّم الإمام الحسين (ع) ليكون للشيعة فقط؟

وكذا الحال في منتديات السنة، فهذه يجب أن تنفتح على جميع ألوان الطيف الآخر، فلماذا التحجر؟ ولمصلحة من؟ فإذا رفرف مجتمع أو وطن بجناحين أو أكثر مع تعدد الروافد والاتجاهات استطاع أن يسمو ويرتفع، ويقطع المسافات البعيدة في أقصر الأزمنة، وعلى العكس من ذلك لو حصل العكس. وهذه مسؤوليتنا نحن كأناس نعيش مذهبنا وديننا ووطننا ومجتمعنا، بأن نصنع من هذا الرباعي الكبير وسيلة توصلنا إلى هدف يتمناه كل رافد من هذه الروافد، فالمذهب والدين جاءا من أجل العدالة، وكذلك الوطن والمجتمع.

نسأله تعالى أن يوفقنا أن نقتفي آثار الإمام الرضا (ع) وأن نقرأ حياته، ففيها العديد من الدروس، صحيح أن الإمام علياً (ع) مارس دور الخلافة، لكن بظني واعتقادي أن فترة ولاية العهد في زمن الإمام الرضا (ع) كانت أكثر إثراءً من زمن الإمام علي (ع) عندما تصدى للخلافة.

نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.