نص خطبة:قاعدة التسامح في أدلة السنن بين الإفراط والتفريط

نص خطبة:قاعدة التسامح في أدلة السنن بين الإفراط والتفريط

عدد الزوار: 1513

2020-08-26

الجمعة 5 / 2 / 1441 4 / 10 / 2019

  بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصةً لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

عظم الله أجورنا وأجوركم بالشهيدة السيدة رقية بنت الحسين (ع)، رزقنا الله وإياكم الوصول لتربتها الطاهرة.

عن بعض أهل العقل والرأي أنه قال: من ظن أنه يسلم من كلام الناس فهو مجنون، قالوا عن الله: ثالث ثلاثة، وقالوا عن حبيبنا محمد: ساحر ومجنون، فما ظنك بمن هو دونهما؟ فكلام الناس مثل الصخور، إما أن تحملها على ظهرك فينكسر، أو تبني بها برجاً تحت قدميك فتنتصر.

سماحة الإسلام:

تعتبر قاعدة التسامح في أدلة السنن من القواعد المهمة من حيث ما ترتب عليها من الآثار، لا بما هي قاعدة. فقد بني على هذه القاعدة الكثير قديماً، ولا زال يفرَّع عليها الكثير، وهي تشتمل على مفردة مهمة، ألا وهي التسامح، وهي تنسجم مع قول النبي (ص): «بعثت بالحنيفية السمحة»([2]).  

إن الإسلام في زمن النبي (ص) له حيثيته وكيفيته، حيث النبي المعصوم (ص) صاحب الرسالة يباشر عمله، فيقوّم الانحراف، ويصحح الخطأ، ويرسم الطرق لمن أراد أن يصل إلى حياض تلك الشريعة السمحة بطبعها.

وهذه السماحة تشمل جميع مكونات المجتمعات البشرية على وجه الأرض، ولو أن الإسلام بقي على طبيعته وطراوته وسماحته، لما وجدت على ظهر هذا الكوكب إلا الإنسان المسلم، لأن الأديان جميعاً هي الإسلام، لكن، حيث إن حركة النبي (ص) حُيّدت وأقصيت واستبدلت في الكثير من المواطن بالمنتوج البشري غير المعصوم، فيما يعبَّر عنه بالنصوص التاريخية والتفسيرية والفتوائية، فإنّ هذا المثلث عمل جاهداً على مصادرة الرسالة السمحة، واستبدال النص بالنص، وقول المعصوم بقول غيره، ويكفيك في ذلك مفارقة ما يترتب من الآثار.

التسامح في أدلة السنن:

مفردة التسامح تعني التساهل، فالسماحة هي السهولة والسلاسة، وقولك: تسامحت مع فلان، أي تساهلت. وهذا المعنى انجرّ إلى التسامح في موطن آخر، ألا وهو التسامح في الدليل، أي أننا انتقلنا من المعنى اللغوي، إلى معنى اصطلاحي، فتارةً يقرأ هذا المعنى في الأصول بنحو، وأخرى في القواعد الفقهية بنحو آخر، وفي المقولتين في دائرة الحوزة العلمية في النجف وقم وغيرهما كلام طويل، ما بين قبول ورفض، أو تأسيس وهدم.     

فالمتبادر للذهن من التسامح إما عدم الركون للدليل مطلقاً، أو أن الدليل ضعيف، ولكن لأنه في باب السنن فلا يعتبر فيه ما يعتبر في غيره من إسلام الراوي وضبطه وغير ذلك.

فهذه القاعدة بالمعنى الثاني، تعني وجود دليل ضعيف، لا كما في المعنى الأول الذي يعني التساهل في الدليل، أي أن التسامح بمعناه اللغوي يتسع للانطباق على كل ما هو في الخارج، فإما أن تأخذه على محمل الجد أو تتساهل فيه.

والدليل قد يرد عن النبي (ص) في السنة المطهرة لدى الفريقين، أو ما وصل بروايات عن أئمة أهل البيت (ع) عند الشيعة. وبالنتيجة هو دليل. وهذا الدليل تارةً يغربل من ناحية السند، في مقام الصنعة والاستنباط، أو من خلال نصه تارةً أخرى من حيث ما يعطي ذلك النص من دلالة على إرادة شيء ونفي شيء آخر. ولا يصل إلى هذا المقام إلا من أخذ أسبابه وفق الطرق المرسومة في داخل مسارها التخصصي.

وربما يتحسس البعض إذا ما قيل: إن هذه القضية ذات طابع تخصصي، ولكن لا معنى لهذا التحسس، فجميع المحافل العلمية اليوم في شرق الأرض وغربها تنادي بالتخصص في التخصص الواحد، بل تعددت وتشعبت التخصصات في التخصص الواحد. وهذا أمر طبيعي، بسبب توسع العلوم من جهة، ولفرض المصاديق المتصادمة خارجاً، ولذلك نحتاج إلى جهد من هنا وآخر من هناك.

فمسألة الأعلم مثلاً في المسار الحوزوي وموضوع التقليد، تحتاج إلى إعادة نظر من أقطاب الطائفة، لأن فاعليتها بالأمس قد تكون مقبولة إلى حدٍّ كبير، لكنها اليوم، بسبب  وضعها تحت المجهر، تحتاج إلى الكثير من التأسيس، لأن ما بنيت عليه من القواعد يسهل هدمها عند صغار الطلبة، ناهيك عن المتقدمين في الدراسة والتخصص، والبالغين مرحلة الاستنباط. ولا غرابة في ذلك، فعندما تقرأ المشهد في المدارس الشقيقة ستجد حالة من المد والجزر، والتوسعة والتضييق في تحريك الآليات في استنباط الأحكام، وفق الحاجة الملحّة خارجاً.

ومن هنا نجد أن منظومة الفقه لدى المدارس الأخرى الشقيقة قد تغيرت كثيراً. أما نحن فنعيش مرحلة مخيفة ومرعبة من التوقف، إذا لم يطلق لها العنان فنحن في حال ليست على ما يرام. ونحن أتباع مدرسة لا تدعي التصويب في كل شيء، إنما مبناها في هذه الحركة العلمية هو التخطئة، لأن الجهد البشري غير معصوم. فلكي تصل إلى أصل الرأي عن صاحبه الأول، وهو المعصوم (ع) يجب أن تمر بعدة محطات لا بد من غربلتها حتى تتخطاها، ولا يتأتى ذلك حتى تكون ممسكاً بتلك العناصر المشتركة في غربلة الدليل لاستنباط الحكم الشرعي، كما يقرره أقطاب المدرسة الأصولية.

الاستحباب أو رجاء المطلوبية:

من هنا يقودنا الكلام إلى أمرين مهمين:

الأول: أن نستند للقاعدة، فنقول بالاستحباب المترتب على الدليل الضعيف، فإذا تسامحنا مع هذه القاعدة، وجاء دليل ضعيف فطبقناها عليه، فهذا يعني أننا وصلنا إلى استحباب شيء لم يقم الدليل التام عليه، وهذه هي المفارقة المهمة. بمعنى أنني لست محتاجاً لبذل جهد كبير في غربلة النص المشار إليه وترميمه من حيث سنده أو مؤداه، لأنني اكتفيت بما تؤمّنه القاعدة، ولم أخضع لمعطيات الدليل التي يفترض أن تكون لها الحاكمية أولاً، وهو هذا المورد، أي حركة القاعدة الفقهية المذكورة، وهي التسامح في أدلة السنن.

الثاني: الإتيان بالفعل استناداً لدليل ضعيف، ولكن لا على نحو الاستحباب، إنما برجاء المطلوبية، أي رجاء أن ينال الإنسان الثواب على ذلك الفعل. والفرق هنا أن الفقيه لا يقطع باستحباب الفعل استناداً للقاعدة، إنما يجعله في دائرة الرجاء في تحصيل الثواب.

وفي الواقع هنالك الكثير من الأحكام تدخل في هذا الباب، ولكن يمكن التساؤل هنا: هل أن هذا يُثبت حُجيةً للفعل المأتيّ به؟ أي أننا في يوم القيامة، عندما نأتي بفعل لم يقم عليه الدليل، إنما بنينا على رجاء الثواب في عالم الآخرة، فهل هذا الدليل الذي لا حجية له في الأساس، نستطيع أن نحتج به على الله يوم القيامة أو لا؟  أو أن هذا الفعل لم يقم على دليل قطعي، إنما كان على أساس ظن قد يوصل للمطلوب أو لا توصل؟

وهذا المورد أضعف من سابقه، ولكن الكلام طويل كما ذكرت لكم.

الموقف العلمي من قاعدة التسامح:

وفي موضوع القواعد الفقهية في الحوزات العلمية ـ وفي ظني أنها أهم من الأصول بكثير ـ أجهد العلماء أنفسهم وكتبت الموسوعات الفقهية في ذلك، حتى أنهاها السيد محمد حسن البجنوردي إلى سبعة مجلدات، وهو أحد  أقطاب الطائفة ومحققيها والذي لم يأت بعده عالم من علماء الحوزتين في هذا حقل، إلا وكان عيالاً عليه، وينهل من عطائه ويبني على تأسيساته.

لقد تبنى هذه القاعدة بعض الفقهاء، ورفضها آخرون، وهو أمر طبيعي، ففي جميع مدرجات الأمور من الأصول والقواعد، هنالك ردّ وقبول. وهذا هو الحال الطبيعي والوضع الصحي في داخل الحوزة العلمية، أما إذا سلطنا سياط الفتوى على رؤوس الباحثين، فقد لا يتحقق الأثر السلبي بشكل مباشر، لكنه في المستقبل لا بد أن يحصل، لأن بعض الأمور تأتي بعد تراكم، وهذا ما نخشاه. ومن هنا نجد أن بعض الفضلاء من علماء الحوزات العلمية  نذروا أنفسهم للكلمة، وضحَّوا من أجلها حتى بأرواحهم، كالشهيد الصدر الأول والشهيد المطهري والمغيَّب السيد موسى الصدر رضوان الله عليهم، وغيرهم. وهذا يأخذ بأيدينا إلى هذه الحقيقة، وهي أنهم شخصوا الداء قبل ظهوره واستفحاله، ولكن مع شديد الأسف لم تحتضن هذه الرموز،  ولم تُقدَّم المدرسة التي أسسوا لها، بل تم عرقلة مسيرتهم.

إن معظم القواعد الفقهية منتزعة من كلام الرسول الأعظم محمد (ص) أو كلام أهل بيته الأطهار (ع) غاية ما في الأمر هي السعة والضيق في جهد الفقيه، من جهة تحريك حكم أوليّ أو ترتيب آثار لحكم ثانوي.

ولكن المصرحين بالبناء على هذا المبنى، وهو الأخذ بالقاعدة التي نحن فيها كثيرون، منهم:

1 ـ الشهيد الأول صاحب اللمعة الدمشقية: (المتوفى سنة 786 هـ)، وهو أحد أئمة الفقه الإمامي، وإلى اليوم آراؤه تُبحث وتُدرس، بل قد تُقدّم على غيرها أحياناً، وقد كتب اللمعة الدمشقية خلال أسبوع واحد وهو في السجن، ولم تكن وسائل الكتابة كما هي عليه اليوم، فلا الأقلام الفاخرة، ولا الأوراق الناعمة، ولا المصابيح الكهربائية النيّرة، ولا التكييف والتدفئة، إنما تحت قسوة البُعدين، المادي والمعنوي من الظالم آنذاك. مع ذلك كله كتب هذا الكتاب ليبقى بصمة مشرقة في سماء الحوزات العلمية إلى اليوم. إلا أن هذا لا يعني التسليم المطلق لكل ما أسس وبنى، وإن كان قد وضع حجر الأساس الذي تمت الانطلاقة منه في فقه آل محمد (ص).

يقول هذا الفقيه العظيم: «لكن أحاديث الفضائل يُتسامح فيها عند أهل العلم»([3]). أي أنهم لا يولونها اهتماماً كبيراً، إنما يمرون عليها ويرتبون الآثار.

هذا هو الرأي الأول الذي أسس لهذه القاعدة في الفقه الشيعي، ورتب عليها آثاراً، وانتزع أحكاماً.

2 ـ  ابن فهد الحلي رحمه الله([4]): وهو فقيه كبير، مشابه في اسمه والكثير من شؤونه لأحمد بن فهد الأحسائي رحمه الله، وكان معاصراً له، ولذلك أصبح التمييز بينهما في منتهى الصعوبة، إلا من خلال بعض القرائن التي ربما يسترشد بها، لتدل على أحدهما، كما هو في كتب التراجم والرجال([5]).

ولذلك أقول: قبل الحكم على شيء، لا بد من الانفتاح على كل شيء من حولنا، فلا يمكن انتزاع الحكم على قضية من خلال قراءة كتاب واحد مثلاً. فاليوم أصبحت القراءة ميسرة، وليس كما كانت بالأمس في غاية الصعوبة، فاليوم تستطيع وأنت على فراشك، أن تستعرض مكتبات العالم في شرق الأرض وغربها.   

يقول ابن فهد الحلي عن هذه القاعدة: «فصار هذا المعنى مجمعاً عليه بين الفريقين»([6]). ولكنه ذكر هذا المعنى في عدة الداعي فقط، ولم يذكره بالنص (التسامح في أدلة السنن) في واحد من مصنفاته الفقهية الأخرى، لذلك لا يصمد أمام النقد، إلا إذا استطاع الفقيه أن يجد قرينة مساعدة على أن هذا الذي ورد في العدة هو المراد.

3 ـ الشيخ الأعظم الأنصاري: وهو صاحب الرسائل والمكاسب، وكتابه المكاسب بالخصوص يعتبر محور الرحى في الدراسة الحوزوية في جميع الحوزات العلمية إلى اليوم، بلا استثناء.

يقول الشيخ الأنصاري: «المشهور بين أصحابنا والعامة التسامح في أدلة السنن، بمعنى عدم اعتبار ما ذكروه من الشروط للعمل بأخبار الآحاد، من الإسلام والعدالة والضبط، في الروايات الدالة على السنن فعلاً أو تركاً»([7]).

ولكن في مقابل هؤلاء، العديد من الأساطين الذين يرفضون هذه القاعدة، وترتيب الآثار عليها، فيُخضعون النص للقواعد المؤسَّسة في قبوله أو رده، وتصحيحه وتضعيفه، وهؤلاء أقطاب كبار ليسوا بأقل شأناً ممن سبق. فمن هؤلاء:

1 ـ الشيخ يوسف البحراني رحمه الله تعالى: صاحب الحدائق الناظرة، وهو فقيه كبير، ذو ذوق فقهي رائع، ومدرسته مبنية على قواعد اللغة العربية السليمة، بل هي الأكثر سلامةً من بعض النصوص الطويلة العريضة أو المختصرة. فرغم أن موسوعته واسعة وتتألف من عدة مجلدات، إلا أنه يصعب عليك أن تضع يدك على تنافر في بناء الكلام وتركيب المفردات.

يقول الشيخ يوسف البحراني: «والقول بأن أدلة الاستحباب مما يُتسامح فيها، ضعيفٌ، وبذلك صرّح في المدارك أيضاً»([8]).      

2ـ السيد محمد بن علي الموسوي العاملي، صاحب المدارك: وهو الذي ذكره الشيخ يوسف سابقاً. يقول في المدارك: «وما قيل من أنّ أدلَّة السنن يُتسامح فيها بما لا يُتسامح في غيرها، فمنظورٌ فيه، لأنّ الاستحباب حكم شرعي، فيتوقّف على الدليل الشرعي كسائر الأحكام»([9]).  

فالاستحباب كما يقول، هو حكم شرعي، فلا يمكن أن تنوي القيام بعمل قربة إلى الله تعالى استحباباً، لتنال به الثواب، ما لم يقم عليه دليل صحيح، وليس دليلاً متسامحاً فيه. فبناءً على ذلك يلزمنا الوقوف على الدليل كي نأتي بالفعل خارجاً على نحو الاستحباب.

3 ـ الإمام الحكيم، مرجع الطائفة الغني عن التعريف. يقول في المنهاج، في المسألة33: «إن كثيراً من المستحبات المذكورة في أبواب هذه الرسالة، يبتني استحبابها على قاعدة التسامح في أدلة السنن، ولما لم تثبت عندنا فيتعين الإتيان بها برجاء المطلوبية. وكذا الحال في المكروهات فتترك برجاء المطلوبية»([10]).

4 ـ السيد محمد سعيد الحكيم: وهو مرجع معاصر كبير. يقول في المصباح: «إن كثيراً من المستحبات المذكورة في أبواب هذه الرسالة يبتنى استحبابها على قاعدة التسامح في أدلة السنن، ولما لم تثبت عندنا فيتعين الإتيان بها برجاء المطلوبية»([11]).               

ويقول في المحكم: «وأما قاعدة التسامح في أدلة السنن، فهي على التحقيق إنما تنهض بحسن الإتيان بالفعل برجاء المطلوبية، لا بالاستحباب الشرعي كما هو مبناهم في المستحبات في المقام»([12]).

من هنا فلو أن أحداً قال: إن هذا الأمر غير ثابت، أو أن فيه مجالاً للنظر، أو لا أتفاعل معه، فلا ينبغي أن يكون عرضة للتضليل والتفسيق، إنما يجب أن يُحترم كما احتُرم أولئك الأساطين من العلماء الذين ذكرنا بعضهم، والذين لم نجد في الماضي من ضللهم أو كفّرهم.

وخلاصة الأمر: أن جميع المحققين من الماضين قبلوا هذه القاعدة، ولم يخالفها العلامة الحلي إلا في موردين من باب الطهارة، وهو ما حكاه السيد محمد المجاهد عن العلامة الحلي في المنتهى([13])، وهذا متروك لمحله من البحث. 

وهذه المخالفة من العلامة الحلي فتحت الباب فيما بعد أمام النقاش في هذه القاعدة، لأن الشهيد الأول جاء من بعده. فالعلامة الحلي من نعم الله الكبرى على هذه الطائفة وحوزاتها العلمية، بل على المسلمين عامة، إذ حرّك الراكد عند الجميع. وأوصي شبابنا أن يقرأوا هذه الشخصية. ومن زار الإمام أمير المؤمنين (ع) يجد مرقده هناك. فبدلاً من تضييع الوقت هنا وهناك علينا أن ندرس حياة علمائنا كي نتقدم ونصل.

سلاح ذو حدين:

إنّ هذه القاعدة سلاحٌ ذو حدّين: الأول ينتهي بنا إلى حفظ مجموعة من الأمور المستحبة التي ينتفع بها الكثير من الناس، من قبيل الزيارة للمقام الفلاني، أو الصدقة في الوقت الفلاني، أو الغسل في المكان الفلاني، أو الدعاء عند الصباح أو المساء أو غير ذلك. وكذا في أمور الطهارة والصلاة وغيرها، مما أثبتوا استحبابه بناءً على هذه القاعدة.

وقد ذكرت في إحدى المناسبات أن الشهيد الأول كتب رسالته الألفية، ثم أعقبه بالنَّفلية، التي اشتملت على ثلاثة آلاف نافلة في الصلاة. وهذا جهد فقهي كبير مميز، وهو مما تميز به علماؤنا الذين نبني على أقوالهم، فمن يغربل صلاة ركعتين في ألفي فرع فقهي يكشف عن عظمة واقتدار لا نظير لهما.

أما الأمر الثاني في هذه القاعدة، فإنها قد تتسبب في إلحاق الضرر بالثقافة الدينية وثوابتها، كما لو أُطلق لها العنان، وما نراه في الواقع الخارجي خير شاهد. فاليوم أصبح كل من هب ودبّ يتكلم في المستحب وغير المستحب، بناء على ما سمعه من التسامح في أدلة السنن. فنجد مثلاً أن هناك من يجرح رأس طفل بناء على أن التطبير مستحب، فهل هو مستحب بحق الطفل بالفعل؟ وإن كان مستحباً باعتقاد ولي الأمر، فكيف أجاز لنفسه تطبير رأس ولده؟.

إن هذا الطفل أمانة في عنقك، ومن واجبك الحفاظ عليه وأن لا تريق منه قطرة دم واحدة، بل ليس من حقك أن تضربه إلا في حالات نادرة جداً، وأن يكون ذلك بحركة بسيطة تدلل على عدم رضاك عن سلوكه، لا أن تصفعه بقوة وتتسبب له بأذى واحمرار، وإلا فيجب عليك الدية شرعاً، وكذلك يحاسبه القانون الوضعي.

من هنا نجد أن بعض من لا خبرة له بالفقه، يستخدم هذه القاعدة للإضرار بالدين، باستحداث الكثير من الممارسات الخطيرة على الدين والمذهب. فمن يرى أن بعض الممارسات الخاصة بالمذهب تشوه المذهب فقط، فهو واهم، إنما هي تشوه الإسلام والمسلمين قبل المذهب. فنحن نريد أن نسوّق الإسلام إلى غير المسلمين، وإذا بنا نئدُ الإسلام في داخل دائرة     المسلمين طوعاً واختياراً ورغبةً منّا، تحت عنوان الاستحباب، بناءً على هذه القاعدة.

بل إن بعضهم يرتكب محذوراً محرماً، كجرح الطفل مثلاً، لكنه يفعل ذلك بدافع الاستحباب، مع أنه تلزمه الدية. والموارد في ذلك كثيرة.

ومن المردودات السلبية للتطبيق السيئ لهذه القاعدة، وضع الأدعية على لسان الأئمة (ع) والطلب من الناس قراءتها، لا لنيل الثواب فحسب، إنما تحذيراً من العقاب عند عدم قراءتها!.

وقد استقصيت الكثير من تلك الأدعية، فوجدت أنها كذب وزور، ولم ترد في أي كتاب من الكتب، مع أنها انتشرت بين الناس منسوبةً لكتاب معيّن، مع رقم الجلد والصحيفة.

ومن مردوداتها السلبية، إشاعة بعض النصوص الضعيفة والمزيفة بين الناس، التي يرفضها العقل السليم، فمن ذلك نسبة بعض أبيات الشعر للأئمة (ع). ومن ذلك الديوان المنسوب للإمام علي (ع) الذي لا يصح منه إلا بعض الأبيات اليسيرة جداً، إذا ما أخضعناه للقواعد البلاغية.

ومن ذلك أيضاً: إشراك الخيال في رسم أبعاد الشخصية أو الواقعة وإسقاطها على الواقع الخارجي كما هي. كما في قول الشاعر:

فإنّ النارَ ليس تمسُّ جسماً       عليه غبارُ زُوّار الحسين

أي عليك أن تزور الحسين (ع)، وتبيت في الطرقات، كي يتشبع بدنك بالغبار، ولمرة واحدة في العمر، ثم افعل ما تشاء، حال أنه كلام شاعر، والشاعر لم يرد هذا المعنى، وإلا فأين القرآن الكريم وروايات أهل البيت (ع) التي تؤكد أداء الأحكام ورعاية التشريعات؟

وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.