نص خطبة: في ظلال ذكرى استشهاد الإمام زين العابدين عليه السلام

نص خطبة: في ظلال ذكرى استشهاد الإمام زين العابدين عليه السلام

عدد الزوار: 325

2014-12-03

الإمام السجاد (ع) في سطور:

مر علينا علينا وعليكم ذكرى استشهاد الإمام السجاد (ع) هذا الإمام العظيم في تكوينه وسلوكه وهديه وتعامله وعطائه وتضحيته.

ولد الإمام السجاد في المدينة المنورة بأنوار الحبيب المصطفى محمد (ص) واستشهد فيها مسموماً، لم يطل عمره كبقية معظم الأئمة (ع) ، ولهذا الأمر ما يستوجبه، وعليه ما يترتب عليه، مما يستدعي التوقف عنده طويلاً، وسبر أغواره، لنخلص بعد ذلك إلى ما يمكن أن يستضاء به في الآتي، ويوضع ما يوضع من الأمور التي تستوجب نفي التكرار.

فالإمام السجاد (ع) اتفقت على عظمته وعلو شأنه جميع أتباع المدارس الأخرى.

إن الآخرين يتوقفون عند بعض الأسماء، إلا أنهم ربما يصلون إلى مراحل معينة، ثم يتوقفون، ولكن مع هذا الإمام يختلف الأمر، إذ نجد أن بعضاً ممن يذهب بعيداً في العناد والمكابرة والرفض، لا يستطيع أن يتجاوز الكثير من الحقائق.

فنجد مثلاً أن كلمات أعلام المذاهب الأخرى تصفه بأنه أفقه أهل المدينة، وما مر فقيه من فقهاء المذاهب الشقيقة إلا وأعطى هذا الوصف للإمام زين العابدين (ع). فلماذا هذا العنوان؟ وكيف اجتمعت كلمة أعلام الفقه عند المدارس الأخرى على تقديمه في هذا الجانب؟ والأمر الأهم، لماذا لم يُرجِع هؤلاء الأعلام في المذاهب الأخرى الأمة لمن يعترفون بتقدمه عليهم إجماعاً؟ هذا ما يستوجب أن يتوقف الإنسان عنده ويغربل المعطيات.

كان بودي أن أستعرض بعض الأسماء في هذا الشأن، إلا أن البعض لديه حساسية عالية الوتيرة، وكم كنت أتمنى على مثل هذا اللون من الطيف أن يأخذ (أقراصاً مهدئة) كي يتعاطى الألفاظ والمفاهيم والتنظير، ويضع الأمور في حدود دائرتها، ولا يغادر بها إلى آفاق بعيدة، فمن المهم جداً أن يقترب الإنسان من فكر أو مفهوم أو تنظير أو قضية وهو هادئ الأعصاب، عندئذٍ يمكن أن يتعاطاها كما ينبغي، أما إذا أوقع نفسه رهينة حالة من عدم التوازن النفسي، والاضطراب العصبي، فلا تأتي النتائج إلا بما هو الأسوأ، وهذا الميدان أمامكم، ولا داعي لوضع النقاط على الحروف، لأن أصحاب القضايا كفونا مؤنة الدخول في مثل تلك الحسابات.

السفيانية والمروانية:

لقد عاش الإمام السجاد (ع) في زمن الدولتين الأمويتين، السفيانية والمروانية، ومن الأخطاء التي يقع فيها الكثير من الباحثين، الدمج بين الدولتين، فالدولة المروانية هي أشبه ما تكون بانقلاب أبيض على الدولة الأموية السفيانية، فالدولتان وإن كانتا من بيت واحد، إلا أن مدرسة مروان بن الحكم فتحت باباً وفصلاً آخر على الأمة، لم يكن أقل خطراً، بل إنه أوغل في إشباع جانب الخطورة والضياع والشتات في واقع الأمة.

فالإمام السجاد (ع) عاش فترة الثلاثة من بني أمية: معاوية، ويزيد ابنه، ومعاوية بن يزيد، وبين هؤلاء الثلاثة نقاط اشتراك ونقاط اختلاف. ثم جاء مروان بن الحكم، وعبد الملك بن مروان، والوليد بن عبد الملك. أما هشام بن عبد الملك فلم يكن خليفة في عهد الإمام، وقصته مع الفرزدق كانت أيام خلافة أبيه، وإنما كان أميراً للحاجّ في تلك السنة.

إن البيت المرواني حمل مدرسة الإسلام الكثير من شُعب النفاق، والخطورة تكمن هنا، فإن كان بعضنا يتصور أن الخطورة في القتل والقتال والدماء والدمار فحسب، فهذا ليس في محله، إنما تشتد الخطورة أكثر عندما تصل إلى مرحلة الفكر، بل إن القاتل لا يقتل إلا على أساس باعث ودافع فكري.

فالمراونة وضعوا نظاماً خاصاً للدخول في دائرة السلطان، فجيروا النص التفسيري والتاريخي والأخلاقي وغيرها لصالح السلطة، وهي الخلافة الوضعية آنذاك، التي لم تردها السماء، إنما شأنها شأن الملك والرئاسة والإمرة، بمعنى أنها لا تمتلك قداسة السماء، ولا تمثل السماء، إنما تمثل فكر الإنسان على وجه الأرض بما هو إنسان، أي أنه فكر استوحاه الإنسان، ودستور سنّ قوانينه من خلال الواقع الخارجي، فهو فكر غير معصوم ولا قداسة له، ويبقى في حدود النظم الوضعي، الذي يؤمّن حالة من الالتزام وضبط الأحوال، وهو أمر مطلوب، بل إن الدنيا اليوم لا تدار إلا وفق هذه القوانين الوضعية، حتى الدول الأقرب إلى مدرسة الإسلام، تعتمد قوانين وضعية تسوس الكثير من مساحاتها، وتسيِّر الكثير من أمورها. أما التقنين المقدس فينحصر في جهة واحدة، وهي جهة مغيبة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعجل في فرج صاحبها، عندئذٍ سنجد المفارقة الكبيرة بين ما نعمل به اليوم، وبين الواقع المختزن عند الخلف من آل محمد (عج).  

الإمام والفرزدق الشاعر:

فمن الحوادث الشهيرة التي حصلت للإمام زين العابدين (ع) أيام الدولة المروانية، أنه دخل إلى حرم الإله، وكان هشام أمير الحج، وقد تعذر عليه استلام الحجر، ودافع الشرطة والحرس وحاولوا أن يفتحوا له الطريق فشقّ عليهم، فانتحى جانبا. وفي هذه الأثناء دخل غلام أسمر اللون، جعد الشعر، عليه سيماء الصالحين، فانفرج له الناس سماطين حتى استلم الحجر.

وهكذا يقف الحاكم والشرطة بين يديه، والقوة والقدرة بيده، أمام رجل أعزل، إلا من عزة السماء وكبريائها، وهيبة القدس الأقدس، وينفرج الناس بين يديه. فمن الطبيعي أن يلفت الانتباه. فحاول هشام أن يتجاهل الإمام (ع) فسأل: من هذا؟ وكان الفرزدق حاضراً، وهو شاعر فحل، معروف بالهجاء، بل إن جودة شعره في الهجاء، وأجمل ما كتب إنما كان في الهجاء. فاستدعت تلك اللحظة الفرزدق أن يقول قصيدته ارتجالاً بمحضر السلطة، يعظم جانباً على حسابها، في وقت كانت السلطة ترى فيه أنه العدو رقم واحد، ولا يخشى في ذلك أحداً، وكانت ردة فعله قوية، فعلت فعلها في دورته الدموية، وانعكست على نفسه وروحه.

كان الفرزدق شاعر الأمويين، لذا تجد أنه لم ينصر الإمام الحسين (ع) ولم يكن راغباً في نصرته، إلا أن موقفه هذا كان موقفاً نبيلاً، ليس في إنشاده القصيدة، إنما لتعريضه نفسه للقتل، وحمل روحه على كفه ليقول كلمة حقّ.

قال الفرزدق:

 

 

لقد طرق الفرزدق باب الأوصاف، وما أكثرها وأجلها في أهل هذا البيت، فقد تبحث أحياناً لبعض الناس عن صفة واحدة فلا تجد، إلا أنها هنا تتزاحم فيما بينها، فكلما ذكرت من صفاتهم واستحضرت وجمعت فلن تصل إلى النهاية، ولن تفيهم حقهم، لأنهم خلقوا جميعاً من ذلك النور الذي لا يحدُّ بحدٍّ، ولا يؤطَّر بإطار، إنما له القابلية على السير والنفوذ في جميع الأشياء.   

لقد كان الأشراف يلقنون أبناءهم هذه القصيدة لما فيها من إشارات وصورة رائعة تعكس جانباً من صفات أهل البيت (ع) لا سيما الإمام زين العابدين (ع).

الإمام السجاد في منظار العلماء:

لا بد لي هنا أن أستعرض بعضاً مما ورد عن علماء العامة من الإشادة بشخصية الإمام زين العابدين (ع) وذكر فضائله.

فمن هؤلاء الزهري، ومن منا لا يعرف الزهري؟ فهو عالم كبير جداً في قومه، يقول عن الإمام زين العابدين (ع): ما رأيت قرشياً أفضل من علي بن الحسين([3]).

ومنهم سعيد بن المسيب، وهو أيضاً من العلماء المعاصرين للإمام (ع) يقول: ما رأيت قط أفضل من علي بن الحسين([4]). فسعيد بن المسيب ليس من أوساطنا، إنما هو رمز من رموز العامة، وله طريقته وأتباعه وآراؤه التي لا زالت إلى يومنا هذا لها فعلها، وهو كبير في قومه أيضاً.

أما الإمام الشافعي وهو أشهر من أن يعرّف، ويعتقد فيه أتباعه كما نعتقد في رموزنا من المقامات، بل أعظم من ذلك، ومن ذلك أن المدّ والجزر في نهر النيل خاضع لأنفاسه، فإن أخذ شهيقاً حدث المدّ، وإن طرح الزفير حدث الجزر. أي أنه يملك ولاية تكوينية. وهو فقيه معروف، وإمام مذهب.

يقول الشافعي عن الإمام علي بن الحسين: هو أفقه أهل المدينة.

تعدد الأدوار في مسيرة الأئمة:

لقد كان لأئمتنا (ع) أدوار كثيرة نهضوا بها بقدر ما أتيحت لهم الفرصة وساعدتهم الأوضاع، فمنها:

1 ـ تحصين الأمة من الانهيار بعد سقوط التجربة، فغياب النبي (ص) ترتب عليه خلل كبير، فقد جهد النبي (ص) أن لا تنتهي الأمور إلى ما انتهت إليه، وما اختطته بيدها، وأخذت مساراً آخر.

لذا عمل الأئمة (ع) من الإمام علي (ع) الذي قال: لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين، حتى انتهت فترة الثلاثة، واستمرت الأمور بعدهم، على تحصين الإسلام.

لذا فإنني أستغرب ممن يحمل نفساً ثورياً، ثم يذهب إلى مسافات بعيدة، أو يأخذ نسقاً تقليدياً ويذهب إلى مسافات بعيدة أيضاً، فلا هذا ولا ذاك، إنما هي الوسطية، لأنها لغة السماء والقرآن، قال تعالى: ﴿وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً([5])، وكان دور الأئمة (ع) في التحصين يحمل هذا الطابع، وهو طابع الهدوء، والمحافظة على الوضع العام في استقراره، وهذه أقل الأمور، وأقل النتائج التي يمكن أن يحافظ عليها، باستثناء الإمام علي والإمام الحسين عليهما السلام. ثم يأتي الخلف الباقي من آل محمد (ص) لينهج الطريق الثاني.

2 ـ السعي إلى تسلم زمام التجربة، فقد تحرك الإمامان علي والحسين عليهما السلام في هذا الاتجاه، وإن كانت حركة الإمام علي (ع) في ظني مندكةً في المنهج الأول، وهو الحفظ والصيانة للواقع، على العكس من التجربة الفريدة للإمام الحسين (ع) الذي خرج من أجل الإصلاح، أي أنه طلب الإصلاح بنفسه في وضع الأمة، لأنها وصلت إلى درجة لا يمكن السكوت عليها.

فهذا دوران مهمان اضطلع بهما الأئمة (ع).

والرغبة الأكيدة لدى الأئمة (ع) في حفظ شأن الأمة تتمثل في ما يلي:

1 ـ حفظ الكتاب والسنة المطهرة من المصادرة، التي تعني فيما تعنيه العبث بالمفاهيم القرآنية والسنة المطهرة مفهوماً. فكان الأئمة (ع) يسعون في المحافظة على المفاهيم أن تأخذ دورها في وسط الأمة كما أراد لها القرآن الكريم، وكما أراد محمد وآل محمد (ص).

إن الأمة المسلمة أمة راشدة، وكان الأئمة (ع) يسعون للمحافظة على هذا النوع، وعلى آحاد الأمة كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً، فلا يصادرون الأمة، ولا يدخلونها في أتون ما لا يحمد عقباه في سبيل أن يصلوا إلى أمرٍ ما أبداً، بل كانوا يقدمون أنفسهم قرابين في سبيل حفظ الدين والأمة.

2 ـ الحفاظ على الواقع السياسي الذي يسير أمور الأمة من حولهم، وفي هذا نصوص كثيرة، ولكن مع شديد الأسف، نجد أن التركيز في الحوزة العلمية على أبواب العبادات، وقد أشبعوها بحثاً، حتى وصلت إلى حدّ التكرار، أما أبواب المعاملات فتنتظر الكثير الكثير من البحث.

3 ـ حفظ القيادة المثالية في وسط الأمة.

آثار الإمام السجاد:

لقد خلف الإمام زين العابدين (ع) الكثير من الآثار، سواء في جوانب الفقه أم التفسير أم الأخلاق أم غيرها. كما عمل على الارتباط بالسماء، والارتباط بالأمة.

أما الربط بالسماء فكان عن طريق الصحيفة السجادية التي نقرأها، والتي تشتمل على نيف وخمسين دعاء يربط الإنسان بالله سبحانه وتعالى، مضافاً على أنها موظفة لأغراض متعددة، ولا زال هذا الزبور المقدس إلى يومنا هذا لم يعط من الحق ما يفترض أن يعطى.

ورديف الصحيفة السجادية رسالة الحقوق، التي تشتمل على خمسين حقاً من الحقوق التي أودعها فيها، وهي رسالة غنية بالمضامين، إلا أنها معطلة مع شديد الأسف، سواء لدى أصحاب المذهب أم الأمة الإسلامية أم الرأي العام العالمي. فماذا لو كانت هذه الرسالة لغير الإمام زين العابدين؟ هل تبقى معطلة بهذا الشكل؟ بل لنسأل أنفسنما نحنُ: كم منا من يمتلك رسالة الحقوق في بيته؟ ألسنا شيعة الإمام زين العابدين ونعتقد بإمامته؟

لذا نقول دائماً ونكرر: إن الشعائر مهمة، لكنها يفترض أن تكون في سياق الوعي، لا الممارسة الشكلية.

فالصحيفة السجادية مدرسة دعاء كبرى، تفتح لنا آفاق السماء، ورسالة الحقوق وثيقة عظمى تؤمّن لنا العلاقة الخاصة والعامة.

إن الارتباط بالإمام لا في كثرة العزاء وحضور المجالس، فهذا أمر حسن ممدوح في ميزان الأعمال، وقطع الله من قطعه وحاربه وحال دونه، لكنه ليس نهاية المطاف، وليس هو كل الدين. فمن يمشي لزيارة الأربعين مثلاً، ينبغي أن لا تكون ذمته مشغولة لأحد، سواء بأمر مالي أم معنوي، فيجب تصحيح الأمور مع الله ومع الناس جميعاً، ومنهم الأسرة، قبل الذهاب لزيارة الأربعين. أما أن يترك الزائر بيته خربة، والأبناء في ضياع، والمرأة في حاجة، ويدير ظهره لمن يطلبه حقاً مستحقاً، ثم يذهب لزيارة الحسين (ع) فإن الحسين (ع) لا يرضى بمثل ذلك، ولا يقبل من هؤلاء.

ولينظر الزائر ما حدث بين زيارة الأربعين للعام الماضي، وزيارة الأربعين لهذه السنة، وكم صدر منه من ذنب! وكم حصل من تقصير! وما هي سبل المعالجة.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يتبصر بالأمور، ويسير على الهدي، وأن يجعلنا وإياكم من المحشورين في زمرة محمد وآل محمد.

والحمد لله رب العالمين.

يا  سائلي أين حلَّ الجودُ والكرمُ
عندي  جوابٌ  إذا  طلابه قدموا
هذا الذي تعرفُ البطحاءُ وطأتَه
والبيتُ  يعرفُه  والحِلُّ  والحرمُ
هذا   ابن  خير  عباد  الله  كلهم
هذا  التقي  النقي  الطاهر العلمُ
هذا  الذي  أحمدُ  المختارُ  والدهُ
صلى  عليه إلهي ما جرى القلمُ
لو  يعلم الركنُ من قد جاء يلثمهُ
لخرَّ  يلثمُ  منه  ما  وطى القدم