نص خطبة :في رحاب الإمام الصادق (ع)

نص خطبة :في رحاب الإمام الصادق (ع)

عدد الزوار: 849

2017-12-07

12 / 3 / 1439 هـ 1 / 12 / 2017 م

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

الإمام الصادق (ع) حجة الله:   

تحل إشراقة نور الإمام الصادق (ع) بعد أيام يسيرة على نحو الذكرى، وهي تقترن بذكرى ميلاد النبي الأعظم محمد (ص) وبينهما امتزاجٌ جسدي ومعنوي، ففي محمد (ص) تجسدت الرسالة وتفرعت عنه، وفي الإمام جعفر بن محمد (ع) تأسيس المذهب وما ترتب عليه.

والإمام الصادق (ع) لم يوفّ من الحق كما ينبغي، مع أنه لم يحاصر نفسه في حدود دائرة ضيقة تلتفّ عليه، وإنما جعلها مشرعة الأبواب، ولج فيها ودلف إليها من كانت الرغبة في تحصيل العلم تدفعه، لذلك تعدد الأشخاص أفراداً، ثم ترتب على ذلك جماعات فتلخصت في صورة مذاهب هنا وهناك.

لقد أطبقت كلمة الجميع على عظمة الإمام الصادق (ع) وعلوّ شأنه، كما أنها أطبقت على أنه أسس لمدرسةٍ علميةٍ وفكريةٍ تأخذ في مكونها المدى البعيد، وهكذا مرت الليالي والأيام وإذا المدرسة تتجذر، وأصولها تصبح أكثر ثباتاً. وقد تقلب على يديه كثيرون، وما خرج من مدرسته إلا عالمٌ في فنٍّ من الفنون، أو استطاع أن يكتسب من الفنون الشيء الكثير. فمنهم من ارتقى إلى مقام إمامة مذهب، كأبي حنيفة ومالك، بل حتى الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل، اللذين أخذا عنه بالواسطة، ومنهم من هو دون ذلك. كما أن ثمة مذاهب هنا وهناك عفا على كثير منها الزمن، وبقيت بقية لبعضها. فالزيدية مذهب إسلامي كبير، له أنصاره وأتباعه وفكره وثقافته وأصوله وفقهه وتاريخه وتفسيره وتضحياته الجمة. إمامهم زيد بن علي بن الحسين (ع) الشهيد المظلوم الذي قتل ثم صلب ثم أحرق.

هذا الرجل العظيم يتحدث عن الإمام الصادق (ع) فيقول: «في كل زمان رجل منا أهلَ البيت (ع) يَحتج الله به على خلقه، وحجة زماننا ابنُ أخي جعفر بن محمد، لا يضل من تبعه، ولا يهتدي من خالفه»([2]). فهذا إمام مذهب أتباعه كثر، وقد سادوا الكثير من مواقع الدنيا في يوم من الأيام، وبسط سلطانهم، أما اليوم فيتمحورون في مواقع معينة ودوائر ضيقة إذا ما قيسوا بغيرهم من أتباع المذاهب الإسلامية.

ومن المذاهب الأربعة اخترت كلاماً للإمام مالك، الذي يعني في فقهه الوسطية أكثر ممن سواه، وإن كان البعض يتصور أن الإمام الشافعي هو الأكثر وسطيةً، لكن مع المراجعة لفتاوى هذا وذاك يجد الفرق في هذا لصالح مالك أكثر، بعيداً عن أصول العقيدة، إذ لا بد أن نفرق بين أصول العقيدة وفروع الفقه، ففي المسار الأول ربما يكون الشافعي في موقع أقرب، ولكن في المسار الثاني مالك هو الأقرب.

هذا الرجل الكبير في قومه ، وإمام مذهبه، يتحدث عن الإمام الصادق (ع) فيقول: «اختلفت إليه زمانا فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال إما مصل وإما صائم وإما يقرأ القرآن وما رأيته يحدث إلا على طهارة»([3]).  

ويقول أيضاً: «ما رأت عينٌ، ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلب بشر، أفضل من جعفر الصادق، فضلاً وعلماً وعبادةً وورعاً»([4]). من هنا فإننا لا نتمسك بهذا الإمام العظيم اعتباطاً، إنما يرشدنا حتى أئمة المذاهب الأخرى إلى هذا المنبع الأصيل.

يقول هذا الإمام العظيم في حديث شريف: «سلوني قبل أن تفقدوني، فإنه لا يحدثكم أحدٌ بعدي بمثل حديثي»([5]). وكثيراً ما طرق هذا الكلام مسامعنا عن الإمام أمير المؤمنين (ع) إلا أنه ورد أيضاً عن الإمام الصادق (ع) وكان ذلك في حاضرة العلم والعلماء وهي الكوفة العلوية، وكذلك لما عاد إلى المدينة النبوية، المنورة بأنوار النبي الأعظم محمد (ص) كذلك.

منهجه في اعتماد القرآن والسنة:  

إن هذا الإمام العظيم قُدّم للأمة، وقدم نفسه هو للأمة، إلا أن هنالك فرقاً بين التقديمين، فالإمام (ع) يقدم نفسه للأمة من خلال القرآن والسنة المطهرة.

يقول (ع): «والله إني لأعلم كتاب الله من أوله إلى آخره كأنه في كفي، فيه خبر السماء، وخبر الأرض، وخبر ما كان، وخبر ما هو كائن. قال الله عز وجل: فيه تبيان كل شيء»([6]).

فهو (ع) يريد أن يرشدنا إلى أن أصل العلم والمعرفة المحمدية من هذا المنبع، الذي أنزله الله تعالى على قلب النبي محمد (ص) وتكفل بحفظه، غاية ما في الأمر أن عليكم أن تستنطقوه، وتتحركوا مع آياته، وتتركوا الآية تأخذ مساحتها في عوالم أفكاركم.

أما نحن اليوم فقد جمّدنا العمل بالقرآن، ورحنا نتعاطى مع السنة فقط، ولكن لا مع الصحيح منها، إنما مع المحموم الموروث في معظم الزوايا. نعم، هنالك سنة مطهرة محفوظة، ولكن هنالك دسّ ووضع، ومن ينكر هذه الحقيقة ـ كما يبدو لي ـ إما أنه لم يقرأ، أو أنه يقرأ ولا يفهم، أو أنه يقرأ ولا يريد أن يفهم. وإلا فإن الأمور واضحة.  

ولا ينبغي أن نستبعد ذلك، فقد كُذب على النبي (ص) وهو حي، حتى قال: «لقد كثرت عليّ الكذابة، فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»([7]). وإذا كان الأمر كذلك في حياته، فكيف نتصور الحال بعد أن تداولت الدول والسلاطين الأمور، وتهيأ بعض رواة الحديث لبيع ضمائرهم؟ والتنكر للثابت من المعتقد؟ فهذه من الأمور الواضحة، إلا أن البعض يحاول إنكارها لأسباب عديدة، منها أنه يريد أن يثبت شعيرة لا علاقة لها بالدين، فيذهب مع أي رواية مهما كانت ضعيفة أو معلولة.

فالإمام الصادق (ع) جعل المحورية في مدرسته للقرآن الكريم، ومن هنا تجد أن بعض مراجع الدين وأساتذة الحوزة العلمية ينادون بقوة من أجل الرجوع إلى القرآن الكريم، لا لأنه ليس موجوداً، ولكنه لا يتوازى مع ما يعطى من الأولوية والأهمية. فالقرآن الكريم هو الأصل والملاك والملاذ والركيزة الأولى.

يروي الكليني في الكافي، عن حماد عن الإمام الصادق قال: «سمعته يقول: ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة»([8]). والسنة هنا تعني السنة الصحيحة الصريحة الواصلة بالطرق المعتبرة، فلا يمكن مثلاً التمسك بإطلاق اللفظ كما يتصور بعض الباحثين أو الدارسين، فالقرائن ليس بالضرورة أن تكون لفظية، بل يكفي فيها بُعد المعنوية، حتى يقيد بها ما تم إطلاقه، وهذه معطيات أَلسَنة اللغة لمن يفقه ويفهم، ولمن أجهد نفسه وكان له حظ من العلم والمعرفة.

ويقول المعلى بن خنيس: «ما من أمرٍ يختلف فيه اثنان، إلا وله أصل في كتاب الله، ولكن لا تبلغه عقول الرجال»([9]). فالمشكلة ليست في أصل التشريع كما يتوهم بعض المثقفين اليوم، إنما المشكلة في فهم التشريع.

فالإمام الصادق (ع) يصرح هنا أن الملاذ هو القرآن، وهو المرجع فيصرح هنا أن الملاذ هو القرآن الكريم، وهو المرجع في كل ما استجد من اختلافات بيننا.

معنى الإسلام والإيمان:

يقول القرآن الكريم مثلاً: ﴿وَاعْتَصِمُوْا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيْعَاً وَلَا تَفَرَّقُوا﴾([10]). فلو وجدت من يدعو للفرقة، بل من يدّعي العلم ويؤصّل للفرقة بين المسلمين، وينبش الماضي، ويصرح بالمحذور، ويكشف ما هو مستور، لا سيما إذا كان ذلك في أسبوع الوحدة بين المسلمين،      فلا شك أنه يخالف القرآن الكريم، وفي أحسن الأحوال يمكن أن يقال: إنه لا يدري ماذا يصنع. ولا تستطيع أن تبرر أفعاله تلك، لأن التبرير سيكون كارثة وطامة كبرى.

ثم إن الإيمان يتولد في رحم الإسلام العظيم، فهناك إسلام وهناك إيمان، فإن وجد الإيمان وجد الإسلام، وليس العكس. فقد يكون المرء مسلماً، إلا أنه لا يصل إلى حد الإيمان، لأن هذه المفردة لها خصوصيتها.

من هنا نجد أن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) يقول: «دين الله اسمه الإسلام، وهو دين الله قبل أن تكونوا حيث كنتم، وبعد أن تكونوا، فمن أقرّ بدين الله فهو مسلم، ومن عمل بما أمر الله عز وجل به فهو مؤمن»([11]). 

فلماذا نرى بعض الأقلام المشبوهة تؤصل أن من لا يعتقد بالأمر الفلاني فليس من المسلمين؟ بأي منطق يتكلمون؟ وعن أي منطلق ينطلقون؟ ولصالح من يعملون؟

إنني أدعو هؤلاء أن يرجعوا لكتاب الكافي للشيخ الكليني ليروا كم من الروايات التي تبين حقيقة الإسلام.

إمام العلم والعطاء الإنساني: 

إننا كثيراً ما نقصر الإمام الصادق (ع) على الجانب العلمي فقط، كما نختصر حياة الإمام الحسن (ع) مثلاً بالكرم، فنقول: الإمام الحسن (ع) كريم أهل البيت (ع) وكأن الإمام الحسن (ع) لا يعرف إلا بالكرم، أو أنه الوحيد الذي عرف بالكرم، فهناك مثلاً حاتم الطائي، وعبد الله بن جعفر، والكثير ممن عرفوا بالكرم. فحياة الإمام الحسن (ع) أوسع من ذلك بكثير، ومساحته بمساحة آبائه وأجداده من آل محمد (ص). لكن عقولنا لا تستوعب ولا تدرك ذلك.

وكذا الحال في الإمام زين العابدين (ع)، إذ نصفه ببَكّاء آل محمد، مع أن مساحته العلمية والروحية والأخلاقية أكبر من ذلك بكثير. فقد أسس مثلاً أول جمعية خيرية لرعاية الأيتام والفقراء والمساكين في الإسلام. وهذا فكر متقدم كثيراً، وقراءة اقتصادية للمشهد، وشعور بالمسؤولية.  

إننا اليوم نلاحظ وجود أكثر من رافد مالي للحقوق في الطائفة([12])، ولكن هل درسنا حالة الإمام السجاد (ع) من زاوية ممارسة دور الفقيه في وسط الأمة؟ وكيف كان يوجه الأموال ويرتب الأولويات فيما بينها، ويعمد إلى الحساب والكتاب والتنظير؟ أو أن الحقوق الشرعية لها نهج آخر؟

وبالعودة لحياة إمامنا الصادق (ع) نجد أنه متعدد العطاءات الإنسانية، فأنت تجده في الجانب العلمي مدرسة متعددة الزوايا والمزايا، سواء ما كان من العلوم ما يسمى اليوم بالعلوم الأكاديمية كالطب والهندسة والفلك وغيرها، التي كان ابن بجدتها فيها، أم في العلوم الأخرى. وهذا ما تشهد به كتب التاريخ من الفريقين، من معه ومن عليه.  

وكذلك في جانب السلوك والأخلاق والتربية، ونحن أحوج ما نكون اليوم لذلك، بل نحن في أزمة أخلاقية سلوكية بكل ما للكلمة من معنى. فقد كان الإمام الصادق (ع) على درجة عالية من التواضع الجم، وكان ينكر على المتكبرين بكل صراحة وجرأة، فلا يجامل ولا يحابي، فلو رأى متكبراً جعل من نفسه طاووساً على العباد، واجهه بكل وضوح. فلا لقب العلامة أو الخطيب أو آية الله العظمى أو الزعيم أو القائد أو الدكتور أو الأستاذ ولا غيرها تعني شيئاً يستحق التكبر والتعالي على عباد الله. 

إن التعليم تارةً يكون بالتنظير وأخرى بالتطبيق العملي، ففي التنظير ربما أقول كلاماً للآخرين ينسونه بسرعة، أما التطبيق العملي فلا. فتارةً أوصيكم بالتواضع، وتارة أتواضع أنا عملياً في سلوكي. فهذا الأخير له الأثر الكبير في النفوس.

سأل الإمام الصادق (ع) يوماً أحد رجال القبائل: «من سيد هذه القبيلة؟ فقال الرجل: أنا. فقال (ع): لو كنت سيدهم ما قلت: أنا»([13]).

وافتقد ذات يوم أحد ملازميه، أي ممن كان يتردد عليه في المجلس والمسجد والسوق والطريق وغير ذلك. فسأل عنه، فرد رجلٌ مستهزئاً بمن سأل عنه الإمام (ع) أنه نبطي. فرد عليه (ع): «أصل الرجل عقله، وحسبه دينه، وكرمه تقواه، والناس في آدم مستوون»([14]).

وعنه (ع) عن جده الإمام أمير المؤمنين (ع) قال: «ألا أخبركم بالفقيه حق الفقيه؟ من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤمنهم من عذاب الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله، ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره. ألا لا خير في علم ليس فيه تفهّم. ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبُّر. ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفكّر»([15]).

وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.