نص خطبة:فلسفة التشريع بين الأمس واليوم ـ 3

نص خطبة:فلسفة التشريع بين الأمس واليوم ـ 3

عدد الزوار: 935

2016-06-28

الجمعة 18 / 9 / 1437 هـ 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ‏ الْإِسْلامُ‏ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَريعُ الْحِسَابِ﴾([2]).

العوامل المؤثرة في الفتوى:

كان الكلام فيما مضى في فلسفة التشريع الإسلامي بين الأمس واليوم، وكونه حاجة ملحّة. وقد بلغ بنا المقام إلى الفتوى.

والفتوى من الأمانات المعلّقة في رقاب المفتين، من المراجع عند أتباع مدرسة أهل البيت (ع) ومن كبار العلماء لدى أصحاب المدرسة العامة. والأمانة تعني المسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى التي يفترض أن تؤدى على الوجه المطلوب، كما يصرح بذلك الكتاب الكريم بقوله تعالى: ﴿وَقِفُوْهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُوْلُوْنَ﴾([3])، وقوله: ﴿فَاسْأَلُوْا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُوْنَ﴾([4]). وكما تصرح به الرايات الشريفة أيضاً، ومنها: «من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماء وملائكة الأرض»([5]).

والفتوى سلاح ذو حدين، وسيف قاطع لا شك فيه، فقد تنجو بالفتوى أمةٌ بكاملها، وقد تذهب بكاملها إلى الحضيض، بل إلى النهاية والزوال.

وهنالك محطات حول الفتوى لا بد من التوقف عندها كي نقرأ حالها بعد ذلك على نحو الإسقاط على المشهد الخارجي.

1ـ الزمان:

إن طبيعة المرحلة الزمانية للفتوى تلعب دورها، والزمان عبارة عن سلسلة من الآنات المتواصلة أصلها من الله تعالى، أي أن الذي أعطاها القدرة على التواصل هو الله جلت قدرته، فنحن لا نستطيع أن نزيد فيها آناً، ولا أن نقصر من عمرها آناً، وما دامت إرادة الله قد تعلقت بامتداد الزمن فإنه سيمتد، لكن هذا الظرف (الزمن) كغيره من الظروف، فربما يبقى محافظاً على صفائه ونقائه، وربما تطرأ عليه عوامل التلوث. وكثيرة هي الحقب والقرون التي صُبغت بطابع التلويث، والزمن في نهاية المطاف ظرفٌ يتقلب في صفحاته الجميع، وليس الفقهاء بدعاً من ذلك، إنما هم في صميمه وعمقه.

لقد أخذ الزمن في عهد النبي (ص) أكثر من كيفية، فهنالك الرسالة في طور السريّة، وفي طور العلن، وفي غير ذلك من التغيرات، كل ذلك بسبب ما كان يُطبع به الزمن من مؤثرات.

والحكيم هو من يضع الشيء في موضعه، وسيد الحكماء هو النبي الأعظم محمد (ص). فقد أصّل النبي (ص) للعقيدة، وبيّن الأحكام والتكاليف، ففي المرحلة الأولى كان البعد العقدي سيد الموقف، وكانت السرية تنسجم مع المسار العقدي في الكثير من الحالات، على العكس من ذلك في الأمور الفرعية فهي ذات طابع علني جهري.

ففي مكة المكرمة كانت أصول العقيدة ثابتة في مبادئها الثلاثة: التوحيد، النبوة، المعاد. وقد اطلع المسلمون على أبعادها، وكان الزمن يساعد عليها لأنها لا تتطلب منهم أكثر من الاعتقاد القلبي، والتعاطي في مورد الحاجة قدر الإمكان. أما في المدينة فكان المشهد مختلفاً تماماً، إذ كثرت حاجات الناس، والدين عبادة ومعاملة، فلا بد أن ينطلق النبي (ص) من واقع ذلك المجتمع، ليسدّ الثغرات ويلبي الطلبات، ويشق الطرق، ليصل الناس إلى الهدف الإلهي من وراء إرسال الأنبياء والرسل.

كما أن الأجواء لم تعكر على النبي (ص) في المدينة، رغم ما صاحبها من الحروب. ففي مكة المكرمة كانت المؤامرة على النبي (ص) واضحة بينة من قريش، وكانت الحرب معلنة في الداخل. أما في المدينة فكانت الحرب مختلفة، من حيث كونها وجهاً لوجه، وجيشاً في مقابل جيش.

وبنظرة بسيطة ومسح سريع للآيات المكية والآيات المدنية نجد مفارقة واضحة. وهنا لا بد من الإشارة إلى تصنيف الآيات إلى مكية ومدنية، فهل أن هذا التصنيف خاضع لميزان علمي، أو نالته يد التلاعب أيضاً؟

لا شك أن يد التلاعب لم تكن بعيدة، فيدُ التبديل والتقديم والتأخير كانت حاضرة، بدليل أن بعض الآيات اختلف نظر أصحاب الرسول (ص) في مورد نزولها، ومورد النزول يكشف بطبيعة الحال عن موضعه. لكنك تجد أن بعض الآيات يُلتمس لها القرائن في صرفها من حيث التنزيل إلى جهة على حساب الجهة الأخرى.

إن بذرة الحراك العقلي كانت موجودة عند بعض أصحاب النبي (ص) وهم أولئك الذين لم يجمدوا على ظواهر الألفاظ إنما حاولوا سبر المعاني والغوص فيها. على العكس من البعض الآخر الذي كان يقف على حرفية اللفظ.

ومن الأمثلة على ذلك أن أحد أصحاب النبي (ص) اشتكاه أبوه للنبي (ص) قال: إن ولدي يؤذيني، ولا يسمع لي قولاً. فقال النبي للولد (ص): اسمع لأبيك وأطع. فلما وقعت حرب الجمل تخندق في مقابل علي (ع). فسأله أحدهم: ما منعك أن تقف مع علي (ع) وهو الذي قال فيه النبي (ص): علي مع الحق والحق مع علي؟ قال: منعني قول النبي (ص) لي: اسمع لأبيك وأطع.

فهذه الذهنية من القراءة تختلف عن غيرها بلا أدنى شك. وكان للزمن دور كبير في ذلك، فمن دخل الإسلام في المدينة يختلف عمن دخله في مكة من أهل مكة، لأن المكي عاش مرحلة التأسيس العقدي في زمن الشدة وضحّى من أجلها، كما حصل مع نخبة من أصحاب النبي (ص) كبلال وخبّاب وعمار بن ياسر وغيرهم.

فالزمن عامل مهم ومؤثر، لأنه الحاضنة الطبيعية للحدث، فشدة الزمان أو غلبته أو حالة الفقر فيه، كلها عوامل مؤثرة.

2 ـ البيئة:

والأمر الثاني: هو طبيعة البيئة المصاحبة للفتوى، فقد يتفلّت الفقيه من قيود الزمن، لكنه لا يتفلت من البيئة والمحيط، لذا أن المراجع  وكبار العلماء والأئمة لدى الفريقين كُثر، لكن المبدعين منهم قلة، بل أقل القلة، فالفتاوى تكاد تكون مكررة. والخروج عن قيود البيئة بما يولد نتاجاً جديداً لم يكن يحظى بمساحة كافية. لذا تجد على مر التاريخ مئات الآلاف من العلماء من أصحاب النظر والقدرة على الاستنباط، لكن الشخوص الحاضرة في أوساطنا منذ الغيبة إلى اليوم معدودة، ففي كل قرن من الزمن تجد أفراداً قلائل ربما لا يتجاوزن الخمسة. والكلام عينه لدى المدرسة العامة، فالذين تقدموا في مجال الفتوى كانوا قلة، والتقدم في الفتوى كان معلولاً أيضاً للتفلت من قيود البيئة الضاغطة.

فمثلاً: يختلف الفقيه صاحب ذهنية البيئة البدوية، عن ذلك الذي ينحدر من البيئة الحضرية، فذاك يعيش شظف العيش وقسوة الحياة، وهذا يعيش الترف والراحة والدعة، فلا شك أن تلك الظروف تنعكس على ذهنية الفقيه.

لاحظوا لبنان مثلاً، وفقهاؤها كثر، كصاحب الرياض والمحقق الكركي رحمهم الله جميعاً، والطليعة التي عشنا طرفاً منها في الحقبة الأخيرة كالمرجع السيد فضل الله (رحمه الله) فهؤلاء تطورت الفتوى لديهم، لأن البيئة خصبة منفتحة غير منغلقة على نفسها كثيراً، لذلك اتسعت المساحة أمام الفقيه فتحرّك.

فالشيخ البهائي العاملي رحمه الله كان مفردة يندر أن تجد لها مثيلاً في طبقته، فالبيئة الحاضنة هيأته ثم قذفت به في هذا الجو العام، بعد أن أكمل الآليات. فخطا بالأمة خطوات جبارة. فبعض الإبداعات التي وضعها الشيخ البهائي يقف العلم أمامها اليوم عاجزاً.

3 ـ فهم الفقيه للنص:

وهذا أيضاً من الأمور المؤثرة في الفتوى، أي فهم الفقيه للنص الديني بعد التسليم بصحته. فلدينا مرحلتان في التعامل مع النص: الأولى هي غربلة النص الذي تُنتزع منه الفتوى، والبحث في صحة صدوره عن المعصوم. فالقرآن الكريم قطعي الصدور بلا إشكال، أما السنة المطهرة فهي بمجملها ظنية. ولا بد أن يجهد الفقيه نفسه في هذه المرحلة لإثبات صحة صدور النص عن المعصوم، طبقاً لآليات علم الرجال والدراية، وقد كتبت في ذلك موسوعات كبيرة، كان آخرها معجم رجال الحديث للإمام الخوئي رحمه الله. لكن الأهم من ذلك هو طبيعة فهم النص. فالفقيه عندما يكون له نظر في علم اللغة فمن الطبيعي أن ينبسط نظره على علم التفسير، وعلى قراءة النص الديني. فإذا تحرك على هذا الأساس اتسعت الرؤية أمامه، أما إذا لم يكن يملك أدوات اللغة والأدب العربي فلا شك أنه سوف يبحث عن آليات صرفة في صناعة الفتوى، وهذه الصناعة إذا تراكمت عليها الأصول الفقهية وفروعها فإنها تأخذ مساراً معيناً، ربما يبتعد بها عن الواقع، على العكس من سلامة الذوق التي تتولد من خلال ترداد ما جاء عن العرب في أمهات كتبهم، التي تبني وتصقل مواهب الإنسان. فالأدب يرقق النفس، ويفتح الخيال، ويوسع الرؤية.

لذا نجد أن الفقهاء الذين استطاعوا أن يفتحوا الأقفال التي أحكمت على بعض مسارات الفتوى التي أصبحت كالمقدس الذي لا يمكن رفع اليد عنه، هم إما من العرب، وإما ممن صُقلت مواهبهم بلسان العرب. لذا يذهب بعض علمائنا إلى أن الأصول لا يشكل عمدة في اختيار الأعلم، إنما العمدة هي سلامة الذوق. فعندما تقرأ للشيخ البحراني رحمه الله صاحب الحدائق الناضرة، أو الشيخ محمد أمين زين الدين رحمه الله، تجد أن لمسة الذوق في التعامل مع النص الديني حساسة، عالية الوتيرة، مع عذوبة بارزة. وكذا الحال في الفتاوى الواضحة للإمام السيد الصدر رحمه الله، تجد هذا اللون من الذوق شاخصاً، بسبب البناء الأدبي في شخصيته. فتجد في النهاية أن الفتوى تأخذ طابع الاستجابة لحاجات الناس أكثر وتنزل إلى واقعهم. في حين تقرأ بعض الرسائل العملية فتجد أنها كتبت للخاصة من طلاب العلوم الدينية، لا لعموم الناس بحيث يقرؤها الفلاح والبدوي في الصحراء وغيرهما. فتجد فيها المطالب الأصولية والرجالية والحديثية والمنطقية وما إلى ذلك.

ومن هنا نجد أن أكثر الناس بعيد عن الأحكام الشرعية، لأنه لا يستطيع أن يسبر غور الرسالة العملية، لا لقصور فيه، ولكن بسبب تلك اللغة العلمية الخاصة التي كتبت بها.

لقد كتب السيد محمد حسين البروجردي رحمه الله رسالته العملية فأسماها (توضيح المسائل) بلغة سلسة بسيطة سهلة الفهم، فقد عاش في النجف وكربلاء شطراً من حياته فانعكس على لغته الفقهية.

4 ـ فصل الفتوى عن رغبة الحاكم:

فالفتوى على مر التاريخ كانت خاضعة لإرادة الحكام، لا في المدرسة السنية فحسب، إنما في المدرسة الشيعية أيضاً، ففي العهد الصفوي كانت الفتوى مسيَّسة، وتأخذ طابع التسييس الواضح البين. فلا ينبغي أن نحاكم الفتوى على أساس مذهبي أيضاً، فهناك فتوى مسيسة لا علاقة لها بمذهب دون مذهب آخر، إنما هي فتوى إسلامية مسيسة. فالفتوى عندما تخضع لإرادة السلطان الحاكم تصنف على أنها فتوى سياسية وليست فتوى دينية وإن ألبست لباس الدين.

إن هذا الأمر شكل معضلة كبيرة في التاريخ. فأم المؤمنين عائشة عندما خرجت لحرب أمير المؤمنين (ع) ودعت أهل البصرة، لم يستجب لها أحد منهم، لذا أشار عليها ابن الزبير أن تلتقي قاضي القضاة في البصرة، فإن أفتى لها زحفت معها البصرة بقضها وقضيضها، وإلا فعليها أن ترجع. وهكذا التقوا مع القاضي فردهم، ثم عادوا إليه في اليوم التالي فرفض، لكنه في اليوم الثالث أفتى بما أرادوا، فوقع ما وقع.

نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.