نص خطبة:فلسفة التشريع بين الأمس واليوم ـ 2

نص خطبة:فلسفة التشريع بين الأمس واليوم ـ 2

عدد الزوار: 907

2016-06-21

الجمعة 11 / 9 / 1437 هـ

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

روى الزهري عن أنس بن مالك أنه قال: لم يكن أحد منهم أشبه برسول الله (ص) من الحسن بن علي ([2]).

في الأسبوع الماضي كان الكلام حول فلسفة التشريع الإسلامي بين الأمس واليوم، وأنها حاجة ملحة. والحديث موصول بما تقدم.

أركان التشريع:

هنالك ثلاثة عناوين لا بد من الفصل بينها، لأننا إذا ما خلطنا بينها في الأعم، فإن النتائج سوف تكون عكسية، ويترتب على ذلك من الخلاف فيما بعد الشيء الكثير. وهذه العناوين هي:

1 ـ الشريعة:

وهي عبارة عن مجموعة من النظم السماوية التي يخاطَب بها أفراد من البشر، يتحملون الوحي. وهنالك خلاف لدى الباحثين حول بداية هذه النظم التي تمثل الشريعة. فهل كانت مع آدم؟ وهل كان آدم نبياً؟ أو أن البشرية من آدم إلى نوح لم تخلُ من منظومة من الأنبياء والرسل لكن التاريخ لم يساعد الأمم على وضع يدها على تلك المنظومة؟ أم أن النبوات والرسالات إنما وجدت منذ زمن نبي الله نوح (ع)؟

هذه أسئلة تعبر عن آراء، ولكل رأي أنصاره وأعوانه وفق ما ينتهي إليه الدليل.  لكن الشريعة بمعنى الديانة هي في هذا الحد، أي أنها نظم اختطتها السماء من أجل سعادة الإنسان على وجه الأرض.

وهذه الشريعة عبارة عن الوحي الذي خوطب به النبي، أي نبي كان، والدستور الذي سعى لتطبيقه في الحياة. وبعبارة أخرى هي القرآن الكريم، والسنة المطهرة الواصلة إلينا بالطرق المعتبرة. فما سطّره القرآن الكريم والسنة الصحيحة هو الشريعة، فهناك منظومة طويلة عريضة من الأحكام يمثل مجموعها الشريعة. وعلينا أن نفصل هذا الجانب عن غيره، لأن من يختلف عليه ربما لا يكاد يكون موجوداً، على الأقل من أتباع الديانة الإسلامية، إنما يسلّم جميع من ينتمي للإسلام  أنه عبارة عن هذه المنظومة.

2 ـ الفقه:

وهنا لا بد من إثارة مجموعة من الأسئلة: هل أن الفقه هو الشريعة والشريعة هي الفقه؟ أي أن النسبة بينهما هي الترادف؟ وأننا يمكن أن نستبدل أحد اللفظين بالآخر؟ بمعنى أن عنوان الشريعة هل يمكن أن ينطبق على الفقه انطباقاً كلياً؟ أو أن العكس صحيح، بأن يكون الفقه هو الشريعة بكل معطياتها؟ أم أن هناك ما يستوجب التفريق بينهما؟

الفقه: هو عبارة عن المنظومة الكبيرة من الآراء والمباني الفقهية التي تندرج تحت عنوان المذهب الإسلامي، بشقّيه، لدى العامة والخاصة. أي لدى أتباع المذاهب الشيعية والسنية، فلكل مذهب مدرسته ولسانه وطريقته ومساره في التعامل مع الأحكام الشرعية.

فالطائفة السنية الكريمة تتمثل باتجاهاتها الأربعة: الحنبلية والشافعية والمالكية والحنفية. وهي تشكّل بمجموع مذاهبها القسيم للقسيم الآخر وهم الشيعة، أتباع مدرسة أهل البيت (ع). وهذه الطائفة هي الأخرى تندرج تحتها عناوين متعددة، أبرزها الإمامية والزيدية والإسماعيلية، فهؤلاء بالتقسيم العام شيعة، لكن الشيعة الإمامية لهم خصوصيتهم التي ينفردون بها، كما أن للزيدية خصوصياتهم، وكذلك الإسماعيلية. إلا أن المنصرف من مفردة (الشيعة) يتجه لأتباع مدرسة أهل البيت (ع) في مسارهم العقدي والفقهي الإمامي، فمن يلتزم بهذين المسارين كما هو واصل عنهم (ع)، فهو شيعي إمامي، ومن تخلف أو توقف عند نقطةٍ ما يكون خارجاً عن دائرة التشيع. لذا أن الخلط في الأوراق من خلال الأبواق الإعلامية على الطائفتين هو عبارة عن مؤامرة على الدين بحد ذاته، فلا الذين يتحاملون على أتباع الطائفة السنية الكريمة على حق، ولا الذين يتحاملون على أتباع مدرسة أهل البيت (ع) على حق. إنما يعيش هؤلاء في غفلة يُحرَّكون من وراء حجاب من حيث لا يشعرون في الأعم الأغلب، ولا نستطيع أن نحاكم النوايا، لكن المعطيات الخارجية والحصيلة النهائية هي مؤامرة على الإسلام، وعلى المسلمين أن يلتفتوا لها، وإن لم يلتفتوا لما يراد بهم فالمصيبة أكبر. وإلا فإن الجميع ينتسب للإسلام ويقول: إنني مسلم.

ولا شك أن هنالك روافد مذهبية أخرى، إلا أنها لا ترقى إلى تلك العناوين الثابتة عبر التاريخ، إنما هي أشبه ما تكون بشُعب من أصول مذاهب ثابتة ومستقرة.

فالمدارس الفقهية تنتسب للفقهاء الذين وضعوا أسسها، فلا نستطيع مثلاً الادعاء أن ما قاله الإمام أحمد بن حنبل، أو ما قاله الإمام أبو حنيفة، هو عين ما قاله النبي (ص) إنما هو قراءة لنصٍّ وصل عن النبي (ص) فإن كان بطريق قطعي فهو من كتاب الله تعالى، أو من سنة متواترة، وهذا واضح عند أعلام الفريقين، أو أنه وصل بطريق الآحاد، فهو ظني وليس قطعياً، فإن اكتنفته القرائن أخذ به الفقيه، وتعبد الناس بمعطياته، وإلا رفعت اليد عنه. أو على الأقل، إذا تعارض هذا النص مع الثابت أعرضنا عنه وصرفنا النظر.

وهنا تبدأ مفارقة بسيطة، هي أن أتباع المدرسة السنية الكريمة يقفون عند السنة الصادرة عن النبي (ص) قولاً وعملاً، أما الشيعة الإمامية فيرون قوله وفعله وتقريره سُنّة. ثم إن السنة عندهم لا تقف عند هذا الحد، إنما تتعدى إلى الأئمة الأطهار من أبناء علي (ع) فكل ما صدر عنهم من قول أو فعل أو تقرير فهو في دائرة السنة المطهرة.

فالفقه المذهبي يبدأ من خلال حَمَلة روايات أهل البيت (ع) وتطور هذا المسار، فقد انتدب الإمام المعصوم (ع) بعضاً من أصحابه لجهة أو ثغر أو مسجد أو جماعة، وأشار إليه بإبداء رأيه في التكاليف بناءً على ما حمّله من النصوص.

ولا شك أن قراءة النص والاستنباط منه في ذلك اليوم لا تستدعي ما يستدعيه الحال اليوم، بسبب الفاصلة الزمنية الطويلة من جهة، وطروّ العوامل الدخيلة على لسان اللغة العربية من جهة أخرى، فاليوم من يتحدث باللغة العربية الفصحى، ويستدعي مفرداتها القديمة فلا شك أنه يتحدث بلسان غريب في نظر العرف.

3 ـ الفتوى:

وهي العنوان الثالث في اصطلاحات التشريع، ولا بد أيضاً أن نسأل هنا: هل أن الفتوى هي الفقه؟ أو أن الفقه هو الفتوى؟ أو أن الأمرين مختلفان؟

الفتوى: هي عبارة عن تطبيق الشريعة والفقه كما جاء في القسمين السابقين، أي القرآن والسنة المطهرة، فيما استنبطه الفقيه، أي أنها الممارسة العملية. وهنا يبدأ التمايز بين الفقهاء، ولو أنني دخلت في هذا المضمار وفتحت الباب لاحتجت إلى سنة كاملة. فما يستوجب التمايز بين الفقهاء كثير ومتشعب جداً، فمثلاً: لماذا نصف فلاناً من المراجع أنه أعلم؟ هذه وحدها تحتاج إلى سنة كاملة لبيانها. فلا ينبغي لأحد أن يصاب بالغرور عندما يقرأ كلمتين في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي، إنما عليه أن يكون واعياً حذراً يضع الأمور في نصابها: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيْمٌ﴾([3]). ومنتهى العلم لله سبحانه وتعالى، فهو الذي أوجد العلم وأنعم به، فليس فوق علمه علم.

وتطبيق الشريعة والفقه في حياة المسلمين كان واضحاً قديماً وحديثاً.

الموقف من التشريع:

ومن هنا يستجدّ السؤال التالي: هل ثمة مشكلة في الشريعة الإسلامية بما هي شريعة عند المسلم؟ بمعنى أن المسلم هل يتهم النبي (ص) في شيء؟ أو يتهم الجيل الأول؟ أو يتهم الأمناء على الشريعة وهم محمد وآل محمد (ع) بشيء؟ بظني أن الجواب هو: لا، فالشريعة إذن لا مشكلة فيها.

وإن كان السؤال عن الأمر الثاني، وهو الفقه، فالجواب أيضاً بلا، لكن على نحو الإجمال، لا على نحو التفصيل، أي أن هناك من يأخذ ويترك، ويرفض ويقبل، ولكن ليس حسب المزاج.

أما إذا تعلق الأمر بالنحو الثالث، وهو الفتوى الشاخصة في الخارج، الآتية من استنباط العلماء اليوم، فنستطيع أن نقول بملء أفواهنا: نعم، هنالك خلاف، ولكن على نحو الإجمال أيضاً، فهناك ما هو مجمع عليه، وما هو مختلف فيه.

وبالنتيجة أنه لا خلاف في أصل الشريعة مطلقاً، وكذلك المدرسة المذهبية في فقهها العام، أما الفتوى بما هي فتوى فلا، فقد لعبت الفتوى أدواراً خطيرة في التاريخ الإسلامي، كما هو الحال في تلك الفتوى التي صدرت بقتل الإمام الحسين (ع) تقرباً إلى الله تعالى. وفتوى رمي الكعبة بالمنجنيق، وفتوى بقر بطون الأمهات اللاتي يشتبه بحملهن بالإمام المهدي (ع)، وغيرها من الفتاوى المماثلة. وهو ما نحاول بيانه فيما يأتي من الأيام، إن شاء الله تعالى.

نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.