نص خطبة:فلسفة التشريع بين الأمس واليوم - 4
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على اشرف أنبيائه ورسله حبيب اله العالمين أبي قاسم محمد، صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين ثم اللعن الدائم المؤبد على أعدائهم أعداء الدين
رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾[1]
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح واجعل نيتنا خالصة لوجهك الكريم يا رب العالمين
﴿سُبحـٰنَ الَّذى اَسرىٰ بِعَبدِهِ لَيلاً مِنَ المَسجِدِ الحَرامِ اِلَى المَسجِدِ الاَقصَا الَّذى بـٰرَكنا حَولَهُ لِنُرِيَهُ مِن ءايـٰتِنا اِنَّهُ هُوَ السَّميعُ البَصير﴾[2]
جاء في الحديث الشريف عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر جمعة من شهر رمضان فلما بصر بي قال لي: يا جابر هذا آخر جمعة من شهر رمضان فودعه وقل: (اللهم لا تجعله آخر العهد من صيامنا إياه فان جعلته فاجعلني مرحوما ولا تجعلني محروما) فإنه من قال ذلك ظفر بإحدى الحسنيين إما ببلوغ شهر رمضان واما بغفران الله ورحمته»[3]
الملاحظ على جابر بن عبدالله الانصاري في نقله للاحاديث رضوان الله تعالى عليه انه يعيش حالة من الخصوصية لا يمتاز بها الكثير من اصحاب النبي (ص) الذين نقلوا الحديث عنه، حديثه عن رسول الله (ص) يحمل طابع التفرد والاختصار وهذه ميزة تضاف لشخص هذا الرجل، هذه الحظوة، هذا الاجتباء من النبي (ص) له والافراغ عليه من العلوم الخاصة والكنوز يعطي دلالة واضحة على ان للرجل مكانة خاصة.
صدور الفتاوى الخطرة؛ الاسباب والدوافع
بقي للحديث حول فلسفة التشريع بين الأمس واليوم حاجةٌ ملحّة فيها تتمة ولعلي ايضا لا اقف على نهايته اليوم وارجئ الجزء الأهم منه الى ما بعد الشهر الفضيل حتى آخذ مساحة في البسط في الكلام وقتها، اخطر الفتاوى التي اخذت بالأمة الى اتجاهات متشعبة لم تخرج من دائرة الوقوع تحت تأثير واحد من هذه العناصر التي سوف اقف عليها على نحو السرد والاختصار مبتعدا عن البسط فيها كثيرا.
الثقة بالنفس وعدم الالتفات الى الكتاب الكريم والسنة المطهرة
السبب الأول وجود حالة من الثقة بالنفس المفرطة بحيث لا يلتفت الى الرافدين الاساسيين في الحكم الشرعي وهما الكتاب الكريم والسنة المطهرة يستعين الفقيه في ذلك بالعقل المجنح لا العقل المقنن وهذا عصف بالمدرسة العامة منذ البذرات الأولى لمدرسة الفقه، أما أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) فقد تسلل الى بعض أروقتهم بعد أن أخذ الاجتهاد مساحته في استنباط الاحكام الشرعية بذرته أوائل الغيبة وأخذ بعده الكبير في القرن السابع، أما اليوم فحدث ولا حرج، العقل عندما تعطى له السلطة المطلقة ويبتعد صاحب الحراك العقلي عن الضوابط الأساسية (الكتاب والسنة) وهي العاصمة من قبل الله سبحانه وتعالى ويشترك فيها جميع الناس تذهب بالإنسان المذاهب الى مسافات بعيدة، اصلا لو تحاكم اصحاب الراي في الكلام والفقه والتفسير والتاريخ والاجتماع والسياسة الى الرافدين المحكمين لما وجدت هذه التشعبات وهذه الطرق والمذاهب وما الى ... العقل عندما يجنح يعني صاحب العقل يصبح في فضاء خاص لا يرى غيره الا دونه، ثم يتطور في هذا المسار الى ان يقترب الى مساحة مشرع التشريع والعياذ بالله حتى في مرحلة «وإن» أي وان وجد نص! يبقى لا يجعل الحاكمية الا للعقل الشخصي في حراكه وتنقلاته! تولد على هذا الامر عنوانٌ جديد اسمعه القياس ذهب وراءه احد أئمة المذاهب الأربعة الشقيقة للطائفة السنية الكريمة وذهب بأتباعه إلى مسافات حدث ولا حرج، بحيث احدث أشبه ما يكون بفقه جديد! وعندما يقال فقه جديد أي غير مستأنس به، لم يكن معروفا فيمن سبق، أي الى زمن الامام الصادق (ع)، بعده من جاء من تلاميذه وتلاميذ تلاميذه وهم ائمة المذاهب الأربعة أخذت الأمور مسارات معينة، هذه المسارات اما ان تكون مرتبطة بالأصل استصحاباً فتكون في دائرة: قال رسول الله (ص)، أو من كان من أتباع مدرسة اهل البيت عليهم السلام قال: قال الرسول (ص)، او قال واحدٌ من الكوكبة النيرة من آل الرسول محمد (ص)، لكن من خرج عن هذا الى المسار الثاني جعل القول ما قاله الرسول او ما انتهى اليه بعقله الشخصي حصل مسار القياس قياس القضايا بالقضايا قياس الأحكام هنا بالأحكام هناك.
التحذيرات الواردة في خصوص القياس
القياس حذرت منه السنة المطهرة وقبل ذلك ايضا يستشعر من الكثير من الآيات الشريفة الغمز في هذا المسار وتنبيه الأمة للغائلة المترتبة عليه ان هي سارت وفق معطياته، القياس لأنه احدث عاصفة هوجاء في وسط المسلمين لم يجد الإمام الصادق (ع) ومن جاء بعده من الأئمة عليهم السلام مندوحةً في ان لا يضعوا يدهم على النقاط ويمكنوها من الحروف لذلك مثلا نرى هذه الرواية التي يرويها أبي شيبة الخراساني عن الامام الصادق (ع) حيث يقول: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: «إنّ أصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس فلم تزدهم المقاييس من الحقّ إلاّ بُعداً، وإنّ دين الله لا يصاب بالمقاييس»[4]، هذا نص صريح واضح بيّن اننا مهما رتبنا من مقدمات لم تتولد الا بناء على استنتاجنا الشخصي ليس بالضرورة ان ينتهي بنا إلى الحق بل ربما كما في النص الشريف فلم تزدهم المقاييس من الحقّ إلاّ بُعداً، هم تصورا انهم اقتربوا من الحق واعطوه السلطة، لكن الامام (ع) يقول لا هذا خطأ بل على العكس من ذلك تماماً هم من خلال اتكائهم على العقل في استنتاجه الصرف ابتعدوا واقصاهم ذلك عن الارتماء في احضان الاساس المكون للحكم الشرعي ألا وهو الكتاب والسنة المطهرة، أيضا في رواية اخرى عن جابر عن أبي عبد الله (ع) قال «سألته عن قول الله: ﴿اِتَّخَذوا اَحبارَهُم و رُهبـٰنَـهُم اَربابًا مِن دونِ الله﴾ [توبة: 31] قال: اما انهم لم يتخذوهم آلهة الا أنهم أحلوا حراما فأخذوا به، وحرموا حلالا فأخذوا به، فكانوا أربابهم من دون الله»[5]؛ فالربوبية هنا تعني الرمزية لا انها ترادف مفردة الإله يعني هم لم يسجدوا لهم كما يسجدون لله ولكن يتعبدون بمعطيات استنتاجهم العقلي هذا واضح هذا الامر ايضا قد يكون في وسط الأمة التي نعيش نحن فيها اليوم له ايضا نصيبه وحظوته لعلي لا اذهب بعيدا، قلت هنالك ايضا مسارات كثيرة اوكلها الى بعد الشهر الفضيل ان شاء الله تعالى.
بعض التنبيهات السريعة
العيد على الابواب ونحن على وشك ان نغادر افضل المساحات للقرب من الله وان كان من المفترض ان نكون قريبين منه في كل آن لكن يبقى لشهر رمضان خصوصيته، فهو ربيع القرآن وهذا ضربٌ من الامتياز، وهو شهرٌ الله سبحانه وتعالى اصطفاه واضافه الى نفسه من بين الشهور، ان شاء الله الكل صام وقام وتعبد وتهجد، نسال من الله سبحانه وتعالى القبول، الاشراقة الايمانية واضحة طافحة بينة على وجوه المؤمنين آثارها ايضا منعكسةٌ بشكل واضح على تصرفاتهم القولية والفعلية واقعا هذا الشهر من اجمل الشهور واكثرها اسقاطا ايجابيا على مشهدنا الاجتماعي فيه النورانية فيه المحبة فيه التكاتف فيه التعاون، ولا ينكر هذا منكر.
الاستفادة القصوى من العيد لإبراء الذمم
الامر الاول الذي وددت ان أشير اليه ايها الاحبة هو ان العيد ينبغي ان نستفيد منه الاستفادة الصحيحة بما يتناسب والمناسبة الكريمة، العيد من العود فعلينا ان نستفيد منه في جانبه العبادي، وللعيد عباداته وطقوسه الخاصة، طبعا نحن ان اجتمعنا على عيد واحد فان صلاة العيد ستقام وان حصل اختلاف فالله خير العاذرين، نحن رسمنا منهجا عندما لا يكون هناك اتفاق على يوم العيد لا نصلي صلاة العيد، نسأل من الله سبحانه وتعالى ان يجمع كلمتنا ان شاء الله، أيضا إذا كان بيني وبين احد من أفراد عائلتي سوء تفاهم ولم اتمكن من تداركه خلال هذا الشهر الفضيل فلابد ان لا تفوتني آخر فرصة وهي فرصة العيد، ايها الاحبة العمر يمر سريعا، فجأة واذا بالناعي ينعى لماذا أحمل الحقد والغل! لابد ان اتدارك أمري قبل فوات الاوان، اذا انا في ليالي القدر لم اتمكن أن أعيش مساحة إبراء الذمم فان العيد آخر فرصة حتى لا يعود علي وأنا احمل ذات القضية والمشكلة
الابتعاد عن المظاهر المخلة بالآداب العامة والخاصة
الأمر الثاني هو الابتعاد عن المظاهر المخلة بالآداب العامة والخاصة هذا ايضا شيء مهم، كم أناس في السنوات الماضية خرجوا من شهر رمضان بفرحة العبادة ودخلوا في العيد بفرحة العيد ولكن يوم أو يومين بعده وبسبب السرعة الجنونية وعدم الالتزام بالقوانين المرورية ذهبت عوائل كاملة وليس أفراد وقلبت الفرحة ترحا والسعادة حزنا، بسبب تصرف طائش، احيانا الشخص يعتدي على نفسه وأهله ويعتدي على غيره ايضا! لماذا؟ أليس هو عيد؟ فلابد ان تكون هذه الورد الجميلة الرحمانية الروحانية التي اقتطفناها من شهر رمضان ندية وتبقى طرية لا نسقط أوراقها هذا شيء مهم الآداب العامة في جميع البلدان المتحضرة لها احترامها وتقديرها.
مراعاة القوانين العامة واحترامها
القوانين أيضا لها احترامها وتقديرها وأنا أقول واكرّر بان السيد المرجع حفظه الله تعالى وأطال في عمره الشريف يلزم مقلديه مراعاة القوانين العامة، يعني لا يجوز ان تتخطى قوانين المرور أو قوانين الصحة أو قوانين الوزارة الفلانية أو...، السيد المرجع لا يجوّز التلاعب بالقوانين تحت اي ذريعة كانت فيجب ان نلتفت لهذه القضية وهي قضية مهمة جدا فيها حفظ للأنفس والأموال والأعراض فلابد ان لا ننزعج ولا نزعج الآخرين.
أهمية تقنين اظهار الفرح
في شهر رمضان مرت علينا مناسبة عظيمة وهي مناسبة ميلاد الامام الحسن (ع) وطبيعة الناس الموالية هي ان تفرح في مثل هذا اليوم، بالتالي هو ميلاد السبط المجتبى ابن الزهراء سلام الله عليها فمن الطبيعي الفرح ولا يستطيع أحد أن يصادر هذا الحق، لأن حالة الفرح ان لم يعبر عنها في الظاهر سوف تبقى في الداخل، هذه الخصوصية لا يمكن لاحد ان ينتزعها من الداخل كائنا من كان، لكن حالة ابراز الفرح ايضا ينبغي ان تكون مقننة تتماشى مع النظم العام فيما بيننا وبين الجهات الرسمية المسؤولة، هذه مسؤولية نحن عقدناها التزاما مع الجهات الأخرى وهذا شيء طبيعي، أي انسان يعيش في مكان تحكمه القوانين عليه ان يحترمها سواء كانت هذه القوانين في دائرته أو في الشارع أو ... عليه ان يحترمها والا سيكون هناك هرج ومرج، وارواح الناس وممتلكاتهم ستكون رخيصة، كذلك الممتلكات العامة للدولة تصبح رخيصة، حينها من الخاسر؟ فمردود بعض التصرفات يجر لنا السوء، انا اهمس في اذن الجهات الرسمية واقول لهم احيانا ليست الطبقة المؤمنة المتدينة هي التي تحدث الخلل، احيانا هناك من يندس في اوساطهم ولا ينبغي ان يدفع الضريبة الجميع، بل ينبغي ان يوضع ثمة ميزان يبرز هذا عن ذاك.
التعاون مع الجهات الرسمية في بسط الامن
أيضا علينا ان نتعاون مع الجهات الرسمية ولا نتستر على الاشخاص المندسين الذين يربكون المشهد ويسيئون إلى النسيج العام، لأنهم لا يستحقون ذلك، هم يصادرون مواقفنا وقضايانا، هم يربكون أوراقنا فلابد ان نلتفت إلى هذا الشيء، أنا كان بودي ان اختصر ولا اطيل عليكم لكن أهمية الأمر تحتم هذا الشيء، فلابد ان نتحمل المسؤولية لا ان اقيم المناسبة وأعطيها بعدا زائدا بعدها اخسر كل مناسباتي! هذا ليس من العقل ولا من الحكمة، «من أراد ان يطاع فليأمر بما يستطاع» لابد للشخص ان يتأمل في قدراته وإمكانياته والفرصة المتاحة أمامه ويتحرك ضمن حدودها وضوابطها، لا ان يذهب إلى البعيد، البلد ليس هو متروكا هكذا بل له مسؤوليه ورعاته فلابد ان نكون نحن على مستوى المسؤولية عن مراسيمنا سواء كانت مراسيم الحزن أو مراسيم الفرح. نسأل من الله سبحانه وتعالى ان يحفظ بلادنا وأن يدفع عنها كل سوء يراد بها من الداخل ومن الخارج، وقد قال رسول الله (ص): نعمتان مجهولتان الامن والعافية»[6] انتم تتذكرون يوم من الأيام عندما كانت بعض الحركات الشيطانية من أباليس الارض والدواعش كيف أصبح الوضع عندنا، فلابد ان نقدر ذلك، صحيح ان حماتنا ينهضون بالمسؤولية، لكن الجهة الرسمية أيضا تنهض بأكثر من ذلك وأضعاف ذلك، ان تفشل المحاولة قبل حدوثها، هذا نجاح مائة بالمائة، نحن في ليالي القدر احيينا هذه الليالي في الجامع بكل هدوء واطمئنان وراحة وكان عدد الحماة كثيرين، لكن عرفنا بعد ذلك ووصلنا الخبر انه كانت فرقة كاملة من العناصر الأمنية المتعددة مكلفة بالأمن! هؤلاء لماذا جاؤوا؟ أليس من أجل حمايتنا؟ أليس من اجل ان نؤدي نسكنا في احسن حال وفي وضع آمن، فينبغي ايها الأحبة ان نتعامل مع الأمور في حدودها.. باقي الناس ينتظروننا أرواح الموتى الذين فقدناهم وبالأخص الشهداء المدنيين منهم والعسكريين نهدي لأرواح الجميع الفاتحة مع الصلوات.