نص خطبة: فضل العلم وتعلمه

نص خطبة: فضل العلم وتعلمه

عدد الزوار: 2680

2015-09-06

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

فضل العلم:

قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِيْنَ يَعْلَمُوْنَ وَالَّذِيْنَ لَا يَعْلَمُوْنَ﴾([2]). 

وفي الحديث الشريف عن النبي الأعظم (ص): «من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة»([3]). وفي حديث شريف آخر عن النبي محمد (ص): «تعلموا العلم فإن تعلُّمَه حسنة، وطلبته عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه صدقة وبذله لأهله قربة»([4]).

رفع الإسلام لواء العلم خفاقاً منذ أيامه الأولى عندما صدع النبي (ص) بالرسالة بقوله تعالى: ﴿اقرأ﴾، وما إن حطّ رحاله في المدينة، وحدثت واقعة بدر الكبرى، إلا وأسس للعلم من خلال عتق الأسراء بتعليم المسلمين القراءة والكتابة لتكون أول مدرسة سيارة يعرفها التاريخ. وكفى هذا الدين شرفاً أنه لم ينسَ ما للعلم من قيمة حتى في أحلك الظروف وأشدها قساوة.

ثم سار الركب بالمسلمين، وراية العلم خفاقة تفتح الأبواب وتجتاز الموانع، حتى أحب الإنسانُ ـ بما هو إنسان ـ في الشرق والغرب الإسلام؛ لأنه يرفع راية النور والهداية والعلم والمعرفة.

وتعاقبت على المسلمين دول كان لها أثرها في تحريك عجلة العلم تارة، وتعطيلها تارة أخرى، وبين المسارين كان أهل البيت (ع) يحملون أنفسهم الكثير الكثير من أجل أن تبقى راية العلم هي الراية التي تسود واقع من حولها. لذلك خلفوا وراءهم موروثاً عظيماً، في الوقت الذي انشغلت الأطراف الأخرى بجمع الغنائم وتقسيمها حصصاً وفق ما سُنّت له القوانين المتماشية مع الحاجات والرغبات.

نظرة في حواضر العلم:

وجاءت الكوفة وليدة المدينة حيث الإمام جعفر بن محمد (ع) وهنا ينبغي أن نلتفت لأمر مهم جداً ألا وهو ما للمدينة المنورة من أثر قويٍّ جداً في تأصيل مبادئ مدرسة أهل البيت (ع) وإن كان الكثير من الباحثين لا يعنى بهذا الجانب كثيراً، ولو سمحت لنا الظروف في القادم من الأيام فسوف نسلط شيئاً من الضوء على هذه الحلقة التي لم تحظَ بنصيبها مع شديد الأسف.

تعتبر الكوفة العاصمة العلمية لمدرسة أهل البيت (ع) وإلى يومنا الحاضر يمثل ظاهر الكوفة ـ وهو النجف الأشرف ـ هذه الجهة، فهو القلب النابض للحراك العلمي في أوساط أتباع مدرسة أهل البيت (ع). ولكن ذلك لا يعني أن الأمور منحصرة في هذا الجانب، بل اعترضها الكثير من المدّ والجزر مروراً بمفاصل التاريخ التي تقضّت، وهي عبارة عن قرون وعقود.

والإنسان المنصف هو من يحاول أن يجمع بين هذه المحطات لينتزع منها في نهاية المطاف ما يصدق عليه عنوان (الحوزة الكبرى) في أوساط أتباع مدرسة أهل البيت (ع). فهي حلقات تشابكت فيما بينها، امتازت كل حلقة منها بامتيازات خاصة لم تتوفر في غيرها.

وقبل سنوات يسيرة استعرضت المحطات التي ألقت الحوزة ـ كعنوان ـ رحالها فيها، وكم كان لها من العطاءات، ومن شاء فما عليه إلا أن يراجع صفحة جامع الإمام الحسين (ع) ليقرأ الكثير مما تقدم سرده، ولا داعي للإعادة والإطالة فيه.

فالكوفة هي الأساس، وإلى جانبها البصرة وقم والقاهرة. أما الكوفة فالحال فيها واضح  بيّن لا يحتاج إلى مزيد من التعريف. وربما يكون الحال كذلك مع قم، فإن لم يكن متقدماً في هذه الفترة الزمنية فهو لا يقل عن الحال فيما يتعلق بالنجف، مع حفظ الامتيازات هنا أو هناك.

أما البصرة فهي دائرة مفرغة من حيث إن هناك القليل ممن يعتني بها، وهذا مما يؤخذ على الباحثين الذين لا يحاولون أن ينفتحوا على جميع المسارات، ويستقوا من جميع ما كتب من روافد تمثلها هنا وهناك، حيث إن المسألة التي تعترض طريقهم في الكثير من الأحايين هي أحادية التوجه والفكر والانطواء على الذات، لذلك تُدفع الضرائب الكثيرة، وسوف تبقى تلك (الفواتير) تُدفع تباعاً ممن هو معنيٌّ بالدرجة الأولى. وربما لا يُعفى من ذلك من لا يعنيه الأمر، وإن كان لديّ تحفظ على هذا التعبير، إذ من المفترض أن يكون الجميع يعيش هماً واحداً وقضية مشتركة.

ففي البصرة أعلام وأقطاب، ومنها خرجت كتب وأسفار، لكننا مع شديد الأسف كنا نهمل هذا الجانب، في حين أن لأعلامها أثراً في كل مسارات المعرفية في حدود دائرة الحوزة العلمية، وآراء أقطابها إلى اليوم تفرض نفسها على الكثير من مشاهد بحوث الخارج وعلم التفسير. أما العربية فلا يشق لها فيها غبار. فالبصرة هي البصرة في هذا المضمار، سيدة اللغة العربية في طابعيها السليقي والصناعي.

أما القاهرة فقد انتمت إلى مدرسة أهل البيت (ع) لفترة ليست بالقصيرة، وآثارها واضحة بينة، وإن لم تكن على مسلك الإمامية، إنما هي إسماعيلية الهوى، تقف عند إسماعيل ابن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) ثم تنفرد عن مسار أتباع مدرسة أهل البيت (ع) من الإمامية الاثني عشرية، ولكننا ينبغي أن نقرأها أيضاً في حدود هذا الإمام العظيم، والتلاميذ الذين تخرجوا من الكوفة ثم التحقوا بحاضرة القاهرة ليضعوا أسساً لمجموعة من المعارف إلى يومنا هذا تتأثر بها مدارس المذاهب من حولها. لذلك عندما نريد أن نقرأ بتمعن وفي حالة من الانفتاح نجد أن المسار الفقهي في مصر، ومنذ أيامه الأولى إلى يومنا هذا لا زال يتحرك في مساحة من الرؤية تحسد عليها إذا ما قيست بغيرها من المذاهب الشقيقة، ولعل ذلك يرجع إلى التأثر بمدرسة الإمام الصادق (ع) التي انفتح عليها المذهب الشافعي بصورة واضحة، ولم يكن المذهب المالكي بمنأى عن ذلك، بل إن الدراسات والقراءات تساعدنا على فهم ذلك الواقع كما ينبغي.

وبالنتيجة كانت القاهرة ومصر على ذلك الحال لفترة من الزمن، حتى حصل ما حصل وتبدلت الأحوال، والناس في أغلب الأحوال على دين ملوكهم، فحيث توجهت السلطات والحكومات والسلطنات وأشباهها يكون الانعكاس على الشارع العام، ويحصل التوجه والانتماء. وهذه ربما تحكمها الكثير من الظروف الطبيعية وأحياناً تتدخل الظروف الطارئة المستوجبة لصرف المسار من حاله الطبيعي إلى حال هو أبعد ما يكون عن ذلك كثيراً.

تضييق الفجوة بين العالم والأمة:

والأمر الآخر الملاحظ في مدرسة الإمام الصادق (ع) أنه أوجد حالة من الربط عديمة النظير فيمن تقدمه، وربما إلى عصور متأخرة، ألا وهي الحلقة الواصلة بين رجالات العلم وأبناء الأمة من حولهم. ففي فترات من الزمن كانت مناصب شيخ الإسلام، وقاضي القضاة ومفتي الديار، تحظى بخصوصية، وهيبة العالم تساوق هيبة السلطان، فكما أن أحداً لا يستطيع أن يُقدم على محادثة الحاكم بسهولة، كذلك كان الأمر في التعاطي مع علماء الأمة ورجال الدين، ولعل السر في ذلك هو الارتباط الوثيق الذي كان بين المجموعة العلمائية وحكام الدول التي تعاقبت، وربما يكون الأثر هو الوضع الذي كان يعيشه أولئك العلماء وما كانوا يحظون به من امتيازات انعكست على سلوكهم فأعطت لهم تلك الخصيصة. وربما يكون الأثر للمسافة الشاسعة بين هؤلاء فيما يتمتعون به من علم ومعرفة وعلاقات خاصة، وما يعيشه السواد الأعظم من الناس من الجهل والأمية والفقر وما إلى ذلك من الأمور. وإلى عهد ليس بالبعيد جداً، كانت آثار هذه الأمور واضحة وبينة، رغم أنهم لم يكونوا أيضاً في ركب معين وليست لهم انتماءات واضحة أو تعاون واضح مكشوف، ولكن مع ذلك كنا نقرأ في رجل الدين إذا ما اجتاز في زقاق أن الزقاق له، وإذا ما استدعي في وليمة أنها له، وأننا إذا دار الأمر بين أن نسأل ونستوضح عن أحكامنا، أو نطوي عليها السنين تلو السنين في أعمال لا تتطابق مع الشرع من أجل أن لا نحصل على كلمة نبز من هنا أو ردع من هناك، كنا نختار الثاني،لنسلم على أنفسنا ونعيش فترة من الزمن لا نحسن طهارة ولا نصحح صلاةً ولا نتمُّ حجاً ولا نقضي واجباً إلا وفيه الكثير من الخلل، لا لشيء إلا لأننا نقرأ في رجل الدين وقتها ما نقرأ في الحاكم من أمور تقدم له، وهي ليست من الفرض بمكان فيما يتعلق برجالات العلم.

الانفتاح على التيارات العلمية:

لقد فتح الإمام الصادق (ع) مجلسه على مصراعيه، واستقبل القريب والبعيد والكبير والصغير والرجل والمرأة والعالم والجاهل، وانفتح على جميع طبقات المجتمع، ولم يغلق بابه أبداً، إنما كان صدره رحباً، أرحب من مجلسه في حدوده.

وعندما تفتش عن قطب من الأقطاب ورمز من الرموز عاش في وسط الأمة مع صراع مذهبي واضح صبغت من خلاله مياه دجلة والفرات لن نجد، شخصاً حظي بهذا المقام كما كان يحظى به الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع).

وفي زمانه نشط الملحدون والزنادقة وتغيرت وتقاطعت الآراء والأفكار فيما بينها، لكنه لم يغلق باباً، ولم يوصد سمعاً، ولم ينطوِ على نفسٍ، إنما كان للجميع على قدم المساواة، يسمع منهم وينفتح معهم ويتعاطى، ينقض ويردّ ويبني ويؤسس ويدفع بالحراك إلى المستقبل. لذا تجد أن كلمات القوم ـ إلا من شذّ منهم وتحركت في داخله حسيكة النفاق والنصب الكريه ـ مجمعة على الإذعان بفضله، ولم يصدر منهم إلا ما فيه الثناء والتجلة والتعظيم لمقامه.

يقول أحدهم، وهو من رموزهم وأقطابهم، وكبير جداً عندهم: والله ما دخلت على جعفر بن محمد إلا وهو على واحدة من ثلاث، إما صائم أو قائم أو متكلم في نفع للعامة من حوله.

لم يكن هذا القائل على توافق معه، ولا منتمياً لمدرسته من قريب أو بعيد، لكن الواقع يفرض نفسه.

العلم والوعي:  

كان الإمام الصادق (ع) يبث الرجال المعنيين المزودين بسلاح العلم والوعي، فالعلم وحده لا ينفع ولا يشفع ولا يقدم ولا يؤخر، ما لم يكتنفه الوعي، فحالة القراءة الصحيحة لأبناء الأمة من حول العالم هي التي تعطي للعلم قيمة، وإذا ما جرد العلم عن هذه الحالة من القراءة الواضحة البينة ربما يكون وضعاً للشيء في غير موضعه وهو أمر قبيح جداً.

لقد دأب الأئمة (ع) على توجيه أتباعهم للنزول إلى ساحة المجتمع، فهذا الإمام الباقر (ع) يلتفت إلى أحد أصحابه قائلاً: «اجلس في مجلس المدينة، أفتِ الناس، فإني أحب أن أرى في شيعتي مثلك»([5]). يقول له ذلك لأنه قرأ فيه أنه استجمع جميع الآليات التي على أساسها يمكن أن يندفع في وسط الأمة.

وهكذا كان من الإمام الصادق (ع) مع هشام بن الحكم وهو دون سن البلوغ، حيث اختاره من بين الكثير من المشايخ ليشتغل في علم الكلام والمناظرة. ألا يعطينا هذا درساً، ويقدح في أذهاننا بارقة أمل أن نتصفح الأمور من حولنا ونقرأها قراءةً صحيحة؟ أم أننا نأبى إلا أن نعيش في مواقعنا وما ورثناه من تكريمٍ لم يُبنَ على أسس في الكثير من حالاته؟

من المستحسن أن نحترم علماءنا جميعاً، ولكن على أساس الوعي والفهم والإدراك، فهذا الزمن يختلف عما كان في الماضي، فلم يكن آباؤنا كما عليه الآباء اليوم، كما أن الأبناء اليوم ليسوا كحال الأبناء بالأمس، فلم لا نعطي لهذه الشرائح من مجتمعاتنا المساحات التي تتناسب والوضع الذي يعيشونه؟ فهؤلاء خلقوا لزمان غير زماننا، فلم لا نعطيهم ما أعطته إياهم الشريعة؟

لقد تحرك الإمام (ع) في هذا الجانب ووزع الرجال المعنيين من الواعين المزودين بالعلم والوعي في وسط الأمة، لذلك رشدت مجتمعات كثيرة.

من هنا كان الإمام الصادق (ع) في غنى عن أن يدخل في صراع مباشر، ما دام هنالك من يقوم بالمسؤولية، لا على أساس الصراع المعروف المتبادر لأذهاننا، إنما الصراع الفكري المبني على أساس النقد الواعي، ومن لا يقبل النقد عليه أن يبحث عن زاوية ضيقة ليعتكف فيها، فالنقد حق مشروع لكل الناس، وعلى الناس أن يتعاطوه، وقبل أن يتعاطوه عليهم أن يعدوا أجندته الكافية ليكون مبنياً على أساس العلم والوعي والمعرفة ليقدم خدمة ونتاجاً لأبناء الأمة كي تسعد الأوطان وترشد الأمم.

أسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.