نص خطبة: فاطمة الزهراء عليها السلام رائدة الإصلاح في الأمة

نص خطبة: فاطمة الزهراء عليها السلام رائدة الإصلاح في الأمة

عدد الزوار: 312

2015-02-06

الزهراء (ع) رائدة الإصلاح:

قالت الزهراء (ع) بعد وفاة النبي الأعظم (ص): «والأمر بالمعروف مصلحة للعامة»([2]).

لأهمية هذا الفرع في بناء الأمة وصيانتها، جاءت النصوص في الكتاب والسنة متواترة فيه.

فمما لا شك فيه أن الإنسان تتجاذبه الكثير من المصالح، يذهب البعض منها بالإنسان بعيداً عن دائرة الدين والالتزام، وحب الدنيا رأس كل خطيئة. لذا يستغرب المرء كثيراً من أناسٍ سمعوا الآيات الكريمة على لسان النبي (ع) فلم تجد لها محلاً في قلوبهم، بل على العكس من ذلك تماماً، وكأن تلك الآيات لم تخاطب تلك القلوب، ولم تتسلل إليها.

يقول تعالى في سورة آل عمران: ﴿وَلْتَكُنْ‏ مِنْكُمْ‏ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ([3]).

لكل شيء في الحياة ضريبته، فليس هنالك من شيء إلا والضرائب تدفع بين يديه، حتى يمكن الإمساك به، والتحكم والتصرف فيه، حيث أراد الساعي وراءه أن يحصل عليه.

فالزهراء (ع) وجدت نفسها أمام معالم انحرافة خطيرة وسط الأمة، وتخلٍّ عن الدور بالمطلق، لذلك نهضت، وهي ذلك العنصر الذي يُعدُّ في ميزان العرف والمنطق البشري آنذاك ضعيفاً، لكنها في منطق السماء المصدر للكثير من الفيوضات، ولا يصدر الفيض إلا عن قوة ومنعة وقدرة على الاستدامة والإثراء.

ولم تكن الزهراء (ع) وحيدة ليتعين عليها النهوض بهذا الفرع وجوباً عينياً، لكنها لما وجدت أن المخاطب به، والمكلف بالقيام بأعبائه من الرجال قد تخلوا عن مسؤولياتهم، نهضت هي بأعبائه، وكان الثمن غالياً، والضريبة باهضة التكاليف، وهي حياتها الشريفة، وحياة السبط الثالث، المحسن بن علي.

فالدنيا اليوم عامرة بالسلالة الطاهرة من الحسن والحسين (عليهما السلام)، اللذين ما انفكّا يقدمان الدماء والمداد عبر مسار الطائفة من أجل حفظها ورعايتها. فلو أن الضلع الثالث لم يسقط، وكتب له البقاء، ومدّ البشرية بالفيوضات المفاضة عليه بسيدة نساء العالمين، وكانت الذرية المحسنية كما هي في الحسينية والحسنية، فما عسى أن يكون وجه العالم ومسار الطائفة؟.

لقد واجهت الزهراء (ع) وضعاً استثنائياً، فغياب النبي (ص) وانصراف الأمر إلى جهة معينة، وغياب الرمز المبايَع من قبل عموم المسلمين آنذاك في الغدير، شكّل حالة من الانعطافة الخطيرة جداً، والنافذة المشرعة على مستقبل ملغَّم.

لقد قرأت الزهراء (ع) مستقبل الأمة بما أوتيت من نفحة سماوية خاصة مستقبل الأمة، وشخصت حالة الخلل فيها، ووضعت العلاج، وهو أن الأمر بالمعروف مصلحة للعامة، أي أن الجميع عندما يشتركون في النهوض بهذا الفرع، فإن الأمة سوف تدرك مصلحتها، وتسير في الاتجاه الصحيح الموصل إلى الهداية والسعادة، وغيرها من النتائج الطيبة التي كان الإنسان ولا زال يسعى من أجلها، وهي التي بشر بها الأنبياء والرسل (ع) جميعاً، وكذلك الأئمة من آل محمد (ع) فهم الهدي المطلق.

دور المرأة:

وفي سورة التوبة يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ‏ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزيزٌ حَكيمٌ([4]).

إذن، هناك مساحة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكل من الرجل والمرأة، فالرجل للرجل، والمرأة للمرأة، والعكس بالعكس أيضاً، لأن بعضهم أولياء بعض. إلا أننا نشاهد أن هناك من يناقش إلى يومنا هذا حول ولاية المرأة أو عدم ولايتها في دستور الإسلام، والحال أن الآية السابقة صريحة في الدلالة على أن المرأة ولية أمر أيضاً في مساحتها.

وهنالك بحث رائع ومستدَل للمرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين (رحمه الله) بخصوص الولاية للمرأة، لكننا مع شديد الأسف ننظر إلى الأشخاص لا إلى نتاجهم، وهي معضلة في أوساطنا المتدينة اليوم، فليس هناك من ينظر للمسألة العلمية أو القاعدة أو النتيجة أو العنصر المستخدم في استنباط الحكم، إنما ينظر للقائل أولاً. وبذلك يضرب كلام أمير المؤمنين (ع) عرض الجدار، حيث يقول: «خذ الحكمة ممن أتاك بها، وانظر إلى ما قال، ولا تنظر إلى من قال»([5])، وهو بذلك يحصن الأمة ويوجهها إلى الحقيقة.

حفظ الحرمات:

قد يتصور البعض أن باب مدينة العلم قد أغلق من قبل جماعة معينة فحسب، والحال أننا ساهمنا أيضاً في إغلاقها، وذلك عندما نمارس التطبيق العكسي لمعطياتها، فنساهم في غلق الباب، وإطفاء النور، وطي صفحة تلك المدرسة.

فالقاعدة العلمية والدينية أن نعرض كلام القائل على الموازين الثابتة، وهي كتاب الله تعالى، وسنة الحبيب المصطفى محمد (ص) فإن وافقهما قبلناه، وإلا رددناه ورفعنا اليد عنه، مع حفظ المقام للأشخاص، بأن نحفظ قيمتهم وقيمة أسرهم وانتماءاتهم التقليدية والفكرية وغيرها، لكي نسمو ونرتقي.

فمن الطبيعي والمعقول أن يسفَّه القول، لا أن يسفَّه القائل، فمن يطرح فكراً معيناً، لا ينبغي أن نحاربه ونناصبه العداء، إنما نتصدى للفكرة، ونتخندق جميعاً في محاربة الفكر المنحرف الضال الدخيل، وهذا لا مساومة ولا مزايدة عليه، ولا يمكن أن نرفع اليد عنه، أما الأشخاص فلا، لأننا لم نطّلع على قلوبهم ونواياهم، والشريعة المقدسة لم تتعامل مع أحد على أساس ما في قلبه ونيته، وهناك الكثير من الشواهد على ذلك، أشهرها ما كان من أسامة بن زيد، الذي قتل رجلاً بعد أن تشهد الشهادتين وهو تحت السيف، فعاتبه النبي (ص) بشدة، وقال له: «أقال لا إله إلا الله وقتلته؟! من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟» فقال أسامة: يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح. قال (ص): «أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟»([6]).        

الفريضة العامة:

وهنالك جماعة تخلوا عن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكان نصيبهم اللعن، قال تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْ بَني‏ إِسْرائيلَ عَلى‏ لِسانِ‏ داوُدَ وَعيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُون ~ كانُوا لا يَتَناهَوْنَ‏ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ([7]). فقد استحقوا اللعن بتركهم هذه الفريضة العظيمة.

إن الدعوة القرآنية مفتوحة للجميع، وليست مختصة بالأنبياء والرسل والأوصياء ثم الأقرب فالأقرب، ورجال الدين، وغيرهم فحسب. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة الجميع.

يقول النبي الأعظم (ص): «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»([8]).  

وهذا البند الأخير صار اليوم هو الحاكم على ما تقدمه من البنود، لذا نجد أن المسير صار تراجعياً وليس تقدمياً، فمن يريد ذريعة للراحة والسكون والاستقرار والدعة والعيش المرفه، يلجأ إلى البند الثالث، وهو الإنكار بالقلب فقط. إلا أن الحديث الشريف يشترط عدم الاستطاعة في كل مرحلة للانتقال إلى المرحلة التي بعدها، لا أن الحساب يكون عكسياً.

آليات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

والآمر بالمعروف أو الناهي عن المنكر لا بد أن يتسلح بآليات تؤمّن له الوصول إلى الهدف، لأن الغاية من كل ذلك هي المصلحة العامة، كما هو في حديث الزهراء (ع)، وإيجاد حالة من التصحيح والبناء الصحيح. وأبرز تلك الآليات:

1 ـ الإيمان: لأن قصد القربة لا يتمشى إلا مع الإيمان بالله والرسالة، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر عبادي، وغايته القربة إلى الله تعالى، فإن دخل قصد القربة في كل قول وفعل فإنه يربطنا بالمبدأ، فلا ندخل دائرة الإفراط والتعدي والجور والظلم في الممارسة عند الأمر والنهي، كما لا ننحدر إلى التفريط فنضيع الهدف الإلهي من ذلك، لأننا أخذنا به إلى المنحدر.

2 ـ العقل: فالآمر والناهي لا بد أن يكون عاقلاً، ولا نعني بالعاقل من كان في مقابل المجنون، إنما هو القادر على تشخيص الموضوع والمصلحة، وإلا فإن المجنون غير مكلف من الأساس.

فالعاقل هنا هو صاحب القدرة على التشخيص. ولا يكون العقل فاعلاً قادراً على التشخيص إلا بتنظيم الوقت، والقراءة المرتبة، والاستعانة بتجارب الآخرين من الماضين والمعاصرين.

3 ـ العلم: بمعنى معرفة الأحكام الشرعية التي ينبغي ملاحظتها في باب الأمر والنهي. وباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب واسع في الرسائل العملية، ولا بد أن نطّلع عليه بنحو تفصيلي.

4 ـ العدالة النسبية: فلا يمكن لمن يستمع الغناء أن ينهى الآخر عن سماعه، وكذا سامع الغيبة والمتعدي على حقوق الناس وأمثال ذلك.

فقبل أن نكفّر الناس ينبغي أن نتنبه إلى أنفسنا، ونضعها في موازين الشرع، ليتسنى لنا التمييز، فقد لا يكون من شأن المكلف البتّ في الكثير من الأحكام في أمهات القضايا، فليس من السهل إخراج مسلم من دائرة الإسلام والحكم عليه بالكفر.

يقول الشاعر:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله   عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ

5 ـ القدرة على التغيير: وليس معنى القدرة هنا الاستمرار على الأمر، فربما يموت الإنسان قبل أن يصل الهدف، إنما هي القدرة المعنوية الدائمة. فالإمام الحسين (ع) أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، واستشهد في هذا السبيل، إلا أنه ما يزال حاضراً إلى يومنا هذا، بل كل ما نلمسه من خير إنما هو بفضل قطرات دم الحسين (ع). ولو أن الزهراء (ع) لم تقل كلمتها ذلك اليوم، لما ذُكر اسم النبي (ص) على مئذنة.

ضريبة الأمر والنهي:

ثم إنه إن كان الميزان لدينا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن نحرز رضا جهة معينة على حساب جهة أخرى، فليس هذا من العبادة في شيء، وهو كالمجيء إلى المسجد لرؤية زيد من الناس.

كما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجعلنا ندفع الكثير من الضرائب، فلا يلام من يقول كلمة الحق في محلها إذا تفرق عنه الناس، يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): «لا يزيدني كثرة الناس حولي عزةً، ولا تفرقُهم عني وحشة»([9]).

إننا نجد أن البعض يجتمع لإحياء مراسم الزهراء (ع) فيخرّج طائفة من الناس من الإيمان والولاء والتدين، على أساس أنه حصل هجوم على بيتها أو لم يحصل؟ أو حصل كسر الضلع أو لم يحصل؟

إن الهجوم على بيتها وكسر ضلعها مما حصل بلا إشكال، شاء من شاء أو أبى من أبى، وهناك أكثر من ستين مصدراً لدى العامة على وقوع ذلك. ولكن هذا لا يعني أن نختصر الزهراء (ع) بكسر الضلع ودخول البيت، فمن أراد الزهراء (ع) وادعى الانتماء إليها فليقرأ خطبتها الكبرى، ليرى ماذا تريد ممن ينتمي إليها؟ هل تريد عصمة المجتمع ووحدته، أو تريد تمزيقه؟

نسأله تعالى أن يجعلنا من السائرين على نهج الزهراء (ع) المتأملين في سيرتها وعطائها ومدرستها الكبرى، فهي مدرسة في جميع الجوانب، وهي صمام أمان للأمة عن كل حالات الانحراف العقدي والفكري والأخلاقي، فمن يدعي حبها وولاءها عليه أن يصحح حالة الانحراف في تلك الأبعاد الثلاثة، ولا يصدر أحكامه يميناً وشمالاً.

فالزهراء (ع) تحضر في عرصات القيامة، لتلتقط شيعتها كما يلتقط الطير الحب الجيد من الحب الرديء، وهذا يحتاج أن نكون بالمستوى اللائق بهذا المقام. فالغيبة والمحاربة والكذب والبهتان وأمثالها لا تتناسب ومقام الزهراء (ع).

نسأله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.