نص خطبة: علي غربال البشر به تقبل الأعمال وبه ترد
أهداف الابتلاء وثمراته:
قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرين﴾([2]).
سؤالٌ يتردد دائماً: لماذا نُمتَحن؟ ولماذا ندخل بين الفينة والأخرى امتحاناً أكثر عسراً من سابقه، أعمُّ من أن يكون موجَّهاً للشخص نفسه، بل في الكثير من الأحايين للأمة قاطبة؟
ويقدم لنا القرآن الكريم الكثير من الإجابات، فالابتلاء السماوي هو امتحان صادر من الحكيم، ومقتضى ذلك أن يوافق ما شُرِّع أو ما خُصِّصَ له. فالقرآن الكريم يريد أن يختبر حالة الاستعداد عند الفرد والأمة قاطبة، لذلك يزجها في هذا الامتحان.
في جسم الإنسان الكثير من المضادات الطبيعية، فإن لم يتعاهد الإنسان حالها الطبيعي دون زيادة أو نقيصة، جاءت بردة الفعل العنيفة على الجسم. وكذلك في الروح، هنالك قوى جاذبة وأخرى دافعة، وهي تحتاج أيضاً بين الفينة والأخرى أن تُحرِّك عناصرها، فقد تُمزج وتُركَّب وقد تُفكَّك. والإنسان بمقدوره أن يلتفت إلى هذه الحيثية. والقرآن الكريم يبين ذلك حيث يقول: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما في صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما في قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾([3]). فهنالك قوى متطاحنة في الداخل، أبرزها تلك المضغة الصغيرة المتناهية في الصغر، وهي القلب، الذي أنيط به دورٌ كبير.
ثم إن الله عليم بذات الصدور، فأنت تجلس إلى جنبي وأجلس إلى جنبك، ونتبادل أطرافَ الحديث، ثم نفترقُ على الظاهر، أما ما يدور في صدورنا فقد اختصت به السماء، وأودع الإنسان شطراً منها، ليراقب على أساس منها نفسَه.
وبطبيعة الحال، حيث إن الإنسان أُفيض عليه هذا الفيض، فيفترض أن يُفعِّله في داخله، ويطابقه بين ما هو الظاهر وما هو الباطن. فلو أننا تكاشفنا وأفصحنا عن حقائق ما في دواخلنا، فربما تبعثرت الأوراق في جميع الاتجاهات، وتمزقت المجتمعات إلى أشد حالات التمزق.
1 ـ اكتشاف الاستعداد:
وبالنتيجة هنالك رغبة من السماء أن يكون الإنسان دائماً في حالة من الاستعداد للتعامل مع هذه النفس، من خلال الحفاظ الشديد على ما أوجب، والنأي بالنفس عما مُنع قدر المستطاع، ولا يكلِّف إلا بما يمكن أن يكلَّف به الإنسان. فالمشرع حكيم، والإنسان لا يمكنه أن يقدر مصلحته وهو في حدود بيته، والذي يدرك المصالح بالمطلق هو الله سبحانه وتعالى.
فالحالة الأولى هي اكتشاف حالة الاستعداد في واقع الأمة للاندفاع والتلبية عندما يندبها لتكليف.
فصحابة النبي (ص) في الصدر الأول مثلاً، لم يكونوا على درجة واحدة، فمنهم من يندفع للجهاد بين يديه، ويضحي بالغالي والنفيس، ومنهم من يقول: ﴿إِنَّ بُيُوْتَنِا عَوْرَةٌ﴾([4])، وفرق كبير بين هذا وذاك، وهو اكتشاف حالة الاستعداد عند الأمة.
2 ـ غربلة الواقع الإيماني بين صفوف الأمة والفرد:
وهو لون من ألوان الابتلاء والامتحان والتمحيص. يقول تعالى: ﴿مَا كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَميزَ الْخَبيثَ مِنَ الطَّيِّب﴾([5]).
فهنالك إرادة جادة من الحق سبحانه وتعالى لإيجاد الغربلة. والغربلة قد تكون في جوانب مادية أو في جوانب معنوية.
ويقول أيضاً: ﴿قَالَتِ الأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمانُ في قُلُوبِكُم﴾([6]). وهذه حالة أكيدة وواضحة، لا سيما لدى المنافقين منهم، فهناك إقرار لفظي الربوبية والرسالة وتسليم مطلق باللسان، لكن الواقع على العكس من ذلك.
إننا في مراتب ودرجات، فلا نستطيع أن نقول: إن كل أفراد الأمة على درجة واحدة من الإيمان، لأن المقدمات التي نخطوها في سبيل تحصيل الإيمان، يختلف فيها الناس من فرد إلى فرد آخر.
وبتجربة بسيطة يمكن أن نجريها، لا سيما في هذه الأيام الرمضانية، يمكننا أن ندرك ذلك، إذ تجد أن ما لدى زيد من الناس من الاستعداد لتلاوة القرآن الكريم، والجلوس في محافله، والتعاطي معه قراءة وتدبراً، يختلف عما هو عليه لدى فلان الآخر. وتجد فرداً يسارع في إقامة الصلوات، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنأي بالنفس عن المستنقعات المحذورة في التشريع، وآخر يراوح في مكانه. وربما خلط عملاً صالحاً بآخر سيئاً، حتى تصل النوبة إلى الطبع على القلب، فلا يعود يميز بين حق وباطل، وخير وشرّ.
فالهدف هو أن يُحدث الله سبحانه وتعالى حالة من الغربلة للإيمان الذي ندَّعيه، حتى من يُزايد في إيمانه على الآخر جراء ممارسة شعيرة فإنه لا يلتفت أنه وقع في شرك خطير، هو الرياء، وإلا فإنّ العمل الذي تقوم به ليلاً لا ينبغي أن يعرف به أهل النهار، وهناك مساحات ضيقة فُتحت لنا في الشريعة سمح لنا أن نأخذ جانب الجهر في العمل، إما للتحبيب فيه أو كثرة التعامل معه أو للتعليم أو ما إلى ذلك، أما الأصل في العمل أن يكون خالصاً متقرَّباً به إلى الله تعالى.
3 ـ فرز الطائفة المجاهدة من أبناء الأمة عن غيرها من الطوائف:
ففي زمن الرسول الأعظم (ص) كانت الأمة تعيش تخبطاً واضحاً في هذا المجال، بل الأكثر من ذلك كان البعض منهم ممن لم يضرب بسيف، ولم يطعن برمح، ولم يتقدم خطوة في ميدان جهاد، لكنه يحاول أن يجاري الآخرين ممن ضحَّوا بكل غال ونفيس، بحجة أنه حُسب له أو صَدر منه أو كُتب له موقفٌ في يومٍ ما في قضية من القضايا، وإلا فإنَّ الأفضل للبعض أن لا تفتح ملفاتهم، وأن تبقى مغلقة، لأنك عندما تفتش في تلك الملفات وتقف عند حواشي بعض السطور فلا تجد إلا نتناً.
تسلل في بعض الأيام أحد إلى حصن فيه مجموعة من النساء، بغية إيذاء النبي (ص) وكان معهنّ الشاعر حسان بن ثابت، الذي نملأ الدنيا بقولنا عنه: إنه ما زال مؤيَّداً بروح القدس، وهو حديث عليه الكثير من علامات الاستفهام، سنداً ودلالةً، كل ذلك لأنه قال بعض الأبيات في غدير خم، منها:
يناديهم يوم الغادير نبيهم بخمٍّ وأسمع بالنبي منادياً
وهي أبيات معدودة كبيضة الديك، لا ندري لم قيلت؟ هل استدعاها الموقف مثلاً، أو قيلت لسبب آخر؟ ولكن هل سمعتم لهذا الرجل ضربة بسيف أو طعنة برمح أو تقدماً في ميدان؟ فهل يمكن أن يكون مثل هذا مؤيداً بروح القدس؟.
نعم، تسلل بعض اليهود في معركة الخندق إلى حصن من الحصون التي جمع فيها النبي (ص) النساء، وكان حسان بن ثابت معهن. فجاء يهودي من بني قريظة وأراد أن يتسوّر الحائط. فأمرت صفية حسان بن ثابت بأن يقوم إليه بحجر أو خشب فيقتله. فقال حسان: أنا من أرباب اللسان، لست من أرباب الضرب والطعان في شيء. فقامت بنفسها فقتلته([7]).
فلما قتلته طلبت منه أن يسلبه سيفه ودرعه، فلم يفعل، وعاد خائفاً مرعوباً.
فهل يمكن أن يوضع مثل هذا الرجل في قائمة المجاهدين، ليصبح جهاده وجهاد علي (ع) على حدٍّ سواء؟.
فالطائفة المجاهدة في وسط الأمة هي التي تجاهد من أجل الحق، لا التي تسفك الدماء باطلاً وتستبيح الأعراض وتنهب الأموال وتشتت الناس في هجير الصيف، لا يجدون مأوىً ولا مأكلاً ولا مشرباً. يخربون البلاد العامرة، ويرعبون النفوس المطمئنة، تحت لافتة الجهاد. يقول تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرينَ وَنَبْلُوَ أَخْبارَكُم﴾([8]).
فالله تعالى يُعدُّ الإنسان للامتحان، لأن من طبيعة الإنسان أنه لا يتحمل شيئاً من الأذى مطلقاً. فإن هو امتُحن وخرج من الامتحان ناجحاً فقد فاز، وإلا فلا.
كما أن الناس في إيمانهم طبقات، شدةً وضعفاً، فكان الامتحان لهذه الأمة لإيجاد ميزان تُميَّز على أساسه طبقات ومراتب المجتمع في ميدان العمل، فلا يمكن مساواة العابد بغيره، ولا العامل بسواه من الناس.
قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهْوَ العَزِيْزُ الغَفُوْرُ﴾([9]). فالعمل الصالح والعمل السيِّئ كلاهما بيِّن، والمسارعة لأداء العمل الصالح مطلب أساس ورئيس، وهي المساحات التي كان يتحرك فيها الأنبياء والأولياء والصالحون.
فلو لم نمتحن في مثل هذه الامتحانات، يوماً في أموالنا، ويوماً في أنفسنا، لتصنيف وتمييز من هو أحسن عملاً، لما ظهر المعدن، ولما بانَ المكنون.
ثم إن الابتلاء ربما يكون على قدر درجات الإيمان في الكثير من الأحيان، وقد يكون للتمحيص وتصفير الملفات قبل الذهاب للآخرة.
وقد يكون هذا النوع من الابتلاء ـ أي تمييز طبقات المجتمع في الإيمان ـ في من نعشق ونحب، وهذا أمر حساس جداً. وأكبر امتحان يواجهه الإنسان هو عبارة عن منظومة محمد وآل محمد (ص) فالكثير من الابتلاءات إنما تكون في حبهم، بشتى الصور والأشكال، ومنها الغلو فيهم، لا سيما علي (ع) لأنه معجزة المعاجز، والآية الكبرى، فكلما اقترب المرء من حياته وجد نفسه في عالم آخر. فعلي (ع) يحار فيه الموالي والمعادي، بل حتى من يريد أن يقف في منطقة الوسط بين هذا وذاك. كما في موقف أحد رجال الحديث المعروفين بكونه مصنعاً للحديث، إلا مع علي (ع) فإن مصنعه لا يعمل في هذه المساحة، إنما يعمل في مساحات بعرة البعير وجناح الذبابة وأمثالها. فقد وقف على التل واتخذ موقف الوسط في نظره، إلا أنه أخطأ الهدف.
كان يقول: «الصلاة خلف علي أقوم»، لأنه يمثل الأسلام الحقيقي. «وطعام معاوية أدسم» وهذا أيضاً صحيح، وفي كل زمان ومكان. وليس هناك أسهل من تحصيل اللقمة الناعمة إذا كان هناك استعداد لبيع الكرامات، فلا تكلف أكثر من كلمتين أو ثلاث فيها نفاق ودجل وكذب، تسترضي بها فلاناً أو فلاناً، لتفتح لك بعدها كنوز الأرض، وتذلل لك الصعاب، وتُعبَّد لك الطرق، لكن النهاية هي جيفة قذرة يهرب منها الجميع.
ثم يقول: «والقعود على هذا التل أسلم»([10])، وقد نجا من القتل فعلاً، لأنه لم يشترك فيه مطلقاً.
فكم من الناس من يذهب للنعيم بسبب علي (ع)! وكم منهم من يذهب للجحيم! فهو محل الابتلاء العظيم في هذه الأمة، لأنها لا تريد لنفسها أن تفقه من هو علي (ع)، وإلا فإنه ليس هناك ما هو أوضح من مفردة (علي) فهناك أكثر من ثلاثمئة آية في القرآن الكريم على أقل تقدير، تعني علياً، وضعفها نزل في أعداء علي، وهناك الكثير من الأحاديث لدى الفريقين في حق علي (ع) وأحاديث آخرى منحولة لمعارضتها كذلك، وقد نص أهل النقد على وضعها وانتحالها.
وقد حورب علي (ع) حرباً شعواء، حتى إنه لما وصل خبر استشهاده وهو يصلي في المسجد، إلى الشام، استغربوا! قالوا: أوهل كان علي يصلي؟!. فقد صيغت أذهان أهل الشام بأن علياً لا يغتسل من الجنابة ولا يصلي لله.
بل إنه تعرض للسب والشتم على منابر المسلمين، وقد عُزل والي المدينة من قبل مروان لسبب واحد، هو أنه لم يختم خطبة الجمعة بسبِّ علي بن أبي طالب (ع)!.
فلا معنى ولا قيمة لقول من يقول اليوم: لم يكن هنالك سبٌّ لعلي بن أبي طالب، إنما هو من مخترعات الشيعة، والأنكى من ذلك أن بعض من يقول ذلك هو ممن يحسب على المذهب.
إن موقف ذلك المحدث المعروف، يكشف عن سوء واقع الأمة في تلك المرحلة، كما أنها اليوم مبتلاة، وبلاؤها عظيم جداً.
يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): «أما والله لقد تقمَّصَها فلان، وإنه ليعلم أن محلي منها محلُّ القطب من الرحى، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إليّ الطير، فسَدلتُ دونها ثوباً، وطَويت عنها كَشحاً، وطَفِقْتُ أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء، أو أصبر على طِخية عمياء، يهرَم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمنٌ حتى يلقى ربه»([11]). والرحى لا تدور إلا بقطبها، وهذا دليل على ضياع الأمة بتضييعها قطب الرحى.
إنني في هذا الكلام أتجاوز مرحلة الكلام مع الآخر من أبناء العامة، فاليوم أصبح الكلام مع من هو في دائرتنا، وهناك خطر محدق إذا لم يقم رجال الدين والحوزات العلمية بواجباتها الشرعية.
بالأمس كان الكلام يتردد في الدهاليز المظلمة والاستراحات المغلقة، أما اليوم فأصبح الأمر مختلفاً تماماً، وصرنا نشهد على صفحات الانترنت ما لا يسر، ولا أريد أن أصرح بالأسماء والمقالات.
إنها الطخية العمياء التي أشار إليها أمير المؤمنين (ع) وإلا فما ذنب عليّ ليصفّى بهذه الطريقة الوحشية المقيتة؟! فقد قتل في شهر الله، وفي بيت الله، وهو ساجد لله تعالى، فهل هذا جزاء الجهاد الطويل الذي قضى حياته فيه؟ وتضحية كبيرة قدمها لدين الله؟
وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.