نص خطبة:علي (ع) إنشودة الدهر
الغدير هو العيد الأكبر، وأشرف الأعياد. وعلي (ع) هو المحور في هذه المناسبة، لأن علياً (ع) تفرد بحالة لم تتأتَّ لغيره من بني البشر، إلا ما كان متمثلاً في ذات النبي الأعظم محمد (ص).
كان هشام بن الحكم قدوة الشباب ـ من غير المعصومين ـ إذا ما أرادوا لأنفسهم قدوة يتمثلونها في حياتهم، يقول له أحدهم: ما بال الأمة؟ فأجاب: عجبٌ لهذه الأمة، تولّي من عزله الله، وتعزل من ولاه الله، وهي كلمة مختصرة فيها من الدلالة والأدب والعلم والوعي الشيء الكثير.
الغدير بكل مكوناته يمثل ملحمة مستقلة بذاتها، أضلاعها كثيرة، لكن المحور فيها حصراً هو علي (ع) . وكيف لا يكون الأمر كذلك وعلي (ع) هو الأشجع والأعبد والأعلم والأصبر والأقدر على الفهم والوعي والدرك والامتثال.
وما من صفة كمال في علي (ع) لها تجسُّدٌ في الواقع إلا وضارعتها صفاتٌ اصطنعها صُنّاعُ الحديث ووُضّاعه، ولكن لم يصحَّ إلا الصحيح، ولن يبقى ويستقر إلا ما يحمل مكونات الاستقرار والبقاء.
قالوا مثلاً: عندما أعلن أحدهم إسلامه بات الإسلام في حالة الجهر، وتجاوز مربع التقية، وكأن إسلام علي لا يقدم ولا يؤخر، في حال أن التاريخ يثبت أن من يراد أن يضاف إليه صفة الجهر بالرسالة كان الأقرب إلى مساحات الفرار وتمحل الطرق للتخلص من الوقائع التي كان يخوضها الرسول (ص) حتى أن النبي (ص) عيّر بعض الرجال ونعتهم بنعوت الضعيفات من النساء.
يقول (ص) في استنكاره لبعض المجريات: «لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان»([3]). وهي امرأة، وعندما يقال: فلان وفلان، يراد أن يشار لأشخاص يحملون نوعاً من صفات النقص، ومن عسى أن يكون سيداً للكلام سوى سيد الكلام محمد (ص).
إن الإمام، لكي يكون إماماً، لا بد أن يتصف بصفات، ويتمتع بخلال، يتقدم على أساس منها على من يراد له أن يكون في مقام الندِّيَّة والمضارعة، ومن تلك الصفات التي تمثلت بشكل واضح في علي (ع):
1 ـ العصمة المطلقة: ونعني بها ما يكون في مجال التشريع أو غيره، فالمعصوم سواء كان في مساحة التشريع أم لم يكن، لا بد أن يتقلب في حدود العصمة. وهذه الصفة إذا ما فتشت عنها في الذوات، فلن تجدها إلا في من اصطفاه الله من الأنبياء والرسل، ثم الكوكبة النَّورى التي بدئت بمحمد النبي (ص) وختمت بمحمد الإمام الخلف الحجة (عج).
2 ـ الفضائل الأخلاقية السامية: وهي تعني فيما تعنيه الترفع على الصغائر، ومن لم يتخرج من مدرسة النبي الأعظم (ص) كيف يتسنى له أن يتمتع بهذه المنظومة من الصفات التي يرشح عنها الكمال في كل مكان وزمان ؟ ومن عسى أن يكون قد ترفع عن الصغائر أكثر مما تمثل في علي (ع) في ترفعه ؟
لقد حاول البعض أن يجرجر علياً (ع) لمشاهد ومواقع لا يمكن أن يترتب عليها إلا الهبوط، وأبى علي (ع) له ولمن سار على نهجه إلا سمواً وارتفاعاً.
3 ـ سعة أبعاد العلم والمعرفة عند علي (ع): وهذه الميزة متوفرة بشكل واضح فيه (ع) فأينما طرقت باباً من الأبواب فلن يفتح لك إلا بقدر ما يتسلل منه ضوء، الأصل فيه ذلك المنبع وتلك الجذوة، فالمدرسة والجامعة والحوزة وما إلى ذلك من المسميات، إذا ما أراد أعلامها وأقطابها أن يلتمسوا مساراً للعلم والمعرفة، فلن يكون إلا من قال: «سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض»([4]). في وقت لم تكن البشرية تهتدي لما في السماء طرق.
ومن حق علي (ع) وشأنه أن يقول هذا وأكثر، لأن ما صُنع في ذاته تفرُّدٌ، وما أفرغه النبي (ص) في ذاته تفردٌ، فما عسى أن يكون الإمام المعصوم (علي) بعد أن يكون أساسه قد بني على هاتين القاعدتين: اللطف الإلهي والإشراق المحمدي.
4 ـ الاستعداد للتضحية: في سبيل الله والمبدأ والقيم، وهو ما يتضح جلياً في ذات علي (ع) فحتى الذي قيل عنه: طالما ذبّ الكرب وجلاه عن وجه رسول الله (ص) وهو الزبير، نكص في مواطن عدة، وما عليكم وعلينا إلا أن نرجع للقرآن الكريم للاستفادة من مجموعة من النصوص الشريفة، مستعينين بما بذله أقطاب الطائفة وأعلام الإسلام من جهد في استنطاق تلك الآيات، ليتضح جلياً ما كان يقوم به علي (ع) من دور، وما كان يقوم به غيره. قال الشاعر الشيخ هاشم الكعبي:
ومواقف لك دون أحـمد جـاوزت بمقامك التعريف والتعديدا
فعلى الفراش مبيت ليلك والعدى تهدي إليك بوارقاً ورعودا
فـرقــدتَ مـثـــلـــوج الفـؤاد كـأنَّـما يهدي القراع لسمعك التغريدا
فكفيت ليلــته وبــت مـعـارضاً بالنفس لا فشلاً ولا رعديدا
واستصبحوا فرأوا دُوينَ مرادهم جبلاً أشم وفارساً صنديدا
رصدوا الصباح لينفقوا كنز الهدى أوما دروا كنز الهدى مرصودا
إذن لا بد أن يتمتع الإمام بهذه المجموعة والمنظومة من الصفات، ونحن مع من معنا، ومن لم يكن معنا، علينا أن نفتش بين طيات الكتب ـ على الرغم مما جرى فيها وعليها من التحوير والتبديل ـ عن شخصية فيها الكمال، من المسجد إلى المسجد، فلا نجد غير علي (ع).
إن هذا الإمام، على ما يمتلك من هذه المنظومة، إلا أن المطاردة لم تنفك يوماً من الأيام عن تتبع الخطوات التي كان يخطوها، وتحسب له الكثير من الحسابات، لا حفاظاً عليه، إنما رغبة في التخلص منه.
إن الإمامة هي القيادة الدينية لحياة الناس، وهي منصب خاص من الله تعالى للمختار من عباده، وأدلتها أكثر من أن تعد أو تحصى، ففي القرآن آيات صريحة بينة، وفي الأحاديث الكثير، وما على شبابنا إلا أن يلوذوا بغدير الأميني([5) ليجدوا فيه مورداً ومنبعاً صافياً ليغترفوا منه فيشفي الواحد منهم ظمأه.
إن الطائفة في فكرها، والمذهب في أساسياته، لم يُبنَ على أساس من نتاج فردٍ أو يختزل بين صفحات كتاب، فمن الظلم والتجني أن نحكم على الطائفة بأسرها بأن زلَّ قلمٌ من أحد أعلامها، أو أخفق إخفاقةً ما في أحد كتبه، إنما يمثل المذهبُ الإمامي كتلةً واحدة، هي منظومةٌ بذل فيها الأعلام الكثير من الجهد، حتى وصلوا إلى ما استطاعوا أن يصلوا بها، ولا زالت الأبواب مشرعة، ولا زالت جهود الأقطاب يشد بعضها بعضاً، لتفرز واقعاً يؤمِّن للإنسانية ما أراد النبي الأكرم (ص) أن يؤمنه لها.
إن العناية الإلهية بالعباد كانت للأخذ بيد الإنسان إلى مدراج الكمال المطلوب، وما دامت هذه هي الرغبة الأكيدة للسماء فلا بد أن يكون السفير لتحقيق هذا المطلب هو من يتصف بهذه الصفة.
وكذلك حتمية القيادة في التشكيل الاجتماعي لبني البشر، وهو ما تحقق منذ اليوم الأول، فما اجتمع جماعة تقدموا في ثقافتهم أو تأخروا إلا وفي أوساطهم قيادة تقود مسيرتهم، حتى في أوساط المجرمين داخل السجون، لا بد من إفراز قيادةٍ في مكان تجميعهم، فالمجتمع السيئ كالمجتمع الصالح من حيث ضرورة وجود القيادة، إلا أن كلاً منهما بحسبه وحدوده.
وعندما تختار السماء القيادة، لا بد أن تكون مستوعبة لجميع آحاد البشرية بألوان طيفها، وإذا ما بحثت وفتشت عمن يمكن أن يحقق هذا المطلب، فلن تجده إلا متفرقاً، وإن جمعته فلا يفي، أما محمد وآل محمد (ص) فهم مصدره وإشراقه.
إن عالمية الإسلام، وكونه رسالة خالدة تفرض قيادة من نوع خاص، فاليهودية جردت من جميع صلاحياتها، ومبادئ اليهودية استبدلت بالنظم التي وضعها أقطاب المسار الماسوني، وأما النصرانية المسيحية فليست أحسن حالاً منها، فشواهد الشرك والإلحاد فيها من أجلى الصور وأوضحها.
ولكن حتى اليهود الذين كانوا إلى عهد قريب من الفرق المستهلكة، صاروا يضعون لهم قدماً ثابتةً لغربلة الكثير من الأوضاع من حولهم، فما من اشتراكية صبت في مصلحتهم إلا كانوا هم الأساس فيها، ولا من رأسمالية إلا شكلوا حجر الزاوية فيها، وإذا ما قبرت الاشتراكية قبل فترة من الزمن فإن الرأسمالية تحتضر، وما يجري من لعب بالأوراق في أوساط المجتمعات المسلمة بالدرجة الأولى، والمستضعفة على وجه الأرض بصفة عامة، إلا من أجل حقن ما يمكن أن تحفظ به الرأسمالية وجودها على وجه الأرض، لكن لا رأسمالية ستبقى، ولا اشتراكية ستنهض من جديد، وإنما ستبقى كلمة الله هي العليا، وإذا تخلت الأمة في آحادها عن أن تنسجم في هذا المسار، فإن من كُفّل بهذه القضية ليس عنها بعاجز، غاية ما في الأمر أنه ينتظر الإذن من الله تعالى، عجل الله فرجه الشريف.
فالزمان والمكان وروح الرسالة كلها تعطي معنى الدوام والاستمرارية، لكن مما يؤسف له أن الأمة إلى يومنا هذا لا زالت تستجدي فكرها وأدبها وفنها واقتصادها وسلوكها وأخلاقها وسياستها ممن هو أبعد عن دائرة المبدأ، في حال أن ما في القرآن هو المؤصِّل وفيه الكفاية لدور التأصيل، وما في السنة المطهرة من التفريع كاف لشمول مسار التفريع، وما أودع الله في ذهنية كل إنسان طابت فطرته وحسنت تربيته، ودقق في مساره، ورمى ببصره أقصى القوم، إلا ما يؤمّن أن يكون للإسلام الرقم الأول على وجه الأرض، والآخر هو التابع.
ومن الغباء أن تتصور الشعوب العربية بالدرجة الأولى، والإسلامية كذلك، أن في دخول الأجنبي نجاة، فليس في ذلك إلا الضياع والشتات، والأمة التي لا تنهض بأعبائها هي أمة ضعيفة وإن نهض بها غيرها. والاستعمار يخرج من الباب، وسرعان ما يعود من النافذة، وربما تلبّس علينا مفهومان للربيع والخريف، ونختصر ذلك في مفردة واحدة هي الفوضى الخلّاقة، وعلينا أن نقرأ ما تعطيه هذه العبارة من مداليل، فقد احتاج الغرب الوقت الكثير ليقدم هذه الأطروحة ويحركها في الدوائر الضيقة، ولكن عندما نضجت الفكرة ـ وهم أصحاب النفس الطويل الذي يفترض أن يتمتع به الفرد المسلم ـ استطاعوا أن يسوّقوها، على يدي المسلمين الضعفاء البسطاء الذين يفترض أن يكونوا سداً منيعاً في الكثير من الحالات.
لقد غادر علي (ع) الدنيا، ولكن ما يزال وهجه يطبق أرجاءها، ففي الجانب المادي يقول (ع): «والله لقد رقّعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها»([6]). وفي الجانب الفكري والعلمي يمكن لمن أراد التقدم أن يسبر حياة علي (ع) ليصل إلى نتيجة.
إن اليهود لم يُحنَ لهم رأس عبر التاريخ، إلا على يد علي (ع) أو من نسل منه، ودونك التاريخ، تصفَّحِ الورق، وقلِّب الصفحات، وتأمل في المفردات. وما زالت الأمة تدفع ضريبة ضربة لعلي (ع) فما زالوا منذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا يطاردون علياً (ع) في أكثر من لون ولون، ومساحة ومساحة.
إن الأمة لا تنفصل عن بعدها البعدي، ومن يجرّد آحاد الأمة عن هذا البعد لا يقرأ الإسلام إلا بشكل مشلول، ولا يمتطي إلا مطية حذر منها الإسلام وهي الرهبانية المبتدعة التي لم ينزل بها الله من سلطان.
يقول الشاعر المرحوم الشيخ عبد المهدي مطر مخاطباً علياً (ع):
ارصف بباب علي أيها الذهبُ واخطف بأبصار من سُرُّوا ومن غضبوا
وقل لمن كان قد أقصاك عن يده عــفــواً إذا جــئــت مـنـك الـيــوم أقـتــرب
لـعـل بـادرةً تـبـدو لـحـيـدرةٍ أن تـرتضــيك لهـا الأبــواب والـعـتتب
فـقــد عهدناه والصفراء منكرةٌ لـــعــيــنـه وسـنـاهـا عـــنـــده لــهــبُ
مـا قــيـمة الذهب الوهاج عند يد عــلـى الـسـواء لـديـهـا التـبـر والترب
هذه قراءة لعلي (ع) من جانب، ودونك القراءة من الجانب الآخر... تصوروا أن أول من أسلم ـ بل أول من أعلن إسلامه، إذ لم يكن إلا مسلماً منذ ولدته أمه ـ وأول من صلى خلف النبي (ص) وما له من الصفات الأخرى، يكون له من المناوئين في وسط الأمة من يرى في قتله والقضاء عليه الثواب العظيم، بل إن من يقتل علياً (ع) يصبح أنشودة عند البعض إلى يومنا هذا مع شديد الأسف، فهناك من يتغنى بأمجاد من قتله، إذ تحقق فيه عنوان المجد، ولا مجد، إنما هو السقوط، فمن ولغت يده بدم علي (ع) أبعد ما يكون عن صفة المجد. فقد كُتبت القصائد المقتضبة والمطولة ونسجت في التغني بضربة عبد الرحمن بن ملجم لعلي (ع) التي وأد بها الإسلام، ومزق القرآن، وحرف مسار الأمة لمئات السنين أو أكثر.
إن في زمننا هذا من تتمثل به ذات ابن ملجم، وفيه من يرى في أحدوثته المجد والعظمة، لذا تزهق النفوس البريئة وتُهتك الأعراض، وتنتهب الأموال، ويتجاوز على الثوابت والقيم. يقول أحدهم:
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إنــي لأذكـره حـيـناً فــأحـسبه أوفــى الــبـريـة عـند الله مـيـزانا
أكرم بقومٍ بطون الأرض أقبرهم لم يخلطوا دينهم بغياً وعــدوانـا
لله در الـمـرادي الـذي سـفـكت كـفـاه مـهـجة شـرِّ الـخلق إنسانا
أمسـى عشـية غشاه بضربته مـمـا جـنـاه مـن الآثـام عـريانا
لما زار رئيس الجزائر الأسبق أحمد بن بلة العراق، طلب أن يبيَّن له موضع قبر عبد الرحمن بن ملجم (ليتشرف) بقراءة الفاتحة عليه، ولم يعد من زيارته حتى حدث الانقلاب وقضى ما تبقى من عمره خارج الجزائر، وشاهدُنا من هذا أن أمتنا لا زالت إلى اليوم تضم بين أبنائها من يقدس عبد الرحمن بن ملجم.
وقد عرضتُ هذه الصورة الأخيرة من حال الأمة لأنبه الأحبة من المؤمنين أن لا يذهبوا بعيداً، وأن يقرأوا الأحداث قراءة دقيقة، ويرتبوا الأوراق، ولا يستعجلوا الأمور. ففي وصية للإمام علي (ع) قال فيها: «انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم، واتبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدىً ولن يعيدوكم في ردى، فإن لَبَدوا فالبُدوا، وإن نهضوا فانهضوا»([7]).
نسأل الله تعالى أن يأخذ بأيديكم وأيدينا وأن يثبتنا على الولاية لمحمد وآل محمد.
والحمد لله رب العالمين.