نص خطبة:صفات المنافقين وخطرهم على الأمة
خطب النبي الأعظم (ص) وهو يودع شعبان، ويستقبل شهر رمضان المبارك في جموع المسلمين قائلاً: «أيها الناس، إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهرٌ هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، هو شهر دُعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجُعلتم فيه من أهل كرامته»([2]).
بارك الله لنا ولكم الشهر المتصرِّم، وتقبل الله منا ومنكم، ووفقنا الله وإياكم لنيل الفيض من الشهر المقبل، صياماً وقياماً وتواصلاً وتوادّاً ورحمة.
خطر النفاق:
وفي هذه الخطبة أتعرض إلى مفردة مهمة بشيء من الإسهاب. وربما يستغرب البعض منا هذا التوقيت في التعرض لهذه المفردة، وأيام السنة من الكثرة بمكان.
إن ما دعاني لهذا الأمر خطورة ما تعيشه الأمة وما هي مقبلة عليه مما قد يتصف بالأخطر، حال أن النبي (ص) بناء على المنطق القرآني حذّر وكرّر وأكّد، وكذلك الأولياء والصالحون والأمناء على الأمة، ومن كانوا في الواجهة منها على الأمم، نهضوا بدور لا يمكن أن ننكر منه شيئاً. ولكن مع شديد الأسف، لا زالت هذه المفردة تشكل حضوراً خطيراً في وسط الأمة، وتربك الكثير من العناوين التي ينجرُّ وراءها من ينجرُّ، وربما يتوقف أمام تداعياتها القلة، فنجد حالةً من التخبط، بين الإفراط والتفريط، والخسائر يدفعها البسطاء من أبناء الأمة الذين لا حول لهم ولا طول في ذلك، وليس بمقدورهم أن يقدِّموا أو يؤخِّروا، فليس هناك إلا الأرواح التي تُزهق، والأعراض التي تُنتهك، والأموال التي تسلب، ليلاً ونهاراً في أكثر من موقع وموقع.
والمفردة التي أعنيها هي (النفاق) ـ والعياذ بالله ـ التي كانت تشكل قاصمة الظهر في زمن الرسول الأعظم (ص) أي في الصدر الأول للإسلام، إلا أنها لم تلملم أذيالها، لأنها لم تواجه حلاً جذرياً يتماشى مع اجتثاثها من الجذور، فكان أولئك المسلمون كمن يعيش ألماً في أحد أسنانه، فيبقى بين عدة خيارات: إما أن يعضّ على مصدر الألم الذي يمثله السن المصاب، أو أن يعمد إلى ترميمٍ فيه إنفاق للمال أكثر من النفع المرتقب، فيحشوه ويقطع العصب ليتجنب الألم. أو أن يتخذ القرار الحاسم الذي يناسب المنافق، وهو اقتلاع السن من جذوره.
ولكن ـ مع شديد الأسف، لا الأول صبر على ما ابتلي به، ولا الثاني دفع ما يمكن أن يهدئ به الألم، ولا الثالث أصدر قراراً حازماً جازماً بالقلع، لينهي الأمور من أساسها.
لذا فإن كل من وقف متفرجاً، كائناً من كان، كبر أم صغر، يجد أن الضريبة لا بد أن تُدفع غالية الثمن، وربما كان من يدفع الثمن في البداية أقل خسارة ممن يدفع بعد حين، والأيام بين الناس، والله تعالى وعد أن لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ومن الواضح أن أربعة عشر قرناً لم تكف المسلمين أن يتحركوا في اتجاه التغيير، إلا بناء على نظام البراغماتية الجالب للمنفعة. وهذا أمر واضح وبين.
إن خطر المنافق على الأمة نبهت عليه السماء، والرسول (ص) أرسل رسائل، ولكن لم تكن هناك حركة متوازية مع قوة الدفع، لذلك بقي الداء على حاله، بل استفحل وأخذ أبعاداً كثيرة.
ومن الغريب أن تجد اليوم من يُشرعِنُ بعض التصرفات لطبقات المنافقين بناء على وجود بعض المواقف النفاقية في الصدر الأول للإسلام، وهذا من أعجب العجب. فأن يَستدل المرء على قضيةٍ ما بآيةٍ أو حديث أو قول عالم أو ولي مرشد، أمرٌ جميل، ولكن أن يستدل على شرعنة أمر بموقف كلُّه سَلب، ملطخ بإراقة الدماء، ملوث بحرمة انتهاك الأعراض، فهذا أمر غريب حقاً.
صفات المنافقين:
ومواصفات المنافَقَة كثيرة جداً، ولا نحتاج إلى الجمع فيما بينها لنطبقها على شخصٍ ما، لنشخّص معالمة، إنما تكفي واحدة منها لترشد إلى تلك البؤرة والواقع المرير، والمفردة الفاسدة في جسد الأمة.
فمن صفاتهم:
1 ـ تعمُّد الكذب: ودونكم المقروء والمسموع والمرئي وغيرها من الوسائل المحشوة بالكذب، لإرباك الوضع بين أبناء الأمم، وإرباك الأمن في أوطان مستقرة آمنة، وإرباك الأجواء اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وأمنياً وعسكرياً وغير ذلك.
فالغرف المظلمة، والأيادي الآثمة لم تألُ جهداً في تحريك المياه الراكدة أحياناً، والصافية أحياناً أخرى، وربما تنحدر إلى حد الأَسن. والأمر في هذه الموارد الثلاثة واضح بين، لا يتطلب منا عناءً كثيراً للوقوف على معالمه.
يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِيْنَ لَكَاذِبُوْنَ﴾([3]). فالمنافقون
ـ حسب التوصيف القرآني ـ طبقة من الناس، من أبرز صفاتهم الكذب.
وها نحن نجد اليوم أنك تسمع خبراً ما، وبعد دقيقتين تسمع نفياً له، وأنه لم يكن صحيحاً، ولا تدري من هو الكاذب المنافق فيهما، هل هو المثبت أو النافي، وهو ما نراه في طول الساحة الإسلامية وعرضها، إذ لا نجد تحرياً ولا تثبتاً ولا توقفاً على حقائق. فلا تعرف من تصدّق ولا من تكذّب.
2 ـ عدم فهم الواقع: فهم لا يقرأون الواقع بشكل صحيح، بل إنهم لا يتيحون لأنفسهم قبول الواقع بما هو واقع، إذ يرى أحدهم بعينه أن الأمر الواقع في جهة اليمين، لكنه يدّعي أنه بحسب المعطيات في جهة اليسار. يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ﴾([4]).
فلو أنك أتيت أحدهم بالشهود، أو أقسمت له بالأيمان المغلظة، أو جئته ببرهان حسي، فلن يجدي ذلك معه نفعاً.
إن طبقة المنافقين في وسط الأمة خطرها مستطير، بل إن الخطر لا يتجاوزهم ولا يعدوهم أيضاً، فالخطر محدقٌ حتى بهم أنفسهم، ولكن من حيث لا يشعرون، فلا ينتبهون إلى أنهم في حالة من الضياع والشتات.
3 ـ التمترس بالدين: فتجد أن مظهر هذه الشريحة هو الدين والتقى والصلاح، ولكن عندما تحين ساعة الامتحان ينقلب المشهد رأساً على عقب، وتتبدل الأمور بقدرة قادر بتبدل الأحوال، فقد تراه يصوم أكثر، ويصلي أكثر، ويأتي بالعبادات، كما أنك ترى آثار العبادة بادية عليه، من الخشوع والسكينة، لكنهم اتخذوا أيمانهم جُنّة، واتخذوا الدين ترساً يتترسون به كما يتترس الجندي بالدرع عند الحرب.
فالصلاة ليست تلك الصلاة الفاعلة التي تَنهى عن الفحشاء والمنكر، فلا تُعطي أثراً، ولا تنعكس على سلوك ذلك الفرد بما يتلاءم مع الواقع، إنما على العكس من ذلك تماماً.
ومن آثار هذه الصفة الصدُّ عن سبيل الله، فهؤلاء لهم تأثير كبير في الوسط الاجتماعي، لأنهم من أهل الدين بحسب الظاهر، ومن المعروف أن الوسط الاجتماعي لا يتقبّل من غير المتدين كما يتقبل ممن ظاهره الدين والصلاح.
وقد انتهج الخوارج هذا المسلك في حركتهم، وهو منهجٌ معروف في الدفاع عن المسار النفاقي.
4 ـ التمظهر بالدين: وهو أشبه بسابقه من جهة، إلا أنه يختلف عنه من جهة أخرى، ذلك أن التمترس إنما يكون للدفاع عن أمرٍ ما، أما التمظهر فيكون لجلب المنفعة.
لذا تجد أن من صفات هؤلاء العناية بمظاهر معينة، كما في طول اللحية إلى السُّرَّة، وقصر الثوب إلى ما دون الركبة، وما إلى ذلك.
وقد قرأت في أحد الأيام حديثاً يرويه غيرنا، ينص على ما يلي: لا يكمل إيمان المؤمن حتى تبلغ لحيته سُرَّته!.
ولا أعني بهذا السخرية من اللحى، إنما أعني التمظهر بالمظاهر الدينية سعياً وراء الأغراض الدنيئة. فالقياس لا يكون بطول اللحى ولا قصرها، إنما بالسلوك والآثار الطيبة. فالقيمة ليست للمظهر، إنما لما يكون تلبية للواجب الشرعي، فهناك من يُعفي اللحية ويطيلها لخداع الناس، وهناك من يعفيها استجابة للتكليف الشرعي، ولا يخرج بها عن إطار التكليف، وهذا فرق شاسع بين الأمرين.
ولا فرق في هذه الضابطة بين رجل دين أو راهب أو فلاح أو عامل أو مسؤول أو فرد من سائر الناس.
لقد رأينا حاكم العراق المقبور، يحمل القرآن في يده، وقد كتبه بدمه، فهل هذا من الورع والعبادة والتقى؟ إذن ما بال دماء المسلمين التي أراقها أيام حكمه؟
وكم في الأمة اليوم من نماذج تحاكي ذلك النهج الصدامي، وفي جميع الأوساط، ولكن كل بحسبه.
يقول الشهيد الصدر (قدس سره): من منا جاءته دنيا هرون الرشيد ولم يفعل مثله؟.
إن الأمر لا يحتاج إلى امتحان كبير، ولا يتطلب سوى التأمل، فهناك من يتولى مسؤولية صغيرة جداً، لكنه سرعان ما يتحول إلى (صدّام) صغير.
يقول تعالى في وصفهم: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُوْلُوْا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾([5]).
فكم من الغش الذي أصاب الناس بسبب تلك المظاهر! وكم من الاحتيال الذي أصاب البيوتات الشريفة بسبب التمظهر بالدين! فهناك الكثير ممن يزوِّج الخاطب لأنه يرى في وجهه أثر العبادة، فيعتقد أنه مؤمن صالح طاهر طيب، ولا يعلم أن هذا الأثر مصنوع وليس أثراً طبيعياً. ثم يتزوج فيذيق المرأة أشد العذاب، وكأنه فرعون في زمانه، ذلك لأنه منافق متمظهر بالدين وليس من أهل الدين والصلاح حقاً.
5 ـ عدم الركون إلى الحق: ولو كان الدليل عليه آية أو رواية صحيحة، أو فتوى من منبع موثوق، فتجد أنه يفتح القنوات والأنفاق ويمد الجسور ليتهرب من معطيات الحقيقة، لأنه لا يريد الحق والحقيقة، فالحق عنده ما أمسكه بيده، أما الحق الذي يُمسكه من يده ليقوده فمردود على مصدره، كائناً من كان.
يقول تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾([6])، فلا يصغون لكلام، ولا يستمعون لرأي، في حين تجد أحدهم في مجلس الوعظ والإرشاد حاضراً قبل غيره، وتجده سبّاقاً إلى المساجد، لكن لا فرق بينه وبين العمود أو الجدار.
لقد كان هؤلاء في زمن النبي (ص) يرونه ويسمعونه ويعيشون معه، إلا أن التاريخ بين أيدينا شاهد على أنهم خشب مسندة، لم يؤثر فيهم حتى النبي (ص).
6 ـ الخوف من ردة الفعل: فالمنافق يعمل، ويرتكب أبشع الجرائم، لكنه يخاف من ردة الفعل، وإذا رأيت مجتمعاً ابتلي بطبقة النفاق، وتقدم في موقع أو آخر، فلا يعني ذلك قوة المنافق، فهو من أضعف الناس، وأقرب الناس للهزيمة، وهو ما كان واضحاً في حروب النبي (ص). والشواهد في ذلك كثيرة، فمنذ أول غزوة إلى آخر غزوة كان طابور النفاق يخاف من ردة الفعل.
يقول تعالى: ﴿يَحْسَبُوْنَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾([7]). فهم يخافون على أنفسهم، ويظنون دائماً أنهم المعنيون في كل صيحة، لأنهم يخشون انكشاف أمورهم.
7 ـ روح العلو والغطرسة: وهي من الصفات التي تناقض بعض الصفات السابقة، فهنالك نسك ودروشة، وهنا علو وغطرسة، فيظهر من حالهم أنهم أهل صلاة الليل وصيام النهار، لكن تصريحاتهم نارية، وممارساتهم كلها غطرسة، فهم كاليهود، لا يرون لهم مثيلاً على وجه الأرض. فهؤلاء أعداء الإسلام بما هو إسلام، أما الإسلام الشيعي أو السني فإنه منتَجٌ قبلته الأمة، وإلا فإن الله تعالى يقول في كتابه العزيز: ﴿إِنَّ الدِّيْنَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ﴾([8]). والمنافقون إنما يبغضون الإسلام، بما هو دين، وكل ما يمت إلى الله بصلة، ولا شأن لهم بشيعة أو سنة. وها نحن نرى هدم المساجد والكنائس في أكثر من مكان، من آسيا حتى أفريقيا.
فروح الغطرسة من مميزات المنافقين، فقد كانوا إذا طُلب منهم أن يأتوا الرسول (ص) ليستغفر لهم ﴿لَوَّوْا رُؤُوْسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّوْنَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُوْنَ﴾([9]). هذا الحال مع الرسول (ص) فكيف الحال اليوم مع خطيب منبر أو جمعة أو واعظ؟
8 ـ الفسق وارتكاب المعاصي: وهي من صفات المنافق أيضاً، فهو في الظاهر يصوم ويصلي ويقرأ القرآن إلا أنه لا يجسد من ذلك في الواقع شيئاً.
إننا نشهد اليوم جرائمهم، إذ يتلذذون بالضحية حية وميتة، فالقرآن يُقرأ عندهم آناء الليل وأطراف النهار، ولكن لا أثر له في سلوكهم: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوْبِهِمْ مَا كَانُوْا يَكْسِبُوْنَ﴾([10]).
9 ـ الضغط على المؤمنين: وهي واحدة من علامات النفاق، وقد كان هذا واضحاً مع النبي (ص) وآله، حتى قال القائل: برئت الذمة ممن تَسمى باسم علي. بل قُطع العطاء من بيت المال ممن تسمى باسم علي، أو عرف أنه من شيعة علي، وهذه ليست صفة عامة للمسلمين، إنما هي صفة نمرقة من الناس ونزر يسير منهم، وهي باقية إلى اليوم، وإلا فإن المسلم في عنوانه العام، في شرق الأرض وغربها إنما هو مسلم، معصوم الدم والمال والعرض، والمسلم لأخيه المسلم كالبنيان المرصوص، يشدُّ بعضه بعضاً، أو أنهم كالجسد الواحد.
ولكن ما الذي يحصل اليوم من المسلمين، سنة وشيعة؟ ها هم اليوم يدعوهم أهلُ العقل والحكمة والإيمان والتقى والرشد إلى المحجة البيضاء، والطريقة السمحة في التعاطي، فلا يجدون منهم سوى الأصوات المنكرة من جميع الأطراف، فأنا لا أتكلم على مستوى الطائفية، لأنني أشد من ينبذها، من أي اتجاه صدرت، شيعياً كان أم سنياً، فمن يرفع لواء الطائفية من الشيعة أو السنة، ليضرب مصلحة المسلمين فليس بمسلم من الأساس. فالخطر على المسلمين اليوم من أعداء الإسلام.
فمن صفات المنافقين أنهم يضغطون على المؤمنين جهد الإمكان. يقول تعالى: ﴿هُمُ الَّذِيْنَ يَقُوْلُوْنَ لا تُنْفِقُوْا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُوْلِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوْا﴾([11]). أي أنهم يسعون إلى التضييق عليهم بشتى الوسائل الممكنة.
10 ـ التمظهر بالعزة: حيث يلبسون رداء العزة، ليظهروا أنهم الأقوى والأقدر، وأن تقرير مصير الدول بأيديهم، فيهددون بلداً، ويتوعدون الآخر.
يقول تعالى: ﴿يَقُوْلُوْنَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِيْنَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ﴾([12]). ويعنون بالأذل رسول الله (ص) ومن معه. ومن نراهم اليوم من المنافقين، إنما هم أحفاد أولئك.
11 ـ خشونة الخطاب وصعوبته: فلا تجد في خطابهم شيئاً من المرونة إطلاقاً.
يقول تعالى: ﴿فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْر﴾([13]). فهؤلاء ـ كما قلنا ـ أشد الناس ضعفاً، إلا أنهم ينتهزون الفرص ويستغلون نقاط الضعف عند الآخرين، لتكون منافذ لهم.
قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَني كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظيماً﴾([14]). فهم انتهازيون يتحينون الفرص المواتية.
12 ـ اللف والدوران في التعاطي مع القضايا: فالمنافق يقطّع الكلام وينتّفه ليأخذ منه بغيته بما يتناسب مع القضية التي يتبناها. قال تعالى: ﴿يُخادِعُونَ الله وَالَّذينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ﴾([15]). أي أنهم لا يشعرون بخداعهم أنفسهم، وإن كانوا يشعرون أنهم مخادعون. وعدم شعورهم إنما هو حالة نفسية ليست خاضعة للتخطيط الخارجي.
13 ـ مرض القلب: فهم أصحاب قلوب مريضة والعياذ بالله، فما دخلوا مكاناً إلا وانقسموا على أنفسهم، وهذا دليل على عدم صحة العمل. يقول تعالى: ﴿فِيْ قُلُوْبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضَاً﴾([16]).
14 ـ الإفساد: فوسيلة هؤلاء في الإصلاح هي الإفساد، أي أنهم يستخدمون أساليب الإفساد، من القتل والتدمير وغيرها، بدعوى أنهم مصلحون. قال تعالى: ﴿وَإذَا قِيْلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوْا فِيْ الأَرْضِ قَالُوْا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُوْنَ﴾([17]).
وهنا تستوقفني قصة طريفة، هي أنني كنت مدعواً عند أحد الأشخاص في قرية من القرى قبل ثلاث أو أربع ليال، فسألت أحدهم عن الأمور في القرية فقال: إنها على خير ما يرام، ليس فيها ما يُقلق، سوى أن هناك من تمر به فيلعنك ويسبك ويشتمك، يتقربون بذلك إلى الله تعالى!. منطلقين من رواية تقول: «إذا رأيتم أهل الرَّيبِ والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبهم والقول فيهم، والوقيعة، وباهتوهم، كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ويحذرهم الناس..»([18]).
فراحوا يطبقون هذه الرواية على شيعة أمير المؤمنين (ع) .
15 ـ عدم وضوح الهوية: يقول سبحانه وتعالى: ﴿مُذَبْذَبِيْنَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ﴾([19]). فتارة مع هذا الطرف وتارة مع ذاك.
16 ـ الرغبة في الاستقطاب: فلا ييأسون من استقطاب أحد مهما كان لا يتوافق معهم، يقول تعالى: ﴿وَدُّوْا لَوْ تَكْفُرُوْنَ كَمَا كَفَرُوْا فَتَكُوْنُوْنَ سَوَاءً﴾([20])، فيتمنون لك أن ترتكب جريمة كما يرتكبون، وتنزل إلى مستوياتهم الهابطة كما نزلوا، وتتحرك بناء على المقاييس التي وضعوها.
إنهم يطلبون أنصاف الحلول في مرحلةٍ ما، ويصرون على العكس من ذلك تماماً في الكثير من المواقف، يقول تعالى في وصف حالهم: ﴿سَنُطِيْعُكُمْ فِيْ بَعْضِ الأَمْرِ﴾([21]). أي أنهم يقلِّلون من سقف المطالب، ويرضَون بأنصاف الحلول لفترة معينة. وهو ما نراه اليوم في من يخفّضون من مستوى القتل عند حصول ضجة إقليمية أو دولية، في حين أن القتل المعنوي أخطر من التصفية الجسدية.
17 ـ الخشية من إبراز الهوية: لذا تراهم ملثمين على الدوام، فلو كانوا يتبنون قضية وعقيدة فلا خشية من الإفصاح عن الهوية، والكشف عن الوجه، لكنهم يمارسون القتل ويرتكبون الجريمة وهم ملثمون، وهذا هو النفاق بعينه.
يقول تعالى: ﴿يَحْذَرُ المنَافِقُوْنَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُوْرَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِيْ قُلُوْبِهِمْ﴾([22]).
من هنا فإن حفظ الدول اليوم وسلامة نظمها لا يمكن أن يُضمن بغير الأجهزة الاستخبارية المحكمة، لا لشارع ولا لمكان ولا لبيت ولا لمؤسسة ولا غيرها، فتجد الاستنفار الدولي لهذه الأجهزة على أشده لمكافحة هذا العدو. ونسأل الله تعالى أن يحفظ سلامة هذه البلاد، وسائر البلدان الإسلامية، من شرور هؤلاء.
18 ـ الاستفادة من صفوف المؤمنين: وهي ثغرة خطيرة، بأن يتسلل المنافق يوماً إلى صفوف المؤمنين، ويجعل منهم وسيلة للوصول إلى الهدف. سيما إذا رأى أن المؤمن يفسّق أخاه المؤمن، لأنه بذلك سيكون مطية يمتطيها المنافق، ويسيّره حيث يشاء من حيث لا يدرك.
يقول تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوْا الَّذِيْنَ آمَنُوْا قَالُوْا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِيْنِهِمْ قَالُوْا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُوْنَ﴾([23]).
19 ـ الكسل عن العبادة: وهو ما أشار إليه النبي (ص) في خطبته.
وقد يقول قائل: لقد وصفتهم قبل ذلك بالتمظهر بالعبادة، فكيف تصفهم الآن بالكسل عنها؟ أقول: إن تلك العبادة ليست عبادة حقيقية، وما هي إلا وظيفة إجبارية يؤدونها رياءً، لذلك لا تستقر في قرار مكين.
قال تعالى: ﴿وَلا يَأْتُوْنَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى﴾([24]).
وبما أننا مررنا في موضوع العبادة أقول: يقبل علينا بعد أيام قلائل شهر رمضان المبارك، وهو شهر الخير والعبادة وربيع القرآن، فيه ذكربات لأهل البيت (ع) وفيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فينبغي أن نعيش فيه عبادة واعية، فيها تلذذ، وهذه فرصة لإعادة الحسابات.
وهناك هجمة شرسة من محطات التلفزة بشكل عام، على مصادرة شهر رمضان، وبعده الإيماني، وتغذيته الروحية. فعندما تطالع البرنامج اليومي للبعض، تجد أنه يبدأ منذ ساعة الإفطار، وحتى وقت متأخر، وقد امتلأ بالمسلسلات الكثيرة المنوعة، فماذا يصفو لنا من مجالات العبادة؟.
لقد انشغل الكثير قبل شهر رمضان بمباريات كأس العالم، وها هو ينشغل بعدها بمجموعة من المسلسلات الترفيهية، مع أن تلك المسلسلات لا تقدم لنا سوى البعد عن الدين، وليس فيها سوى قيم ومبادئ مخالفة للدين والعفة.
هناك أحد المسلسلات الذي يراد عرضه من إحدى القنوات، موضوعه: كيف تستطيع الفتاة التخلص من رقابة الوالدين. وهو مسلسل أنجز بأموال المسلمين مع شديد الأسف.
أسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.