نص خطبة: شذرات من حياة آية الله السعيدي قدس سره
كان الحديث عن رموز الحوزة القمية، ورموز حركة الإصلاح في وسط الأمة، وقد تقضّى الحديث عن عَلمين منهم، الأول هو آية الله الدكتور الشهيد البهشتي (رضوان الله تعالى عليه)، والثاني هو آية الله المعلم الكبير الشهيد المطهري (رضوان الله تعالى عليه)، والحديث اليوم عن آية الله الشهيد السعيد السيد محمد رضا السعيدي (رحمة الله تعالى عليه).
عن النبي الأعظم (ص) أنه قال: «العلمُ وديعةُ الله في أرضه، والعلماء أمناؤه عليه، فمن عَمِل بعلمه أدى أمانته، ومن لم يعمل بعلمه كُتب في ديوان الخائنين»([3]).
هذا الحديث الشريف يبين لنا مدى أهمية وخطورة العلم والعالم، والميزان في ذلك أن يستفيد العالم من علمه، ويفيد الأمة من حوله، وإذا ما تخلى عن ذلك، وتنكّب الطريق، وسلك طريقاً آخر، فهي الخيانة العظمى.
وبطبيعة الحال، عندما لا يتحرك العالم على أساس الضوابط الشرعية التي تلقاها عن العلماء كابراً عن كابر، فإن الأمور المغرية أمامه أكثر مما هي متاحة بين يدي الكثير من الناس، فإذا كان الكثير من الناس يتصارعون على حفنة من مال، ربما يصلون من خلالها إلى المبتغى، وربما غرقت سفينتهم في ذلك، فإن أمام رجل الدين الكثير من المشاريع، وأبرز تلك المشاريع وأهمها هو الإنسان نفسه.
وبالعودة إلى الحديث عن الشهيد السعيد آية الله السعيدي (رحمة الله تعالى عليه) نقول: كان الشهيد السعيد مفردة لها الأثر البين الكبير على المشهد التغييري الذي شهدته إيران في عصرها الحديث، ولكن ـ مع شديد الأسف ـ كما أن كوكبة من أئمة أهل البيت (ع) ومجموعة أخرى من أصحابهم والطليعة من علمائهم، لم يحظوا بما يتناسب والثروة التي قدموها للأمة، والعطاء الذي بذلوه، فكذلك هذا السيد الشهيد، لم يحظ بالكثير مما يفترض أن يحظى به.
ولد الشهيد السعيد في إحدى عوامل مشهد الإمام الرضا (ع) وهي منطقة (توغان) في بيت علم وفقاهة وسيادة. ولا شك أن للبيت إذا ما اتصف بهذه الصفات، الأثر الإيجابي في صقل شخصية الفرد، وهو الذي يقدم له الدافع والرادع في الكثير من مواطن الحياة.
حصل الشهيد السعيد على معارفه الأولى على يدي والده السيد أحمد سعيدي (رحمة الله عليه)، وهو أحد العلماء، ثم أكمل دراسته على يدي أديبي نيشابور، الشيخ هاشم والشيخ مجتبى القزويني (رحمة الله عليهما).
ثم هاجر إلى مدينة قم المقدسة، وهي الحالة الطبيعية لمن يتطلع إلى آفاق واسعة ذات عمق وانفتاح في الوقت نفسه، فالملاذ والحصن هو قم في تلك المرحلة الزمنية.
وهكذا التحق بالدروس العليا فيها عند محضر سيد الطائفة في عصره، السيد البروجردي (رحمه الله تعالى)، الذي تقدم الكلام حول شطر من شخصيته. ثم أتبع ذلك عند آية الله العظمى الميرزا هاشم الآملي (رحمه الله)، صاحب التعاليق المنيفة، ذات الدقة في النظر والعمق في الفكر. ثم أغلق ملف الأساتذة بمفردة جامعة مانعة تتمثل في سيد الأمة (رضوان الله تعالى على روحه المقدسة).
وبالتحاقه بمحضر بحث السيد الإمام، بدأ التحول الكبير في بنائه الشخصي، وفي منظومة التفكير من حوله. وكثير من أعلامنا يتأثرون بواحد من منظومة الأساتذة، لما يتميز به ذلك الأستاذ على نحو التخصص في جهةٍ ما، والقلة هم أولئك الذين كتب لهم القدر أن يلتحقوا بمدارس ذات أبعاد متعددة، بل إن الإنسان المتعدد الأبعاد هو العملة النادرة في وسط الحوزات العلمية، ناهيك عن المجتمع الكبير.
وبدعوى من أهالي آبادان، المدينة العربية على سواحل الخليج العربي في الطرف الثاني، انتقل إلى هناك لممارسة التبليغ في تلك الأوساط. وقد تأرجح المنبر الذي ارتقاه بين (الوعظ التقليدي) و (الحراك الوعظي). وبين هاتين الجملتين إذا ما رُكّبتا، قواسم اجتماع، على أن ذلك لا يمنع من وجود مواطن الافتراق، بل لا مندوحة لصاحب العنوان الثاني من الاتّكاء على معطيات العنوان الأول، فلا يمكن أن نتصور حراكاً وعظياً ما لم تكن هناك أرضية مُعَدّة ومهيأة على أساس من الوعي التقليدي.
ثم سافر إلى الكويت بعد أحداث 15 خرداد، والقضية المشهورة التي تزامنت مع اليوم العاشر من المحرم، وهي الجذوة والشرارة الأولى التي انطلقت، وعلى أساسها تداعى عرش الشاه بعد خمس عشرة سنة.
وكان السبب في تلك الانطلاقة، أن الشاه منح الحصانة المطلقة لكل أميركي أو إسرائيلي على الأراضي الإيرانية، مما أثار حفيظة العلماء في أوساط الحوزات العلمية، بل حتى العلماء من أبناء المذاهب الأخرى في سنندج وزاهدان وغيرهما.
وقد وجد السيد السعيدي في هذه الانطلاقة ـ وهو خارج الحدود ـ ما يمكن أن يتسبب فيه من إلارباك للنظام الحاكم، من خلال استغلال الإعلام المفتوح في الكويت آنذاك. ويحسب له (رحمه الله تعالى) أنه أعطى لخطاب السيد الإمام في الفيضية في الخامس عشر من خرداد، مساحة الانبساط على أوسع ما يمكن أن يكون عليه الصوت آنذاك.
ثم انتقل إلى النجف الأشرف، ووسّع دائرة العلاقة مع الأعلام والأقطاب فيها، كمراجع وأساتذة بحوث خارج، ليستفيد من ذلك رافداً قوياً ومتيناً لرموز الحركة في داخل إيران. لذا نجد أن السيد الإمام (قدس سره الطاهر) لم يكن يغفل هذه المفردة، وكان يقدم الكثير من الشكر والعرفان بالجميل لعلماء النجف الأشرف.
وبدعوى من أهالي تفرش ـ وهي مدينة قريبة من قم ـ حطّ بين ظهرانيهم عالماً ومربياً. وكان طابع المنطقة قروياً بدائياً ([4]) . لكن هذا العالم الفقيه المجتهد، اختار هذا الطريق، واستجاب لأهلها، ومكث بينهم يمارس التعليم والتربية للنشء. ثم جاءت المحطة الأخيرة الفاصلة في حياته، عندما استدعي من أهالي جنوب طهران ـ وهي المنطقة المستضعفة إذا ما قيست بسائر المناطق فيها ـ على أن يؤم الجماعة، ويتولى الشؤون الشرعية من خلال مسجد الإمام الكاظم من آل محمد (ص).
وعندما وصل إلى المسجد المذكور، جعل منه منطلقاً أربك أوراق قوى الأمن، المسمى آنذاك بالسافاك، فأصبحوا كأن لا شغل لهم إلا هذا المسجد والسيد الشهيد المذكور.
كانت المحطة الأولى في ذلك المسجد خطاب ليلة الجمعة، وهو أمر على غير المألوف، وقد يسأل السائل: لماذا لم يكن الخطاب يوم الجمعة؟ والجواب: أن صلاة الجمعة لم تكن تقام يومئذٍ في أي مكان من إيران، باستثناء مسجد الإمام العسكري (ع) في قم، بإمامة آية العظمى، المرجع المرحوم، الشيخ محمد علي الأراكي (رحمه الله)، الذي كان يرى وجوب إقامتها في زمن الغيبة من بين علمائنا المتأخرين.
ثم شرع من خلال هذه الخطبة في بيان أفكار ومعطيات مدرسة السيد الإمام (رضوان الله تعالى عليه) في الوقت الذي لم تكن هناك منابر تصدح بأفكاره (قدس سره). وقد شكل حلقات الدرس الخاصة كمحطة ثانية، والتف حوله نخبة كان لهم الأثر الطيب في قيادة المسيرة قبل وبعد الحدث الكبير، وإشراقة الشمس.
كما قام بتشكيل أول حوزة نسوية عرفتها الحوزات العلمية، فانخرط فيها مجموعة من المؤمنات، بلغ بعضهنّ المراتب العليا في مقامات الوسط الحوزوي، فأصبحن مدرّسات، وربات فكر وقلم، وصنعن الجانب الآخر من المشهد، وقد استفاد هذا السيد الجليل من معطيات مدرسة جده الحبيب المصطفى (ص) وأفاد([5]).
كما قام (رحمة الله تعالى عليه) بتشكيل مجموعة تعنى بطباعة آثار الإمام، الذي تم نفيه إلى تركيا، ومن ثم إلى النجف، ليقطع فاصلة زمنية هي عبارة عن خمسة عشر عاماً، ملأى بالحركة والجهاد والعلم وتربية المجتهدين. وقد أنتجت هذه المجموعة طباعة كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) الذي مُنعت طباعته مرفقاً بالرسالة العملية للسيد الإمام (قدس سره)، المسماة بتحرير الوسيلة ([6]).
كما قامت هذه المجموعة بإشراف منه بطباعة كتاب الحكومة الإسلامية، المعبر عنه بولاية الفقيه([7]).
بهذه الإطلالة البسيطة على حياة هذا السيد الشهيد، نتلمس كم هو الدور الكبير الذي لعبه في تلك الفترة. ولكم أن تتصوروا، لو أن الأمة لم تتعرف معطيات ولاية الفقيه، والحكومة الإسلامية، ومعطيات ذلك الموروث الذي تمت غربلته، والسعي من أجل إيجاد مصداقه خارجاً، فما عسى أن يكون حالها؟
وعندما أخذ هذا الكتاب دوره في الوسط الحوزوي والمثقفين، وأصبح معرضاً للنقاش والرد والبدل، والقبول والرفض، شعر الأمن آنذاك بخطورة الموقف، فصار يضيّق على ذلك السيد، حتى تم اعتقاله، ومن ثم استشهد في زنزانته التي بقي فيها في ظلام دامس، حيث استخدم معه أحد أساليب التعذيب، وهو أن لا يرى النور مطلقاً، وهذه حالة نادرة وفريدة، بشهادة جميع من سُجن من أقطاب الحراك، مما يعني أنها لم تمارس إلا مع هذا السيد الجليل، حيث أدخلوه في زنزانة صغيرة، لا يهتدي فيها ليله من نهاره. ولا عجب في ذلك ولا غرابة، فإن له في جده الكاظم من آل محمد (ص) أسوة وقدوة.
وعندما أراد رجال السلطة التخلص منه ليلة شهادته، قطعوا التيار الكهربائي عن جميع أقسام السجن، باستثناء القسم الإداري، وحصلت جلبة وضجة غير طبيعية، وفي الصباح أعلن أن السيد قد استشهد. ويقول أحدهم في مذكراته: إنه شنق بعمامته.
وربما يسأل سائل: ما هو المستوجب لإحداث هذا الحراك؟ ولم لا يكون رجال الدين ـ كما كانوا ـ يطلبون السلامة؟
إن السلامة والعافية والراحة والرفاهية لا يرفضها أحد، لكن هذا أمر، والحياة الكريمة أمر آخر، ومن هنا لا نستغرب أن يضحي الأئمة (ع) بأرواحهم، التي هي أزكى الأرواح من بين أبناء البشر، من آدم حتى تختم الخليقة. ثم يأتي الأمثل فالأمثل من صحابة النبي (ص) والكوكبة النيرة من المسلمين، الذين حملوا الهم.
إن هناك الكثير من النواقص التي تحصل في المجتمعات، فلا بد من ردم الهوة فيها حتى لا ينتقل المشهد من مربع إلى آخر. والمسؤولية في ملعب المسؤول.
فمن تلك النواقص التي تحصل:
1 ـ الفساد الإدراي، بكل أشكاله وصنوفه، وهو ما يحدث في الكثير من المجتمعات، وعلينا أن نأخذ درساً من المجتمعات التي تقدمتنا، وعلى المسؤول أن يأخذ درساً أوضح. ودونك خارطة الوطن العربي الملتهبة من خليجه إلى محيطه، ناهيك عن البقاع الأخرى.
وثمة حراك آخر خارج دائرة الإسلام، إلا أن التعتيم الإعلامي يلعب دوره.
أيها الأحبة: إن هناك صراعاً أممياً، هو الذي يسوس الناس هذه الأيام، فمتى تلتفت الأمة، والمسؤول عن الأمة إلى خطورة الموقف؟.
2 ـ الاضطهاد المذهبي والسلوكي: فقد مرت في إيران مرحلة من المراحل، لا يستطيع الخطيب الحسيني فيها أن يصعد أعواد المنبر، إنما يقرأ بعضهم المناحة للبعض الآخر في أذنه، أو في سراديب مغلقة، وهذا في إيران، لا في بلد لا تتفق معه مذهبياً، وإن كان هذا الأخير لا يعطي مبرراً، فالأقلية محترمة أينما كانت، وعلى الأقلية أيضاً أن تحترم نفسها إذا ما أرادت أن تُحترم ضمن المنظومة الواسعة.
3 ـ الفقر القاتل للفرد والأسرة نتيجة البطالة، وهي أمر مصطنع في الكثير من الحالات، وإلا ما عسى المرء أن يقول في بلد تعداد سكانه الملايين المحدودة، مع ثراء فاحش في جانب، وفقر مدقع وضياع وشتات، وخوف من الآتي في جانب آخر؟ وهذا ما ينطبق على مصاديق كثيرة في المنظومة العربية والإسلامية.
4 ـ التناقضات الفكرية في المجتمع الواحد، وهذا أمر واضح الآثار والنتائج.
أيها الأحبة: ليست الفتنة بالضرورة أن تكون سلبية، فقد تكون إيجابية، ومن إيجابياتها هلاك الظالم. فأن يتحرك المشهد فكرياً يكون في بدئه أمراً مطلوباً، ما لم يشذ به المسار، وخوفنا أن يشذ المسار.
5 ـ النزعة الشبابية نحو الحراك: فالشباب يمتلك طاقة ومخزوناً جسدياً وفكرياً، فإن لم تحصل الحالة من التوازن بين قدرة الجسد في النمو والتطور والتوثب للعطاء، مع حراك فكري وقوى مكبوتة، فلا إشكال أن النتيجة ستكون الحراك، شاء الإنسان أم أبى.
6 ـ فشل المؤسسة الدينية في إدارة الواقع من حولها، سواء تمثل في الحوزات العلمية على امتداد الخارطة، أم الجامع ودور التحفيظ وما إلى ذلك عند الأطراف الأخرى. ولا أعني بالمؤسسة الدينية الحوزة العلمية فحسب، بل حتى في المذاهب الأخرى الشقيقة، التي باتت مدارسها الدينية لا تقدم للأمة ما يتوازى مع متطلباتها.
بهذه الأمور الستة، تولدت الأرضية، وحصل الحراك، ووُجدت القيادة، فوصلت إلى الهدف.
نسأل الله تعالى التوفيق لنا ولكم.
في الختام لديّ بعض التنبيهات الضرورية:
1 ـ نظراً لكثرة الأسئلة الآتية من الأخوات، واحتراماً لأهمية المرأة وموقعها في المجتمع، ستكون ليلة الخميس القادمة مخصصة للإجابة عن تلك الأسئلة المتراكمة، وذلك بعد الصلاة مباشرة إن شاء الله تعالى.
2 ـ سيكون موعد صلاة الفجر اعتباراً من يوم غد، الساعة الرابعة والنصف صباحاً.
لروح من مضى من أعلامنا، ومن قدم لنا التشيع صفحة ناصعة، وغذّى المسيرة بدمه الطاهر، وروح من مضى منا ومنكم، ولقضاء الحوائج، وشفاء المرضى، وتوفيق الشباب لإكمال مسيرتهم العلمية الدراسية والاجتماعية، رحم الله من قرأ الفاتحة.
والحمد لله رب العالمين