نص خطبة زينب الكبرى في قراءات الوعي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصةً لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
في الحديث الشريف عن الحبيب المصطفى (ص) أنه قال: «أشدّ من يُتم اليتيم الذي انقطع عن أبيه، يُتم يتيمٍ انقطع عن إمامه لا يقدر على الوصول إليه، ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلي من شرائع دينه»([2]).
وعن النبي المصطفى محمد (ص): «ألا وإنّ في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»([3]).
نفحات زينبية:
زينب (ع) حاملة لواء الطفّ، وصاحبة البصمات الثابتة على مدى التاريخ. وهي كربلاء في جانبها النابض، وهي المسافرة بكل حيثيات الطف من البداية حتى النهاية، وهي أيقونة البيت المحمدي والفاطمي والعلوي، وهي أنشودة الخلود.
ثلاث نسوة صنعن مجد التاريخ، وكثيراً ما يطرق أسماعنا أنّ وراء كل رجل عظيم امرأة. فخديجة كانت خلف النبي محمد (ص) وخلف عليّ فاطمة بنت محمد (ع) وزينب خلف الحسين (ع).
إن مريم ابنة عمران (ع) خلدت لأنها حملت آلام المسيح، فقطعت رسالة عيسى السماوية القرون، لكنها لولا مريم لما وصلت. أما زينب (ع) فقد حملت آلام النبوة والإمامة، واستطاعت أن تسافر بها من موطن إلى موطن، لتجعلها عابرة للزمن بعد ذلك. ولو جرّدنا الطف من زينب، لما كانت الصورة واضحة كما قد رُسمت بفرشاة زينب.
جرّد الطف من زينب، وعندها لن تستطيع أن تستنطق المعالم فيها ما لم تلُذ بعطاءاتها، نطقاً وتعبيراً وموقفاً.
لقد اتكأت زينب (ع) على واحدة من أهم القواعد بعد البيت الأصيل، ألا وهي البلاغة في أعلى درجاتها، وأنا أستحثُّ همم المؤمنين رجالاً ونساءً، أن يقتربوا من عطاءاتها، ومن النصوص التي أفاضتها في تلك المواطن الحرجة، ليرتقي كل واحد منا في خطابه، متسلحاً بالفصاحة والبلاغة.
كانت قوة زينب أمام العدو تعتمد على هذا الجانب كثيراً، فهناك رصيدها الثقافي الثّرّ الغزير، الذي استقت موارده من كتابٍ أُنزل على قلب جدها، وباشر أسماعها. واستقته من خلال عطاءات علي (ع) في المدينة والكوفة، ونهلت من مدرسة أمها الزهراء (ع) وتفنَّنت في أساليبها التي انتهجتها في عرض القضية والدفاع عنها.
وبالمختصر: إنها زينب التي لا تقاس بها امرأة إلا إذا اتصفت بالعصمة:
ولو أن النساء كمثل هذي لفضلت النساء على الرجالِ
لأن زينب موقف وقضية وإيمان وصبر وتضحية، وبعد هذا وذاك، هي حالة من التوازن النادرة التي تنهار عند المواقف التي واجهتها شمُّ الجبال، وأصحاب العزائم والشكائم، لكن زينب الصامدة الصابرة استفادت من زادٍ غني، لذلك استطاعت أن تذلل الصعاب. فقوّة شخصيتها تتجلى من خلال مواطن عديدة بصمتها ببصماتها، وهي كثيرة.
فهي الخفرة المصونة، والمرأة الخفرة إذا نطقت أضعفت موقف الرجال، على العكس من ذلك إذا لم تكن خفرة مصونة، فإن كلامها لا يتعدى حدود ما يصل إليه من طرف قريب مقابل.
وهي التي وقفت أمام أعتى طغاة زمانها، فعرّتهم وجردتهم من أقنعتهم، ففي الكوفة كان الوالي عبيد الله بن زياد، وفي الشام يزيد، حيث السلطة القائمة.
هذه هي زينب في مكمن قوتها واقتدارها، فهي تمسك بأسباب الخطاب الموصل إلى الهدف من خلال أقصر الطرق، وأوضح الجمل والتراكيب، حتى كأنها تفرغ عن لسان أبيها علي (ع)، وإذا تعنقت في جذور كلامها، تجد الأساس فيه آية محكمة نزلت على قلب الحبيب المصطفى محمد (ص)، وهي قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُم}([4]). وإلا فكيف لامرأة ثاكل مفجوعة بأهل بيتها والأنصار، وما جرى بعد ذلك من أحداث، تقف صامدة شامخة، وهي تقارع ذلك الوالي الأرعن، وتعرّيه من كل مكاسبه الموهومة، فتقول: فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك، فوالله لن تمحو ذكرنا. هذه هي زينب ابنة علي (ع) الذي يقول: «والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها»([5]).
فلا غرابة يا زينب، فأنت ابنة هذا العظيم، وحفيدة ذلك النبي الأعظم، وربيبة الزهراء ابنة النبي محمد (ص).
بلاغة زينب:
يقول أحد ذوي الاختصاص في البلاغة، وهو يتحدث عن بلاغة زينب (ع): «لم أر خَفِرَة قطّ، أنطق منها كأنّها تُفرغ عن لسان أمير المؤمنين (ع)»([6]). وابحث عمن شئت بعد زينب، فلن تجد من يشغل هذا المكان، ويملأ هذا المربع، إلا زينب إذا ما عادت إلى الدنيا.
ويقول آخر من أهل الاختصاص البلاغي: «بأبي أنتم وأمي، كهولكم خير الكهول، وشبابكم خير الشباب، ونساؤكم خير النساء ونَسلُكم خير النَّسل لا يُخزى ولا يُبزى»([7]).
فالعقيلة زينب تفرض على المشهد هذه الحيثية، وهي الارتقاء والسمو والارتفاع الذي عندما ينظر إليه من يرى في نفسه شيء من الرفعة والمقام، فلا يمتلك إلا أن يحمي رأسه احتراماً وإجلالاً وتعظيماً لزينب (ع).
أما زينب في خطابها، وفي موطنٍ آخر، فهي تقول: «ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك، إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، لكنّ العيون العبرى، والصدور حرّى، ألا فالعجب كلّ العجب، لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء. فهذه الأيدي تنطِف([8]) من دمائنا، والأفواه تتحلَّب([9]) من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل([10])، وتعفرها أمهات الفراعل([11])، ولئن اتخذتنا مغنماً لتجدُنا وشيكاً مَغرماً، حين لا تجد إلا ما قدمت يداك {وَمَا رَبُّكَ بِظَلّامٍ للعَبِيْدِ}([12]). فإلى الله المشتكى، وعليه المعول. فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحضُ عنك عارها. وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعُك إلا بدد، يوم ينادي المنادي {أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِيْنَ}([13]) فالحمد لله رب العالمين، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة، إنه رحيم ودود، وحسبنا الله و نعم الوكيل»([14]).
هذا البيان الصارخ الذي يعري السلطة الظالمة الغاشمة، لم تصدّره من خلال وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي، ولا برسالة نصية باسم مستعار، ولا برسالة مكتوبة أرسلتها بواسطة، إنما كانت بخطاب مباشر في وجه من يعنيه الأمر رغم ما يتسلح به من وسائل القوة. وهنا تكمن العظمة والقوة.
زينب صانعة التاريخ:
ومن أهم المفردات التي لا بد أن نلاحظها في شخصية زينب (ع) هي صناعتها للحدث. يقول السيد الإمام (قدس سره): «العظيم من يصنع الحدث، لا من يصنعه الحدث». وللأسف، أن الكثير منا لا يرضى إلا أن يكون صنيعة الحدث الذي أحدثه غيره. فلماذا لا تكون أنت صانع الحدث؟ وأنت من يرسم معالمه ويتنقل به من موقع لآخر ملغياً حدّ الزمن، وعقبات الأفراد. فمن زينب (ع) نستفيد هذا الموقف ونسير على نهجها.
ولزينب مواقف وبصمات كثيرة، فهي في المدينة تستظل بظل النبي (ص) خمس سنوات، وتتقلب في حضن الزهراء (ع) مثل ذلك، ثم يمتد معها الزمن في رحاب أبيها، سيد البشر بعد سيد البشر محمد (ص)، فما عسى أن يكون المنتج في بيت تشعّ العصمة في جميع جوانبه؟ فالجدّ معصوم، والأم معصومة، والإخوة معصومون، ثم سلالةٌ نيرة بعضها من بعض، أولها علي بن الحسين (ع) لتختم بالخلف الباقي من آل محمد (عج).
أما في الكوفة، حيث المحطة الأولى مع أبيها، فقد كانت البوابة الواسعة لنساء المؤمنين في الكوفة، وحلقة الوصل بين المؤمنات وبين الإمام عليّ (ع) ويكفي أن تنقل آراء علي (ع) التي هي آراء النبي (ص) وأحكام الله تعالى.
ثم تعود للمدينة بعد استشهاد الإمام علي (ع) وصلح الإمام الحسن (ع) وتكون لها بصمة الإعداد لأهل بيتٍ لا يمكن لأحد أن يقلل من خطورة وضعهم بعد غياب علي (ع) مقتولاً، وفق مؤامرة خُطِّطَ لها في فترة طويلة، ثم نفذت في واحدة من أقدس الليالي، في مسجد من أعظم المساجد.
وتسير زينب إلى كربلاء، ولا يمكن لأحد أن يفصل في المسار بينها وبين أخيها، فبقدر ما قدم السبط من تضحيات، أبى الله إلا أن تكون زينب هي الحافظ لهذه التضحيات، والمفلسفة لمعطياتها، والسائرة بخيراتها وبركاتها التي لولاها لما بتنا نعيش ما نعيشه اليوم من حب وولاء لجدها ولأبيها.
وفي كربلاء لا يحتاج الإنسان إلى مزيد حديث، فكربلاء هي تقرأ نفسها، وتنعى وتبكي نفسها، وكربلاء هي التي تجعل من نفسها المدرسة الأولى، بعد مدرسة التأسيس التي تعطي للإسلام بُعده. لذلك يكون التفسير الطبيعي والتطبيقي لقول النبي (ص): حسين مني وأنا من حسين، هو هذا التحرك الزينبي، فلو جردت كربلاء من هذه العطاءات لما صحّ التفسير والتطبيق العملي لمعطى النصّ النبوي الصادر عن الحبيب المصطفى محمد (ص).
وتعود زينب إلى الكوفة بعدما كانت ابنة الأمير والخليفة على المسلمين في كنف أبيها وأخويها الحسنين، وإذا بها تدخل الكوفة وهم يتفرجون ويطلقون أقذع الألفاظ بحق أهل بيت النبوة، وبحق زينب بالذات، فلم يتركوا شيئاً من ألفاظ الشماتة والتشفي، لكن زينب كانت صامدة. وأدخلت إلى قصر الإمارة، وبقيت صامدة، وتطاول عليها الوالي، وبقيت صامدة، ثم انطلقت لتعري والي الكوفة، وتجرده من كل ما قام بتثبيته على كتفيه وصدره من الأوسمة والعلامات المسروقة والمنتهبة المسلوبة من أهلها.
وعادت زينب إلى كربلاء بعد أن تجاوزت مسار الشام الصعب، المرعب المخيف، لكنها اجتازته فجعلته آمناً بوجودها وشموخها.
وعادت إلى المدينة، ويصرّ البعض أنها عادت منكسرة منهارة، والأمر ليس كذلك أبداً، بل عادت تضمد الجراح للآخرين، وترعى اليتامى والمساكين، وتحافظ على كرامة الأرامل اللاتي فقدن أزواجهن في كربلاء. ثم لم تكتفِ بذلك حتى فتحت واحدة من أهم المؤسسات الخيرية لتفقُّد حالة العوز في جمهور المدينة.
هذه هي زينب العالمة غير المعلمة، المفسرة للقرآن، والمبينة لحدود الأحكام، فلا تسوِّقُوا إلينا مشروعاً لا يتماشى مع قدرات زينب وعظمتها وشموخها وإبائها، فإن زينب نسخة طبق الأصل من الحسين (ع) إلا ما يخرج تخصصاً من الافتراق، كالإمامة وأمثالها.
زينب القدوة والأسوة:
من وصايا لقمان لابنه: «أحكم سفينتك فإن بحرك عميق، وخفف حملك فإن العقبة كؤود، وأكثر الزاد فإن السفر بعيد، وأخلص العمل فإنّ الناقد بصير»([15]).
أيتها الأخت المؤمنة: إننا اليوم بحاجة إلى امرأة متعلمة على خطى زينب (ع). بحاجة للمرأة الأصيلة في بيتها، المتعلمة، الخلوقة، المكرمة، المؤثرة لا المتأثرة. نريدها أن تكون شخصية تتسلح بالعلم والمعرفة، لا بالجهل وخيبة الأمل. نريد منها أن تمتلك الاستعداد الكافي للتنمية والارتقاء بأسرتها، لتهيئ لمجتمع راشد، وأن تكون صابرة تتحمل الكثير من مصاعب الحياة. هذه هي المرأة التي نريدها.
نريد أن تكون أيقونتها زينب (ع)، ومثلها الأعلى في الحياة زينب، وكفى.
وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.