نص خطبة: روافد مدرسة أهل البيت عليهم السلام

نص خطبة: روافد مدرسة أهل البيت عليهم السلام

عدد الزوار: 2144

2015-09-07

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

عن أبي حيون مولى الرضا (ع): «من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم. ثم قال: إن في أخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن، ومحكماً كمحكمه، فرُدُّوا متشابهها إلى محكمها، ولا تَتَّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا»([2]).

عوداً إلى ما كان الكلام فيه من المصادر التي تتكئ عليها مدرسة أهل البيت (ع) ممثَّلةً في علماء أعدوا أنفسهم لاستنباط ما يمكن أن يستنبط وفق قدراتهم وإمكانياتهم.

1 ـ القرآن الكريم:

فأهم مصادر المعرفة عندهم (ع) وبها قيام المدرسة الكبرى المحسوبة عليهم، القرآن الكريم، الذي يَفِدُ يوم القيامة بين يدي الله سبحانه وتعالى يخاصم قوماً، هم أولئك الذين تنكّروا له، وللتنكر للقرآن الكريم مصاديق متعددة، وليس حصراً في أن يهجره أحدنا تلاوةً، فالهجران قابل السراية والانطباق على شواهد كثيرة في الخارج. منها أن لا يستنطق من يتلو القرآن معطى الآية، ليكون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُوْنَ القُرْآنَ﴾([3])، فهو يقرأ بعجالة، وأهم ما يشغله هو أن يختم القرآن، ثم يُهدي الثواب، وآخر ما يفكر فيه هو ما استوقفه وما يمكن أن يفيد منه.

وهنالك طبقة أخرى من الناس أنعم الله عليها، وفتح لها أبواب علم ومعرفة، ودعاها دعوة صريحة وواضحة للاقتراب من القرآن، والولوج في محتواه من خلال التنقل بين آياته، واستنطاق المفردات بما أوتوا من قوة العلم والقراءة والمعرفة والثقافة الواسعة والأدب العالي، إلا أنهم يغلقون جميع تلك الأبواب بالأقفال، ثم يقرأون سرداً دون تأمل. في حين أن التأمل والتدبر أنتج ما أنتج من التفاسير.

ففي استعراضي لفهرست التفاسير في مكتبة السيد المرعشي رحمه الله، وهو أحد مراجع الطائفة، وجدت أنها تحمل بين جنباتها ما ينوف على ألف تفسير، ولم تكن كلها كُتبت بأيدي علماء بما هو متعارف عليه اليوم في المدارس الدينية بشقيها الإمامي والسني، إنما هنالك أناس تأملوا وتدبروا وكتبوا في التفسير وأعطوا رأياً بما يتوافق وما لديهم من قابليات، وكانت لهم إضافاتهم ولمساتهم والتفاتاتهم التي تثري الإنسان الباحث الذي يريد أن يصل إلى الحقيقة. فنحن نتلو القرآن ونستمع إليه، ولكن ما الذي يستوقفنا منه؟ والأهم من ذلك ما الذي نشغله من مساحة التوقف أمامه؟ وهذا هو بيت القصيد. وإلا فإن الآيات الشريفة لها القدرة والقابلية على أن تهز كيان الإنسان وتستوقفه، لكن الأمور لا تساق بالمطلق فيما يُحَدُّ بدائرة المقتضي، إنما لا بد من ارتفاع الحاجب في الطرف الآخر، فهنالك مقتضٍ لا بد أن يقابله ارتفاع المانع، فالنار بطبعها محرقة، لكن بشرط أن لا تكون الرطوبة قريبة منها، لأن الرطوبة مانع من سريان النار.

فربما تكون للبعض منا القابلية للوصول والتحرك داخل النص القرآني، لكن المانع موجود أيضاً، لذا تجد أنه لا يتحرك ولا يندفع في استنطاق النص القرآني، إنما يأخذ موقف المتفرج تارة، وموقف الساذج الذي لا يعي بحضرة من هو حين يتلو القرآن تارة أخرى، فلا تعدو أن تكون تلاوته لقلقة لسان، ولا فرق في اللقلقة بين أن تكون في نص قرآني أو نص من السنة أو نص أدبي أو في سياق كلام الناس بالعموم.

2 ـ السنة النبوية:

والرافد الثاني هو السنة المطهرة، ولكن لا على عشوائيتها، إنما بعد البحث والمتابعة والتدقيق، وهذا لا يتسنى لسائر الناس، إنما تختص به جماعة هم أولئك الذين أخذوا بأسباب التعامل مع نصوص السنة النبوية.

ففي السنة النبوية المطهرة عشرات الآلاف من الأحاديث التي تختلف في درجاتها من حيث التقييم، فهنالك المرسل والمسند، الضعيف والقوي، المرفوع والموضوع، وهذه تحتاج إلى حرفة ودراية كي نتخلص من منزلقاتها.

فمن كانت لديه القدرة في التصرف والتخلص من تلك التقاطعات الكثيرة هو ذلك الذي أخذ العلم من منابعه، فيما يتحصل بعد من أصول تحصل بموجبها عملية البسط، وإلا فمع فرض غياب هذه الآلية لا يمكن لأحد أن يتعاطى السنة كما ينبغي، إنما يبقى يخبط خبط عشواء، فيظن أنه اكتشف سراً هنا، أو ردّ مدعىً هناك، لكنه لم يصب في تلك، ولم يقترب في هذه من الحقيقة، إنما في كلا الموردين أخطأ الغرض.

والسنة المطهرة لدى الفريقين تشكل المادة الخام المركزة التي لديها قابلية مد يد العون للباحث في استنطاق النص القرآني، بمعنى أننا لو خلينا والقرآن فلا شك أننا نفهم ظواهره، لكن لغرض الغوص في أعماقه نحتاج إلى معين يدلنا على مكامن القوة التي من خلالها تتفتح لنا الأبواب.

التعاطي مع القرآن والسنة:

وأهل بيت النبوة (ع) نذروا أنفسهم أن يسلموا بين أيدينا الكثير من الآليات والعناصر القابلة أن تقدم معونة للمسلم أن يفكّ منطوق النص القرآني ولا يبقى مغلقاً على حاله.

1 ـ الحرفية:

وبطبيعة الحال، حيث أن للقرآن ظهراً وبطناً، ومحكماً ومتشابهاً، وناسخاً ومنسوخاً، وعاماً وخاصاً، ومطلقاً ومقيداً، فهذه أيضاً تُردُّ إلى قواعد بما يمكن للإنسان أن يجمع ما أمكن الجمع ـ وهو أولى من الطرح ـ أو تؤول به النوبة إلى الطرح، وهو مسار بيد العالم أو المفكر أيضاً ليمسك به ويفك المعضل.

2 ـ المركزية والتخصص:

كما أننا نحتاج إلى أمر آخر وهو في غاية الأهمية، ألا وهو المركزية في التفكير، كي لا نكون عشوائيين من جهة، ولا مشتتين في أفكارنا من جهة أخرى، ولا عاصم في هذين الموردين إلا الإذعان لمقولة التخصص في العلوم، فالعلوم اليوم لم تعد كما كانت في الزمن السابق، عبارة عن مجموعة مفردات أو قضايا أو تنظيرات محدودة المدى، وإنما أصبحت متداخلة متشابكة من جهة، ومن خلال هذا التشابك والتداخل يحصل التفريع، مما يولد العلم داخل العلم، ثم يأخذ هذا الأخير صفة التخصص، ثم يولد علماً آخر يستدعي تخصصاً جديداً أيضاً، وهكذا. فإن كنا منصفين في تعاطينا للمشهد العلمي والفكري والأدبي والثقافي وغيرها من العناوين، فعلينا أن نعطي القوس باريها، وهذا لا يعني أن الأديب لا يقرأ في الفقه، أو أن الفقيه لا يقترب من مساحة الفلسفة، فهي دورة تكاملية.

بل على العكس من ذلك لو أخذنا مثالاً بسيطاً في منتهى البساطة، أننا لو وقفنا على فقيه يعيش انغلاقاً على نفسه، لا يرى الدنيا إلا من خلال أمتار معدودة يتحرك فيها، ولا ينفتح على العالم من حوله، ولا يقرأ المشهد ولا يستدعي المعلومة، لرأينا أنه يقصر باعاً عن الكثير من القضايا، وإن كانت الوسائط متاحة، ولكن هذا أمر وذاك أمر آخر.

وفي الطرف المقابل لو أخذنا الشيخ البهائي رحمه الله مثلاً، لوجدنا أنه فقيه فيلسوف معماري فلكي أديب، طرق أبواب الأدب فكان له فيه القدح المعلى. يقول رحمه الله: ما ناظرني أحدٌ في علوم متنوعة إلا وتغلبت عليه، وما انفرد بي في علم إلا وغلبني.

انظروا للعالم الفقيه إذا كان منصفاً، كيف يعطي للحقيقة حقها. فهو يريد أن يقول: صحيح أنني علامة، لدي الكثير من المعارف، ولكن في جنبة التخصص يبقى التقدم لأهل التخصص.

وبناء على ذلك كانت له بصمة التميز في جميع العلوم التي طرقها، وعلى هذه فقس ما سواها من الموارد.

فالتخصص ـ أيها الأحبة ـ يمثل دافعاً عظيماً لتقدم العلوم. لذلك أهمس في آذان شبابنا الأحبة أن لا يتوقفوا عند حدٍّ من المعرفة، إنما يجرون وراءها إلى نهاية المطاف، فطلب العلم من المهد إلى اللحد، فإن توقفت في طريقك تقدمك الآخرون. فرصيدنا الزمني كبير، لكننا مع هذا الرصيد الأغلى في أيدينا لا نتعاطى كما ينبغي.

ولنسأل سؤالاً عابراً بسيطاً: من منا لم يختم القرآن في شهر رمضان؟ وكم منا من ختمه في شهر شوال أو ذي القعدة؟ لا شك أننا ننتظر شهر رمضان لأنه ربيع القرآن، وكأننا نسيناه في تلك الأشهر كلها، ولم نتذكره إلا في هذا الشهر.

فتح باب الاجتهاد:

إننا ـ أيها الأحبة ـ أمام كمٍّ هائل من الروايات المتعارضة في الكثير من الأحايين، لذا نحتاج إلى مدرسة ناهضة تنفتح على الأفق من حولها، وعلى جميع الأطراف، وأن لا تغض الطرف عن معطىً في أيٍّ من جوانب المعرفة، فتعنى بالمراجعة والتحقيق والتصنيف والتوثيق والفكّ والتركيب والجمع والطرح والاستخلاص وغيرها، بعيداً عن الاعتماد المطلق على ما أسسه الأولون إلا في مقتضى الحاجة، بأن يكون معيناً ورافداً. فأحكام الحج قبل ألف سنة يستحيل أن تلبي الحاجة لأجيال اليوم. فمثلاً: المبيت في منى يكون في بطن الوادي، ولكن كم يتسع بطن الوادي اليوم وقد بلغت أعداد الناس الملايين؟

رحم الله الإمام السيد محسن الحكيم، الذي كانت له آراء في الحج، لكنه عندما أدى فريضة الحج عمد إلى تغيير الكثير من الفتاوى وتوسع في المباني.

فنحن ندعي أننا أتباع مدرسة فُتح فيها باب الاجتهاد على مصراعيه، فلماذا نغلق الأبواب على أنفسنا؟ ولماذا نتهم الآخرين أنهم لا يجتهدون؟ إذن من أين أتوا بعشرات الآلاف من الفتاوى والآراء والتنظيرات والتأسيسات والقواعد والأصول التي سطروها في كتبهم؟ هل كانت كلها في زمن الرسول (ص) أو في القرنين الأول والثاني؟ لا شك أن لديهم حراكاً علمياً، ومن الغباء أن يطلق السلب بالكامل على الآخر في أي مجال من المجالات، أياً كان هذا الآخر، وذلك في مجالاتنا الحياتية كلها. فلا يمكن مثلاً اتهام أحد بعدم الفهم بالمطلق، فالناس يستوون في طلب العلم، ومن حق كل منهم أن يأخذ منه ما يشاء، وقد يخطئ الطالب أو يصيب، ولا أحد يستطيع أن يحجر على أحد في العلم مهما كانت الدواعي.

لذا تولد في الفترات الأخيرة مسلك مهم، مع أنه لم يتم التعاطي معه كما ينبغي، بل والأكثر من ذلك أن من حاول أن يذهب مع هذا المسلك إلى مسافات متقدمة تمت محاربته، والضريبة لا ندركها اليوم، إنما في القادم من الأيام، أو بعد عشرين أو ثلاثين سنة عندما نقرأ هذا العصر الذي عشناه، لنقول: كانت لدينا رموز وأعلام قادرة على التقدم بالمشهد إلا أن العقبة كانت كؤوداً أمامهم.

إن هذا المانع المفروض علينا ليس آية محكمة، وهو قابل للتحريك، لأنه صناعة فكر إنساني، سواء كان رأياً في الفقه أم التفسير أم غيره، فهو قابل للمناقشة لأنه صناعة إنسانية غير معصومة، إلا ما سُمع من ثغر المعصوم (ع) وكان صادراً من محمد وآل محمد (ص).

لذلك جاء مسلك المنهج المعاكس في التعامل مع الموروث الروائي، وهذا المسلك المعاكس يفتح لنا أبواباً، حتى الذين تقدموا في علومهم ومعارفهم، لو أنهم استفادوا من هذا المسار لتقدموا أكثر مما تقدموا، ولقدّموا أكثر مما قدموا، لكن بعضهم بقي أسيراً رغم ما يملك من القدرات والإمكانيات العلمية والمعرفية الهائلة التي لم تتسنَّ لغيره. فالموانع موجودة ولا داعي للتصريح بالكثير منها، ويكفينا في ذلك الإشارة.

أما لماذا هذا المنهج؟ فلأننا نريد أن نجعل الحاكمية للنص القرآني على نصوص السنة النبوية. فاليوم ـ مع شديد الأسف ـ نجد أن الحاكمية كثيراً ما تكون لنص السنة على القرآن، لا أن نفهم القرآن من خلال السنة. وهذا خطأ كبير، فالقرآن يجب أن يكون هو الحاكم على السنة، والسنة تعيننا على فهم المعطى القرآني، بعد سلامة سندها وظهور دلالتها، وهذا هو المسار الطبيعي، أما أن نجعل منها حاكماً على النص القرآني فلا.

من هنا جاءت الروايات عنهم (ع) في الردّ إليهم، ومنها ما ذكرته في أول الحديث، فكما أن في القرآن محكماً ومتشابهاً فكذلك السنة فيها محكم ومتشابه. إلا أننا نجد أن البعض يجلد الآخرين برواية، وربما يخرجهم من الملة والدين، وكل ذلك وفق مقاييسه هو، ولا دخل للقرآن أو السنة فيه، وكأن مفاتيح الجنة والنار بيد أناس يمنحونها من شاؤوا لمجرد أنه معهم في توجهاتهم، ولو فعل ما فعل، وقال ما قال، وتجاوز على جميع البشر.

لذا ترى اليوم أن أنهراً من الدماء تجري، وليست تجري إلا بين صفوف المسلمين، فهل هذا بسبب تمسكهم بالقرآن الكريم أو التفلت منه؟ لاعتمادهم السنة المطهرة أو للانقلاب عليها؟ للتسليم للبررة والأتقياء من علماء الأمة أو التمرد عليهم؟

إن أحداً لا يمكنه أن يدعي أن مسلماً يقرأ القرآن ويعتقد بحجيته ثم يكفّر المسلمين. أو أن هناك من يدعي الانتماء للسنة المطهرة للنبي الأعظم (ص) ثم يرى جميع المسلمين ليسوا من أهل الإسلام، فيبيح لنفسه قتل النفس وهتك العرض ونهب المال. ومنه ما حصل الليلة الماضية، فقد ترجل أحدهم في نقطة للتفتيش، ممن وقفوا هناك لحفظ أرواح الناس وممتلكاتهم العامة والخاصة وشرفهم، ثم أراق دماءهم. وهذا من الانحراف والمتاجرة الخطيرة. وأول حالات الانحراف هي الانحراف العقدي الذي كان منذ اليوم الأول. وليس الحل بالأمر السهل، إنما نضع أيدينا على بعض جوانبه تنظيراً فقط، أما الحل الواقعي فيحتاج إلى طاقات وإمكانيات كبيرة، ولا بد أن تكون النوايا طيبة أيضاً، فالهيئات الدولية والمجالس التي تنظر بعين عوراء لا يمكنها أن تحل المشكلة دون أن تصدق النوايا وتخلص.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرد الأمة إلى رشدها، وأن تتمثل طريقة السلف الصالح. وأن يجعلها تنعم بالسلام والأمن والأمان.

أسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.