نص خطبة: رسالة النبي صلى الله عليه وآله والعدالة العامة

نص خطبة: رسالة النبي صلى الله عليه وآله والعدالة العامة

عدد الزوار: 2804

2015-12-23

6 / 3 / 1437 هـ 

رسالة النبي (ص) والعدالة العامة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

ثمرات التوحيد:

قال تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيْرَتَكَ الأَقْرَبِيْنَ ~ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِيْنَ﴾([2]).

جوهر الدعوة الإسلامية يحدد معالمه نبي الرحمة محمد (ص) حيث يقول: «يا أيها الناس، قولوا لا إله الله تفلحوا»([3]). ويقول (ص): «ألا أخبركم بما يكون به خير الدنيا والآخرة، وإذا كُربتم واغتممتم دعوتم الله به ففرّج عنكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: قولوا لا إله إلا الله ربنا لا نشرك به شيئاً، ثم ادعوا بما بدا لكم»([4]).

1 ـ السعادة الشخصية:

فالفلاح الدنيوي سعادة في كل الأبعاد، في بعدها الإنساني ـ وهو الأهم ـ فإذا استقر الإنسان واطمأن، أحدث نتاجاً يحمل طبيعة ذلك الغرس، وإذا ما عُكّر صفو أمنه وسعادته واستقراره اضطربت النواة التي على أساسها تشكل هذا المخلوق الذي يحمل في كينونته جميع صور الإبداع للخالق جلت قدرته:

أتحسب أنك جرم صغير    وفيك انطوى العالم الأكبر

فهنالك مجموعة من المصانع المعقدة تعمل وتدير نفسها بإرادة الله التي ليس للإنسان فيها دخل، فتأخذ وضعها الطبيعي إذا عاش الإنسان أمناً واستقراراً وسعادة نفسية، وعلى العكس من ذلك تماماً تأتي النتائج.

والنبي الأعظم (ص) بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، لا للأمة التي بُعث في وسطها فقط، ومن خلال مكوناتها، إنما له الامتداد في مشارق الأرض ومغاربها، لذا فإن الانتماء للإسلام متعدد الألوان، والسماء وضعت أساساً لذلك طبقاً لقاعدة: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾([5]). والإنسان لو رشد في عقله انعكس ذلك على المنظومة من حوله، وإذا ما تسلل إليه شيء من الخلل في التركيب حصل ما لا يحمد عقباه، والشواهد على ذلك كثيرة، وما المستنقعات الإرهابية هنا وهناك إلا وليدة هذا الانحراف.

2 ـ الانتعاش الاقتصادي:

وهنالكم السعادة في الجانب الاقتصادي، وليس بالضرورة أن يمتلك الإنسان أموالاً طائلة بقدر ما يعني التدبير من أهمية عند التصرف في المال. لذا صح عنهم (ع): «التدبير نصف العيش»([6])، وفي نص آخر: «لا عقل كالتدبير»([7]). فيمكن للإنسان أن يكون بيده قليل من المال، ولكن الإدارة الصحيحة تجعله كثيراً، وعلى العكس من ذلك ربما يرث أموالاً طائلة يبددها ذات اليمين وذات الشمال، أو يصله رزق غير محتسب، فيحار كيف يتصرف فيه.

بالأمس على الهواء مباشرة كانت إحدى المحطات الفضائية تقدم استبياناً من خلال الناس، عن طريق السؤال التالي: لو قُدِّرَ أن يكون بين يديك مليون ريال خلال دقيقة واحدة، فماذا تصنع به؟ وكيف تتصرف؟ وكان المتصلون من جميع الطبقات، تعددت مشاربهم وأذواقهم ومذاهبهم وتفكيرهم وثقافاتهم ونحلهم، وبالنتيجة لا يجمع بين شخص وآخر جامع على أمر واحد، فكانت النتيجة مأساوية، خلا شذرات قليلة بين ذلك الجمع الذي تم استقراء قراءته لهذه القضية، فالمسألة لا تتعلق بالكثرة والقلة بقدر ما يكون لحسن التدبير من أهمية في تسيير ذلك المال، وجعله يأخذ طريقه الطبيعي من خلال مسارب طبيعية إلى وجهتها بحث تعطي نتاجاً، وكم على ذلك في الإيجاب من شواهد! وكم عليه في السلب من شواهد أخرى.

3 ـ الاستقرار الاجتماعي:

كذلك أراد النبي (ص) للمجتمع سعادة اجتماعية، فكلنا يعرف أن المجتمع في مكة كان ينتابه الصراع على حطام الدنيا، فربما تستعر حرب طويلة الأمد، متباعدة الأطراف، على قائمة بعير كسرت أو أصيبت بسهم!. فقد دخلت الجزيرة العربية حرباً ضروساً لمدة أربعين عاماً بسبب ضرع ناقة! كانوا يقدمون فيها القرابين تلو القرابين، لسبب بسيط. وأما في مكة فحدث ولا حرج إذ كانوا: «مُذقة الشارب، ونُهزَةَ الطامع، وقَبسة العجلان، وموطئ الأقدام»([8])، فلما بعث فيهم النبي (ص) عاشوا تلك السعادة، لأن الحب سيطر على قلوب المسلمين الذين دخلوا الإسلام رغم عنت الظروف، وصعوبة الأوضاع، وقسوة العيش التي كان يعيشها النبي (ص) وأصحابه في تلك الفترة.

4 ـ التسلح بالعلم:

ثم السعادة العلمية والفكرية، وهذه أيضاً من الأمور التي يحتاجها الإنسان في مسيرة حياته، وإذا ما أرادت أمةٌ أن تتقدم على أمة من الأمم فينبغي أن تتسلح بهذا السلاح.

وبما أننا على مقربة من الامتحانات النصفية أهمس في آذان أبنائي وبناتي، وإخواني وأخواتي فأقول: بغير العلم والفكر والسلوك والأدب، لا نستطيع أن نسجل أسماءنا في ديوان الخلود والسعادة الكاملة، وهذه هي المطالب والأسس التي ضحّى من أجلها النبي الأعظم محمد (ص) حيث وضع أسساً في سبيل أن تأخذ الأمة بالأسباب، وهذه الأسس كان النبي (ص) يغذيها ويؤصِّل لها من خلال موارد ثلاثة:

1 ـ أقواله الشريفة التي تناقلتها معطيات ذلك العصر على أيدي أناس اجتمعت تارة وتفرقت أخرى. لذا فإن ما وصلنا من ذلك العطاء في الجانب القولي لا زال إلى اليوم يشكو غائلة عدم التصحيح والتنقيح الكافي الذي يبرز لنا الجانب المشرق، ولا يمكننا أن نقرأ في سيرة النبي (ص) إلا الإشراق، لأنه لا إشراق إلا بإشراق النبي محمد (ص). لذلك دخلت منظومة السنة الشريفة، أي منظومة الأقوال الصادرة عنه (ص)، سواء عن ابتداء في مقام البيان، أم في مقام الإجابة في الكثير من المسارات.

وكان منع التدوين بالمطلق ضربة قاصمة لهذا المنبع الأصيل، كما أن فتح باب التدوين بعد قرنٍ ونيف من الزمن وجّه ضربة ثانية إن لم تكن أقل فداحة من سابقتها، أما الأولى فطوت مجموعة من أصحاب النبي (ص) والمقربين تحت الثرى، إذ ماتوا وفارقوا الدنيا وعلومهم في صدروهم، وما سمعوه من النبي (ص) دفن معهم، ولم يفسح لهم المجال أن يدونوا، وفي ذلك خسارة كبرى.

وأما الضربة الثانية للتدوين فكانت في فتح الباب على مصراعيه لتدوين الحديث، فأضحت الأمور أسوأ حالاً، إذ كثر الوضاعون والكذابون، وفتحت مصانع التفريخ والإنتاج للنصوص الملصقة التي لا تسلم من خدش في مسيرها السندي وعطائها النصي، وهو أمر بيّن.

فمن المعلوم من آية الإنذار التي تلوتها في أول الحديث، أن النبي (ص) جمع القرابة من أهل بيته، أي من بني هاشم، وبني عبد المطلب، وبني عبد مناف، ودعاهم إلى وليمة، وطلب منهم أن يقولوا: لا إله إلا الله. إلا أننا نجد أن راوية لم يلتحق بركب النبي (ص) إلا في المدينة، ولم يسمع منه إلا بعد سنوات أيضاً، يروي أن هذه الآية لم تنزل بهذا الخصوص، إنما نزلت لتوبيخ فاطمة وعلي وعباس والفضل! فانظر كيف تتغير الأمور بسبب فتح الباب أمام التدوين بعد إغلاقه لعشرات من السنين.

ونحن اليوم أيضاً أمام موروث كبير يراد له أن يفتح، ولنا أن نسأل: ما هي الآليات التي على أساسها نفتح الماضي ونقرؤه؟ ثم من هو الذي بيده القدرة أن يخطو خطوات إلى الأمام، لتكون محسوبة لا تخلف لنا التخلف من حيث نريد التقدم؟.

2 ـ ومن السنة أيضاً أفعال النبي (ص) إذ كانت أفعاله تشريعات، لكن القليل من أفعاله أيضاً وصل إلنا، أي مما تم تدوينه، بأن النبي (ص) فعل في المكان والزمان المعينين فعلاً معيناً، وفي غيرهما فعلاً معيناً آخر، ربما يكون معارضاً أو موافقاً أو مغايراً، لنستنتج بعد ذلك المستوجب لكل فعل، وما بين الأفعال من تعارض أو غيره. فلم يُدوَّن من أفعال النبي (ص) إلا القليل، أما الأفعال المفصلة فقد طمست معالمها، وأذيبت حروفها، وبعضها لُوي ذراعه باتجاه مغاير لأصل القضية.

3 ـ أما تقريراته المباشرة فهي تشريع أيضاً، فأي تصرف يكون بين يدي النبي (ص) ثم لا يحدث ردة فعل، فهذا يعني الرضا والقبول منه، لأن مسؤولية النبي (ص) هي البيان والبلاغ وإيضاح التكليف، فسكوته عن ذلك الفعل يعطي مؤشراً على أن الفعل الصادر من الصحابي أو المسلم الفلاني عمل شرعي مقبول ممضى من قبله.

وفي آية الإنذار، عندما قام النبي (ص) بإنذار عشيرته الأقربين، كان من الطبيعي أن يعترضه أقرب قرابته، وهذا مقتضى تناسب الحكم للموضوع كما يقول الأصوليون. ومن الشواهد على ذلك سورة المسد، فأبو لهب لم يكن أجنبياً عن النبي (ص) إنما هو عمّه.

الاستهزاء الجاهلي:  

إن عقبات التخلف الجاهلي في مسرح الرسالة الأول مكة المكرمة كثيرة، واستقصاؤها يسبب مشقة للباحث والمستمع معاً، لذا أقتصر على واحدة منها لنقرأ ما وراءها وما الذي أحدثته، تلك هي عقبة (الاستهزاء)، فالنبي (ص) قال لأهل بيته: «أيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟([9])، فلم يقم أحد سوى عليّ، فأجلسه النبي (ص)، وهكذا في المرة الثانية، أما في الثالثة فأخذ بيده فقال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا. فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع .

يقول تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُوْلُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوْضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُوْلِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُوْنَ﴾([10]). فالمقام ليس مقام سخرية واستهزاء وهزل.

بالأمس كان الاستهزاء والسخرية بهذا الشكل، أما اليوم فهنالك استهزاء أيضاً، ولكن من نوع آخر، فهنالك لعب خطير بالأوراق، وعبث بالنار، ربما لم تصل مخاطره إلى كل فرد، ولكن إذاما تركت النار تشتعل، ذُهل منها الصغير قبل الكبير، وهذا أمر بين. يقول تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوْا الَّذِيْنَ آمَنُوْا قَالُوْا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوْا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُوْنَ﴾([11]).

دوافع الاستهزاء:

هذا الاستهزاء الذي نعيشه اليوم، وعاشه من تقدم، لا بد أن تكون وراءه أسباب ودوافع، فما هي أسبابه ودوافعه؟ إننا إذا شخّصنا الداء سهل علينا الدواء، وإذا تعسر علينا تشخيص الداء تعقد علينا وضع الدواء المناسب له. فمن أسباب الاستهزاء:

1 ـ روح الحقد والكراهية بين الناس: ففي زمن الرسول (ص) كان هنالك صراع بين طرفين، فدخل الدين لصالح طرف، وتربّع الحقد في قلوب طرف آخر، فآيات النفاق والاستهزاء تشير مباشرة إلى هذه الطائفة، وبالمقابل تشير آيات الإيمان والتقوى والرحمة والتسليم والانقياد إلى الطرف الأول.

والنبي (ص) كان يدير الوضع، ففي وسط أصحابه كان التسليم بالمطلق، وفي الطرف المقابل كان الإنكار والجحود بالمطلق أيضاً، وتقاسُم الأمر على مستوى أنصاف الحلول لم يجد لنفسه مساحة، فقرعت طبول الحرب. وكانت بادئ ذي بدء قد حُسمت لصالح المسلمين في بدر، ولكن حصلت الانتكاسة في أحد، ثم أعيدت المعادلة في الخندق إلى مسارها الطبيعي، وباتت الكلمة للنبي (ص).

وظاهرة الاستهزاء بالنبي (ص) كانت معالمها في أحد واضحة، بل إن الكلمات التي أُطلقت تجاهه يشق على المرء أن يتفوه بها، وكانت قد صدرت من طرفين: طابور المشركين، وعلى رأسهم أبو سفيان، وطابور المنافقين، وهم المسلمون الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، وهؤلاء كانوا أشبه بمخرز في ظهر الرسول (ص) بل إن السبب في التفات خالد بن الوليد إلى ظهر الجبل، وإنزال الهزيمة بالمسلمين، ما كان يرجع لنزول الرماة من الجبل فقط، فهذه نصف القراءة، بل لأن هناك تواطؤاً حصل بين الرماة وبين الطرف الآخر، وهو ما نعبر عنه اليوم بشراء الذمم.

إن المنافقين تسلَّلوا إلى صفوف المسلمين بظاهرة الإسلام، لكنهم لم يعيشوا الإسلام مبدأً، ولم يتربع في داخلهم. ثم إن النبي (ص) توسعت دولته يوماً بعد يوم، وكثرت الغنائم بين يديه، ولم يعد بحاجة لهم في المعارك، لأن معاركه باتت محسومة النتائج. لذا تأصلت حالة الحقد منذ ذلك اليوم.

2 ـ دافع الانتقام الجائر: فالإنسان قد يشعر أحياناً بحالة من الظلامة فيريد أن يأخذ حقه، وهذا من حقه، ولكن أحياناً يتحول إلى حالة من الجور والانتقام والظلم. وما يحصل اليوم في أكثر من مكان بين المسلمين ينطلق من المزاوجة بين هذا الدافع وما قبله، وهو ما جعل الأمة في أتعس مفاصل حياتها الزمنية.

3 ـ الفراغ والإحباط النفسي: لذا يجد الكثير منا أن من يلتحق بهذه الزمر والبؤر الإرهابية هم أبناء هذا الجو، أي أنهم أناس يعيشون فراغاً وإحباطاً في جوانب حياتهم يسوقهم بهذا الاتجاه، فهم يُبشَّرون في الدنيا بالنصر، وفي الآخرة بالحور العين!.

4 ـ العجب واحقار الآخر: وهذا مرض وداء يفتك في مجتمعنا مع شديد الأسف. ولهذا العجب وذلك الاحتقار أسبابه أيضاً، فتارةً تكون أسباباً عشائرية، فيُستهزأ بابن العشيرة المخالفة. وأحياناً على أساس المال والثروة، فلأن الآخر فقير معدم يُحتقر. وأحياناً على أساس الفقر العلمي أو الفكري. وعلى هذه فقس ما سواها. والخطر الأكبر في مسألة العجب والاحتقار أن تتسلل إلى عقلية كبار الأمة ورعاة مصالحها، وهنا تقع الطامة الكبرى، إذ إن الأمة لا تستطيع أن تسير في مسار صحيح، وتكون الضرائب باهضة يشق على الإنسان دفعها.

5 ـ التقليد الأعمى: فهناك من يرى تلك الجماعة مثلاً تسير بهذا الاتجاه، فيسير في مسلكهم، ثم يستهزئ بغيره من الجماعات الأخرى أو الأشخاص الآخرين، كأن يُستهزأ بمن ينتمي لعائلة غير معروفة، أو لقلة علمه ومعرفته، أو لغير ذلك، فعندما تنعقد بعض الجلسات تكون ميداناً للتندر والاستهزاء.

بل إن الاستهزاء ربما يقود أحياناً إلى الاستهزاء بالله سبحانه وتعالى، كما فعل المنافقون في صدر الإسلام الأول ﴿أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُوْلِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُوْنَ﴾. ومن أمثال ذلك الاستهزاء بمن كان في خلقته عيب، أو أن الله اختار له شكلاً أو لوناً معيناً. فهذا ليس استهزاءً بالشخص بقدر ما هو استهزاء بساحة القدس المطلق والعياذ بالله.

إن رسالة النبي الأعظم (ص) تعني العدالة العامة لكل الناس، فليس من حق أحد أن يصنف النبي (ص) على طائفة دون أخرى، فليس هو نبي السنة ولا نبي الشيعة، بل وليس للمسلمين دون غيرهم، إنما هو نبي الإنسانية جمعاء. فتصنيفه على طائفة دون أخرى لا القرآن يؤسس له، ولا السنة ترشد إليه، ولا العقل يأخذ به، ولا الإجماع منعقد عليه، وليس عليه أي دليل. إلا أننا نجد اليوم أن هذا المسجد للسنة لا يدخل فيه شيعي، وهذا المسجد للشيعة لا يدخل فيه سني. لذا تجد أن الطائفية تستفحل، وتأخذ دورتها الكاملة، لأن كثيراً من المفردات لم يتم إصلاحها. فمتى يجد الشيعي نفسه في مسجد السنة، ومتى يجد السني نفسه في مسجد الشيعة في مساحة واحدة ووضع واحد؟

مضى ألف وأربمئة سنة ونيف، والأمة الإسلامية لم تستطع أن تخلق هذا الجو. قد يقال: هناك الكثير من الإيجابيات في البلد الفلاني والبلد الفلاني، وهذا صحيح، إلا أنني لا أتكلم بشكل تجزيئي. بل حتى تلك البلدان التي تبدو فيها الأمور إيجابية، فيها بعض المساجد والبؤر التي لا يمكن أن تدخل فيها.

فالإشكالية تكمن في انحراف البوصلة، فهذا النبي (ص) يقول لهم: «ايتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً»([12])، فلا يجاب طلبُه! ثم ينتقل النبي (ص) إلى جوار ربه، وتبقى الأمة بهذا الوضع، فتتم الخلافة للأول، وتسير الأمور، ثم يأتي الثاني، ثم الثالث، ثم الإمام علي (ع) كخليفة راشد رابع بناء على المدرسة العامة، ولكن يأتي معاوية على رأس الأمة، وتبقى الدولة الأموية ثمانين عاماً تشتم علياً (ع) وتلعنه، فكان هناك سبعون ألف منبر يوم الجمعة يشتم فيها علي ويلعن، ولا يختم الخطيب خطبته إلا بالنيل من علي (ع) سباً ولعناً. حتى أن أحدهم فرغ يوماً من خطبته ونسي أن يشتمه ويسبه، وأراد أن يشرع في الصلاة، ثم تذكر، فرجع إلى منبره وقال: أستغفر الله، ثم راح يشتم أمير المؤمنين (ع). أي أنه استغفر الله تعالى كونه نسي أن يشتم علياً (ع).

إن الباحث عن العلاج لا بد أن يشخص المرض قبل كل شيء من خلال أعراضه، ليوضع له العلاج الناجع. لذا نجد أن القرآن الكريم يضع العلاج للقتل، ولكن من خلال القتل أيضاً. يقول تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ﴾([13]). فالقتل أمر صعب جداً، ولكن عندما يكون فيه حياة يكون مقبولاً بل ضرورياً.

نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.