نص خطبة: رسالة العيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
الحمد لله الذي جعل هذا اليوم للمسلمين عيداً، ولمحمد (ص) ذخراً وشرفاً وكرامةً ومزيداً.
أسعد الله أيامنا وأيامكم، وبارك الله لنا ولكم العيد السعيد، أعاده الله علينا وعليكم وعلى عموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
وقفة مع العيد:
في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (ع): «العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق، فلا تزيده سرعة السير إلا بعداً»([1]).
العيد لغةً: هو ما ينطبق على كل يوم فيه جمع، واشتق من العَوْد، يُقال: عاد يعود عوداً، فكأنهم عادوا إليه. أما العيد اصطلاحاً فهو اسم لما يعود من الاجتماع على وجه معتاد عائد، إما بعَود الأسبوع أو عَود الشهر أو عود السنة.
الإسلام أيها الأحبة عندما شرع العيد أراد أن يمنح الأمة الإسلامية فرصة كي تقف مع نفسها مستعيدةً ما تقضى من التعامل مع أيام الشهر الفضيل الذي أظلّها طوال لياليه وأيامه، فطوبى لمن استفرغ جهده في الصيام والقيام، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا ومنكم ومنهم صالح الأعمال، وأن يعيد الشهر الفضيل علينا وعليكم، والجميع في أحسن ما يحب أن يكون.
الإسلام أيها الأحبة، شريعة الله التي جاء بها النبي محمد (ص) وفي هذا الدين العظيم يتجسد نظام الحياة الشامل المتماسك في حلقاته وفقراته، ولا يمكن أن يستقر الإنسان في أجواء السعادة، ما لم يكن ضمن منظومة هذا الدين الحنيف، حيث كفل للإنسان سعادته في الدارين، الدنيا والآخرة.
هذا الدين الحنيف هو الطريق المعبد لعالم الآخرة، حيث تم رصفه بالطاعات والابتعاد عن الشوائب والعوالق والمعرقلات.
كما أن هذا الدين يُعطي حالة من الطمأنينة والاستقرار لمن يلتزم به مشروعاً في الحياة، بعد أن يعطي العهد فيه اعتقاداً. فالإسلام النقي الذي جاء به النبي (ص) وفرّع له الأولياء المعصومون، وسار بركابه صحابة النبي (ص) الأجلاء، لا زال بمقدوره أن يتسيّد الموقف في كل بقعة من مساحات هذا الكوكب، إذا ما تمثل في كل منتمٍ للإسلام بما هو إسلام، أما إذا بقي في حدود الإضافة والتعرفة على نحو الهوية فقط، فسوف لن نتقدم، بل ربما نتأخر لا قدر الله، ويذهب من بين أيدينا الكثير، والشواهد على ذلك في العوالم السابقة كثيرة كما هو الحال في الأندلس، أبرز شاهد وشاخص، وفلسطين التي لا زالت تدق ناقوس الخطر لسائر البلدان من حولها.
قراءات مختلفة لإسلام واحد:
والإسلام قد يُقرأ بعدة قراءات، وهذا ما حصل ووقع، لذلك تشعبت الطرق وتكثرت المذاهب، وتفرقت الأهواء. فالإسلام أيها الأحبة قد يُقرأ قراءة سلبية فيكون في نظر الآخرين سلبياً، لا يقدم شيئاً للفرد ولا للجماعة، وهو ما عرضه ومثله أولئك الذين جعلوا منه مطية يمتطونها عند الرغبة في الوصول إلى أهدافهم التي رسموا وخططوا من أجلها. لذلك قد يصل (الإسلام السلبي) إلى حد انتهاك المحرمات، وهذا من البديهيات التي حاربها الإسلام، بل دفع باتجاه التأصيل لمحاربتها إلى نهاية الطريق.
أما القراءة الثانية فهي قراء (الإسلام التاريخي) وهو الذي يسود الكثير من المواقع في عالمنا اليوم، فهو إسلام كتبه أرباب التاريخ من الحكام والسلاطين، وأما الأنبياء وعلى رأسهم النبي (ص) فلم يحظ بالكثير من الاهتمام من المؤرخ إلا من خلال البعد السلطوي.
فهنالك إذن إسلام الأنبياء والأئمة والأولياء والصحابة الأتقياء الورعين، وهنالك إسلامٌ تاريخي شوهت صفحاته، وهو إسلام لا يتورع أن يقتل علياً والحسين (ع) ثم يأتي بالذرائع والوسائل التي من خلالها يلوي أعناق الحقائق، ويشوه ما هو موجود من تاريخ، لينعكس ظله على الإسلام الحق.
وثمة قراءة ثالثة أن الإسلام هو عبارة عن القانون العام، وهذا هو الذي قصدته الرسالات وخططت له النبوات، حتى جاء النبي الأعظم (ص) بأفضل ما جاءت به السماء على قلب نبي من الأنبياء، كيف لا؟ وهي الرسالة الخاتمة المتشخصة في ذات الحبيب المصطفى محمد (ص).
ومن الدروس التي يجب أن نأخذها في هذه الفترة والمرحلة ونحن نعيش العيد السعيد، التوسعة على النفس والعيال، وهو مطلب أكده الإسلام، فالهدف من ذلك هو قتل النفس الشحيحة في داخل الإنسان، فعندما ينفتح المرء على نفسه وعياله والأسر القريبة من حوله، يجسد واحدة من المفاهيم التي دفعت حركة الرسالة باتجاهها.
في الحديث الشريف عن النبي (ص) أنه قال: «إن المؤمن يأخذ بأدب الله، إذا وسّع عليه اتسع، وإذا أمسك عليه أمسك»([2]). فمدار التوسعة والضيق على العيال هو التوسعة الفعلية على المنفِق، فليس من الصحيح أن أقترض أموالاً، وأحمل على ظهري الكثير من الديون في سبيل تأمين حياةٍ مرفهة لي ولأبنائي، بل عليّ أن أعيش الكفاف ما دام الأمر في حدود الإمساك، فما دام الله تعالى قد أمسك، فليس من العملي والمنطقي أن أوسّع. أما إذا وسع الله عليّ، فعليّ أن أوسع من دائرة العطاء، بدءاً من نفسي وانطلاقاً من ولدي، ثم الأوسع فالأوسع.
ويروي الكليني في موضع آخر عن الإمام الرضا (ع) أنه قال: «صاحب النعمة يجب عليه التوسعة على عياله»([3])، فليس من المناسب أن يكون قصير اليد، ممسكاً، مغلول اليد، ينظر أبناؤه إلى الخيرات تجبى لهم من مشارق الأرض ومغاربها جراء جهد هنا أو هناك، وأرصدة وحسابات تكدس وترتقي حتى يجهل الولد ما يعني ذلك الرقم، لكنهم يعيشون في ضنك وضيق وحرج، يبلغ حد الإحراج مع أصدقائهم إذا ما ذهبوا معهم في سفر. فعلى صاحب النعمة أن يوسع على عياله قدر الإمكان.
ويروي الكليني أيضاً عن الإمام السجاد (ع) أنه قال: «أرضاكم عند الله أسبغكم على عياله»([4]). لا أكثركم صلاةً أو صياماً أو عبادةً، وإنما أسبغكم من نعم الله تعالى على عياله، وأكثركم توسعة.
ولا بد هنا أن يلتفت الآباء إلى مسألة نفسية مهمة، هي أن الابن إذا شعر أن لباسه لا يتناسب مع لباس أبناء جيله ومجتمعه ومنطقته، فبطبيعة الحال أنه يعيش حالة من الهزيمة الداخلية تطارده في كل المواقع، فلا يتفوق في درس، ولا يحقق نجاحاً في عمل، ولا يرسم معالم حياة سعيدة. فعلى الأب ـ وهو ولي النعمى على الولد ـ أن يفتحها على أولاده كي يعيشوا ويعيش هو كما أراد لهم من الخير والسعادة.
ويروي الكليني أيضاً عن أبي الحسن (ع) أنه قال: «ينبغي للرجل أن يوسع على عياله، كي لا يتمنَّوا موته. وتلا هذه الآية: ﴿وَيُطْعِمُوْنَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيْنَاً وَيَتِيْمَاً وَأَسِيْرَاً﴾([5])، قال: الأسير عيال الرجل، ينبغي للرجل إذا زيد في النعمة أن يزيد أسراءه في السعة عليهم»([6]).
ويروي الشيخ الصدوق رحمه الله عن أبي الحسن (ع): «إن عيال الرجل أسراؤه، فمن أنعم الله عليه نعمة، فليوسع على أسرائه، فإن لم يفعل أوشك أن تزول تلك النعمة»([7]).
فلينتبه المسلم إلى هذه الحيثية، صحيح أن الله تعالى يقول: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُوْلَةً إِلى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ﴾([8])، لكن هذا لا يعني الانكماش القاتل لهؤلاء الأسرى.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيد علينا وعليكم هذه المناسبة، وأن يوفقنا وإياكم لكل خير، والحمد لله أن هذا العيد يكاد يكون بالاتفاق، ولم يتخلف عنه إلا سماحة السيد المرجع وفي حدود ضيقة جداً أيضاً، وليس بالمطلق، لأن حوالي تسعين في المئة من مقلدة السيد تفهموا المسألة بضابطتها الشرعية من فضلاء معتمدين، لذلك انخرطوا فيما انخرط فيه الناس، وبقيت قلة قليلة عملت بما تراه أنه وظيفتها الشرعية.
وفي جميع الأحوال نرى هذه البسمة المشرقة على الوجوه، لا سيما في عودة الأحساء إلى طبيعتها، حيث زرعت الثقة في رجال دينها، فكان ما كان من الحشود والجموع الكبيرة التي تلتقي على الإيمان، والابتسامات التي ترتسم على كل محيّا، وهذه من النعم العظيمة.
أسأل الله تعالى أن يعيد العيد على جميع المسلمين، وأن يحقق آمالهم في كل ما يصبون إليه، إنه ولي ذلك. والحمد لله رب العالمين.