الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
في ذكرى الإمام السجاد (ع):
في الحديث الشريف عن ابن عباس عن النبي الأعظم محمد (ص) أنه قال: «إذا كان يوم القيامة ينادي منادٍ: أين زين العابدين، فكأني أنظر إلى ولدي علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يخطو بين الصفوف»([2]).
ليلة الأحد القادم شهادة الإمام المظلوم المسموم صاحب القبر المهدوم، الإمام السجاد (ع). وهو من الأئمة الذين لم ينصفهم التاريخ كما ينبغي، بل تجاهل الكثير من المواطن التي ينبغي أن يحني كتّاب التاريخ رؤوسهم أمامه. بل حتى نحن اختصرنا الإمام السجاد (ع) في دخوله للسوق وسؤاله القصاب: هل سقيت هذا الكبش ماءً؟ وما إلى ذلك، وكأن الإمام لا شغل له في الحياة إلا أن يذرف الدمع، حال أن المتصفح لحياته يجد أنها طافحة بالدروس والمعطيات.
لقد خرج الإمام زين العابدين من كربلاء بتركة ضخمة، ألا وهي ميراث الطف، حملها على عاتقه وسافر بها من كربلاء إلى الكوفة حيث قصر الإمارة، إذ صدح فيه ببعض معطيات الطف، وسلط الضوء عليها بما يتماشى ومحدودية الظرف، ثم انتقل بالمسؤولية أو بالموروث من خلال النهوض بالمسؤولية إلى الشام، وفي المسجد الأموي الكبير، فكانت مظاهر الطف تتجلى وتبرز معالمها أمام من تسبب في إضافة اللون المأساوي إليها، وهو خليفة الشام آنذاك.
كان يقول: «أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا». ويقول: «أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن علي المرتضى». بمعنى أي جريمة ارتكبتم؟ هكذا أراد أن يرتب الأوراق.
إن الإمام زين العابدين (ع) عظيم في جميع جوانب حياته، فقوة الدولة الأموية لم تستطع أن تقف أمام التقدم الجارف لمعطيات الطف المرتبطة بعد تقضّيها بالإمام زين العابدين (ع). فعلوم أهل البيت (ع) ومعارفهم ومعطيات الصحابة في من تبقى منهم، ومعطيات التابعين ـ وهم الغالبية العظمى ـ لم يفتح الأبواب أمامها على مصراعيها إلا الإمام زين العابدين (ع).
تدوين السنة:
لقد قرأنا جميعاً عن الإشكالية التي دخل فيها المسلمون بسبب منع تدوين الحديث، ولكن لم يسلط الضوء بالقدر الكافي على من كان سبباً مباشراً في رفع تلك الحالة، والكابوس الجاثم على عقليات جمع من الصحابة، وكمٍّ هائل من التابعين. فقد كان الإمام ينفق الدنانير والدراهم في سبيل أن تدون السنة النبوية، وبفضل جهوده والأموال التي أنفقها وصل إلينا الكثير، وأسس لمدرسة الحديث من جديد، وأخذت أبعادها على يد الإمام الباقر ثم الإمام الصادق (ع).
هذه الصفحة المشرقة الكبيرة التي أعطت ولا زالت تعطي، نأبى نحن إلا أن نطمس معالمها، ونختصرها في حالة دخول إلى السوق والسؤال من أحد القصابين! مع أن هناك ألف طريق وطريق يوصلنا إلى البكاء على الإمام الحسين (ع) لأن المأساة عظيمة جداً، ولكن أن نصل إلى بعض الجواهر التي أبى التاريخ إلا طمساً لمعالمها، هو ما ينبغي أن يستحث هممنا، ويحفزنا كي نتقدم خطىً إلى الأمام.
لذا فإننا نبحث وبكل إصرار عن المنبر الحسيني المتنور الذي يشع نورانية من الحسين صاحب المنبر، أما أن نبقى نراوح مكاننا، بل يقدَّم من لا يمتلك بضاعة فكرية ولا علمية ولا ثقافية، سوى أنه يتميز بصوت يغرّد من خلاله، ويكون هذا هو الملاك في التقديم والتأخير، فهذه كارثة. فنحن لسنا أبناء تلك الحقب السابقة قبل عقود، بل أبناء هذه الحقبة المتقدمة في جميع جوانب حياتها، الثقافية والعلمية والتقنية والإعلامية وغيرها، فلا ينبغي أن يظلم الإمام السجاد (ع) أكثر مما ظلم.
رسالة الحقوق وصحيفة النور:
كنت في الأسبوع الماضي قد تحدثت عن القانون وما له من الأهمية، والإمام زين العابدين (ع) إذا ما قرأناه وتهجينا مفردة التاريخ الذي نسج خيوطها بحروف وضاءة من خلال موردين ثرّين، نجد أن له اليد الطولى في هذا المضمار. وهذا الموردان هما:
1 ـ الصحيفة السجادية، زبور آل محمد (ص).
2 ـ رسالة الحقوق.
فلو أننا تهجينا هاتين المفردتين لوجدنا أنفسنا أمام المؤصل الأول للحراك في وسط الأمة. فالبعض يتصور أن الصحيفة السجادية هي عبارة عن حالة من التبتل والارتباط الروحي فقط، في حين أنها مدرسة وثورة وحراك في جميع جوانب وكينونات الإنسان في دائرته الصغيرة، والمجتمع في دائرة أوسع، ولكن بيننا وبينها قطيعة. فكم تشغل الصحيفة السجادية من مشروع منابرنا الحسينية؟ في حين أننا لولاها لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه. فلو أننا جردنا التاريخ من زين العابدين (ع) فما عسى أن يبقى لنا من كربلاء؟ اللهم إلا ما حفظته زينب (ع)، وهو يحفظ ولا ينسى، ولكن يبقى الإمام زين العابدين (ع) هو الإمام المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، فإن حدث إنما يحدث عن أبيه عن جده علي (ع) عن جده النبي الأعظم محمد (ص) عن الله سبحانه وتعالى.
فبعد واقعة كربلاء تبلورت حالة الوضع الاجتماعي في وسط الأمة، لا سيما في المجتمع المدني. وكان أتباع أهل البيت (ع) هم الأقلية، لذا سعى (ع) من أجل حفظ تلك الأقلية على أساس من العلم والوعي والحيطة والانسجام والانفتاح والأخوة والمحبة والألفة والاندكاك مع النسيج الاجتماعي من حولهم.
ولا بد أن نشير هنا إلى أنه ما من إمام من أئمتنا إلا وهو يدفع بهذا الاتجاه وهذا المسار، أما نحن فنأبى إلا الانطواء على أنفسنا، ولا نقبل أن نكسر القيود التي قيدنا بها أنفسنا في الكثير من المواطن.
ربما يكون للآخر أسبابه وعوامله، ولكن ما بأيدينا يبقى بأيدينا، ونحن أصحاب الحل والعقد فيه.
فالإمام زين العابدين (ص) من خلال رسالة الحقوق، المشتملة على واحد وخمسين حقاً، أصّل لتنظيم حياة المسلم مع نفسه وأهله ومجتمعه وربه ومن لا يشتركون معه في دين، وينبغي أن يتعامل معهم على أساس من الإنسانية، فكيف الحال إذا كان الدين هو العاصم والقاسم المشترك مع الشرائح التي نعيشها، ومن لا يجد في الإسلام مظلة يحتمي بها فالأمر أشد عسراً عليه إذا ما خرج من إطارها.
واقع الأقليات:
إن الأقلية على مدى التاريخ كانت تقضّ مضاجع جماعة وتؤنس أخرى، وهي دائماً الطرف الأضعف المبتز المصادر الحقوق، سواء في الدول الدينية أم تلك التي تتبع النظام الوضعي. بل إن الأقلية وإن جُلدت باسم الدين في بلاد الدين، إلا أنها تجلد بأكثر من سوط وسوط خارج هذه الدائرة، ولكن لا نلمس إلا الصورة القريبة منا، وربما يكون ذلك أمراً طبيعياً، لكن ليس الحال أحسن.
فعلى سبيل المثال ليس إلا، المسلمون في جنوب شرق آسيا أقلية في أكثر من بلد، ومنها ميانمار، وقد رأينا أن بيوتهم أحرقت على من فيها، حتى أن المرضعة تحمل وليدها وهي محاطة بالنار من حولها!. وشاهدنا مشاهد مروعة لم يطرف لها جفن مسلم على وجه الأرض، ولم تتحرك لها ضمائر دول وإن تسمّت باسم الإسلام. هذا هو شأن الأقلية.
وكذلك الفلسطينيون، الذين كانوا يوماً ما أكثرية، ثم أضحوا أقلية، وها نحن نراهم يُسحقون بمرأى ومسمع من العالم دون رادع. ودعك من الإعلام فالمسألة أكبر بكثير من مواقف الشجب والاستنكار والإدانة، فقد شجبها حتى الممثلون في المسرح الكويتي في السبعينات. فالمسلم يقتل بدم بارد، والمرأة العربية لا تلامس نخوة عربي اليوم.
وقد عنيت بهذا الشأن بعض المؤسسات الدولية، ولكن على استحياء وخجل. تصوروا أنه منذ عام 1945م بدأت منظمة الأمم اليوم مناقشة قانون التجريم في التجاوز على حقوق الأقليات. فمنذ ذلك الحين وحتى اليوم لا يوجد تعريف اصطلاحي لمفهوم الأقلية في الأمم المتحدة، حيث تُرك المجال مفتوحاً للأنظمة في التلاعب بحقوق الأقليات، باعتبار أن التعريف غير كامل، والمصطلح غير منطبق.
من هنا فقد استخدموا المصطلح من خلال مدلوله، وهي مسألة واضحة المعالم من حيث الالتفاف على القضية، كما هو معروف في علم المنطق.
ولبيان ذلك نقول: إنهم عرفوا الأقلية (مدلولاً) بأنها: مجموعة من البشر تعيش جنباً إلى جنب مع بقية مكونات الشعب، في حدود الدولة الواحدة مع تفردها ببعض الخصائص. ولكن ما هي تلك الخصائص؟ لم ينص عليها هذا التعريف. فحتى المدلول في هذا التعريف لم يعط حقه من التعريف.
الأقليات في ميثاق حقوق الإنسان:
أما ميثاق حقوق الإنسان لعام 1945 فقد وقعت عليه مجموعة من الدول وتخلفت أخرى، لأن الأقليات إذا ما نهضت بناء على معطيات الميثاق اختل الكثير من الكيانات.
يقول الميثاق: إن جميع الناس يولدون أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق. وهذا أشبه بقول الخليفة الثاني: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً. فسواء التزمنا بالمسار العام (السنة والجماعة) من الطبقة المعتدلة ـ أعني أصحاب المذاهب الراشدة في حدودها، أما الدواعش ومن لف لفهم فليسوا من السنة والجماعة ـ أم سلكنا طريق أهل البيت (ع) نجد أن القضية واحدة، أساسها القرآن الكريم: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوْبَاً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوْا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾([3]). فالكرامة أصل قرآني وليست خاضعة للغنى والفقر والطول والقصر والقرب والبعد والعلم والجهل، إنما أساسها التقوى والقرب من الله تعالى، فهو العاصم للإنسان عن ارتكاب الظلم والجور بحق الآخرين.
ويضيف ميثاق حقوق الإنسان لقوله متساوين في الكرامة والحقوق: وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء.
فهو ينص على أن الأقلية والأكثرية أمر واقع، وأن القوة مع الأكثرية، والثراء بيدها، والفقر ينتاب الأقلية، لكن الملاك هو الأخوة والمحبة، أما إذا تخلينا عن هذا الجانب، وأصبح الملاك البغض والشنآن والحقد ثم القتل فلا يمكن للحياة أن تستقيم. فها نحن نرى الدواعش وأمثالهم يقتلون أقرب المقربين منهم، ويمثلون بالقتيل بعد موته، ولا يرضون أن يسود الحب والسلام.
ثم يضيف الميثاق قائلاً: لكل إنسان ـ أي من أبناء الأقلية ـ حق التمتع بكل الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون تمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس.
فلكل فرد أن يأخذ حقه، وأن يتحرك وفق المباني والأسس المعتمدة، دون النظر إلى الاعتبارات المذكورة، أما من يذهب إلى أمور بعيدة فلا يمكن لهم تحصيل الحقوق.
وفي المادة الثامنة عشرة من الميثاق وردت عبارة مهمة جداً، ولكن لا أدري إن كان في آذان البعض صمم، أو في عيونهم عمى فلم يقرأوها ولم يقفوا عندها. أو بسبب عدم وجود الرغبة من الأساس، فضلاً عن أن تكون جادة في التعاطي مع هذا الميثاق. تقول العبارة: حرية الشخص في التفكير والضمير. وهو ما أكدتُ عليه مراراً من عدم تسليم عقولنا لغيرنا وإن كان رجل دين، وعدم مصانعة جهات هنا أو هناك، وأن نصانع وجهاً واحداً يكفينا سائر الوجوه. فالهدف هو رضا الله تعالى، ولا بد أن نتحرك في هذه الدائرة دون أن يكون لأحد سلطة علينا أن نفكر في هذا وننتهي إلى نتيجة، أو نفكر في ذاك وننتهي إلى نتيجة.
يقول الميثاق: حرية الشخص في التفكير والضمير والدين، والحق في التعبير. فمن حق الإنسان أن يعبر عما في نفسه رضينا أم غضبنا. فمن حق الموالي الذي يحب علياً أن يعبر عما في نفسه ويتحدث عن علي (ع)، شرط أن لا يتجاوز على الآخرين، وأن لا يمس بمقامهم، فكما أن علياً (ع) كبير عندنا كذلك الآخرون كبار عند أتباعهم. لماذا لا نحترم الرموز؟ ولماذا نضع المزيد من الوقود على النار، وبمسمى العمائم واللحى عند الطرفين، حتى بات يتجاوز كل منهما على الطرف الآخر؟
من هنا فإن كل من يتجاوز على الرموز، من هذا الطرف أو ذاك، هم دسائس الاستعمار، ولا علاقة لهم بمذاهبهم، ومذاهبهم منهم براء، لأنه خلاف منطق القرآن، وخلاف منطق محمد وآل محمد (ص).
ويضيف الميثاق: والحق في التعبير والإعراب عن عقائده وديانته. فهناك من يحب الحسين (ع) ومن حقه أن يعبر عن مشاعره بالطريقة التي يحسنها ويتقنها ويحب أن يمارسها. ولكن مع الأسف الشديد، أن هذا الحق يصادر حتى في أوساطنا، فهناك من يجعل لنفسه الوصاية على ما يمارَس وما لا يمارَس من الشعائر، فمن أعطاهم تلك الوصاية على الناس؟
إن المحاسب هو رب العباد وحده، ومن أخطأ أو أصاب فحسابه على الله، ومن الظلم أن يوصف بعض الموالين بأنهم لا فرق بينهم وبين اليهود! لأنهم شجوا رؤوسهم مثلاً في اليوم العاشر من محرم. فهل هذا من العدل؟ وبأي حق يطلق هذا الوصف عليهم؟ وأي مرجع يقول هذا؟
إن الأمور لا بد أن تصلح بما هو أحسن، بالحكمة والموعظة الحسنة.
ويقول الميثاق: والحق في التعبير والإعراب عن عقائده وديانته وإقامة الشعائر ومراعاتها.
أيها الأحبة: شعائر أهل البيت (ع) أمانة في أعناقكم فلا تفرطوا فيها، ولا تسمعوا لمن يلغو هنا أو هناك.
أسأله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.