نص خطبة:رجل الدين والتحولات الكبرى آراء ومواقف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وآله الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصةً لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ}([2]).
وفي الحديث الشريف عن النبي الأعظم (ص): «ما عبد الله عز وجل بشيء أفضل من فقه في دين»([3]).
موقع الفقيه في وسط الأمة:
للفقيه في وسط الأمة مركزيته، وهو الأساس الذي تتفرع عنه بقية الأمور.
والفقه هو الفَهْم، تقول: فقهت الشيء، أي فهمته ووقفت على أبعاده وخصائصه. أما في الاصطلاح فهو فهم العلوم الشرعية واستنباطها، والفقيه هو من انخرط في مجال تحصيل العلوم الدينية حتى أمسك بآلية الاستنباط من خلال إعمال القواعد والضوابط في النص الشرعي، والوقوف عند وظيفة وتكليف المكلف وبيانها بشكل صريح.
والفقيه لا يمكن أن يحصر في زاوية من زوايا العلوم الشرعية، إنما له مساحات كبرى وواسعة، وتعدد الزوايا يستحدث الكثير من المربعات الجديدة في وسط المحيط، سواء كان محيطاً اجتماعياً ضيقاً، أم أممياً واسعاً، كما تحقق للكثيرين من أقطاب الأمة وأركانها من علماء وفقهاء منذ زمن المعصومين (ع) حتى يومنا هذا، وإذا مدّ الله تعالى في أعمارنا وآجالنا فسوف نواجه الكثير من الفقهاء الذين لهم خاصية استحداث المربعات في وسط الأمة، بما يستوجب تكثر تلك الزوايا، ويلزم حينئذٍ ملء الفراغ والتنقل في تلك الزوايا واحدة تلو الأخرى، وهذه وظيفة الفقيه.
فالفقيه لا يحصر في باب من أبواب الفقه، كالطهارة، بجميع صورها من الوضوء والغسل والتطهير وما إلى ذلك. وكذلك لا يحصر في باب الخمس أو الحج أو المساقاة أو الميراث أو غيرها، إنما له المساحة الواسعة، وبقدر ما يبذل من جهد بقدر ما يستطيع أن يحقق مساحة بين تلك المساحات المتكثرة.
والسؤال المشروع الذي يهمنا: ما هي أهم الأدوار التي ينبغي أن يقوم بها الفقيه في وسط الأمة؟ سواء وصل للحد الأعلى من الاجتهاد، وأصبح فقيهاً قادراً على استنباط الأحكام، أم كان يتحرك ضمن هذا الفلك، وهو مظلّة الفقيه الذي يؤمّن التشريعات، ثم ينقلها للأمة.
فهنالك مجتهد يبلغ به الشأن أن يكون مطلق الاجتهاد، فيتسنّم مقام المرجعية، وهنالك من هو دونه، أي أنه مجتهد بقدرٍ ما، يتفاوت من فقيه لآخر. بل حتى الطالب في البحث الخارج يعتبر في درجة ما من درجات الاجتهاد. وقد يقضي بعضهم من عمره الكثير في البحث الخارج، فلا يحظى برتبة اجتهاد، وبالعكس، قد يتسنى له الحضور لفترات يسيرة، ولكن لشدة ذكائه وفرط حافظته واهتمام أساتذته، وتوجهه لنفسه وللمسؤولية التي تنتظره، قد يقطع المسافات ويصل إلى حيث أراد. وفي مسيرة علمائنا نماذج لهم قيمتهم ووضعهم، حال أنهم استطاعوا أن يحققوا هذا الاجتهاد وهم في حداثة السن، والأسماء كثيرة.
وظائف وأدوار رجل الدين:
كما ذكرنا سابقاً أن لرجل الدين أدواراً ووظائف عديدة، نذكر بعضاً منها:
1 ـ تعريف الأمة بمبادئ الدين الحنيف، المؤصلة في الكتاب والسنة: فهنالك مجموعة من الأحكام منتزعة من أصول، نقّحها الفقهاء والمتكلمون، وسهّل التعاطي معها من قبل آحاد الأمة. فمسؤولية رجل الدين وإن لم يكن مجتهداً، أن يبين مؤدّاها ويكشف النقاب عن مستورها لأبناء المجتمع الذي يتحرك فيه، سواء كان مسجداً أم حسينية أم حياً أم محلة أم منتدى أم مدينة أم غير ذلك، خصوصاً في هذا الزمان المضطرب في عقائده وسلوكه واقتصاده ونمطيته وتعاملاته وحواره.
فعلى رجل الدين الذي هو إمام في مدينته أو محلته أن يلتفت إلى هذا الأمر، وللخطورة الكبيرة التي تترتب على عدم نهوضه بهذه المسؤولية، فسوف نجد جيلاً من شبابنا يغادر مساحة التدين والالتزام، لا لشيء إلا لأن رجل الدين قام بترتيب عباءته وأودعها الخزانة، فلا يشارك الناس في أفراحهم ولا أتراحهم ولا قضاياهم. وإذا كانت الأمور بهذه المثابة فسوف تخرج الناس من التدين كما دخلوا فيه خلال العقود الأربعة الماضية، وقد نواجه حالة من الانتكاسة والرجوع عن مواطن التدين والالتزام، يكون أحد أبرز أسبابها هو طبقة رجال الدين، فإذا صلح العالِم صلح العالم، وإذا فسد فسد العالم، كما هو مضمون بعض الروايات، فإذا أصبح رجل الدين محترماً ملتزماً كان له الأثر الكبير في المجتمع، وبعكسه يكون أثره سيئاً.
2 ـ بيان حركة المذاهب من حوله:
فالإسلام اليوم عبارة عن مجموعة من الكانتونات المذهبية، فللسنة مذاهب، وللشيعة مذاهب، فعلينا نحن الشيعة الإمامية أن نبين لأتباع هذا المذهب الأسس والأصول التي تمّ بناء هذا المذهب على أساس منها، مع احترام الطرف الآخر، وعدم التجاوز عليه، ومراعاة ما للآخر من ثوابت وأحكام والتزامات وتقديرات، فنحن نطلب أن تكون هذه الأمور لنا، فلم لا نمنح الفرصة للآخر أن يتحرك، فالنيل من رموز الآخرين هو واحدة من أشد العقبات التي تعترض انتشار مذهب أهل البيت (ع) بالتي هي أحسن، فأنت لا ترضى أن يتجاوز أحدٌ على رمز من رموزك في الطبقة الأولى وهم أهل البيت (ع)، وفي الطبقة الثانية وهم المراجع، وهو الذي ينبغي أن يكون، فعليك بالمقابل أن لا تسمح بالتجاوز على رموز الآخرين، فالإنسان يقدّس رموزه لأنه قريب منهم، أي أنه نشأ في بيئة تقدسهم، ولو نشأ في غيرها لكان مثل غيره، فالمجالس والبيئة وطبيعة الخطاب هي التي تغرس هذا البعد في داخل الإنسان، فلو أنصف أحدُنا نفسه لأنصف الآخر أيضاً، الذي نشأ وترعرع في بيئة أخرى غير البيئة التي نشأنا فيها. فبقدر ما تريد أن تُحترم عليك أن تحترم غيرك أيضاً.
إلا أن هذا لا يعني أن لا نقرأ ما عند الآخر ونناقشه ونقبل ونرفض، ولا بد أن يكون الدليل هو القائد والمحور.
فعلى رجل الدين أن يكشف النقاب عن هذه الزاوية، وأن يوضح لأبناء الأمة هذه الحيثيات، لا سيما أننا نخاطب اليوم جيلاً من أبناء الأمة من الواعين الدارسين المتعلمين المنفتحين، بل حتى لو فرضنا أنهم ليسوا بهذا المستوى، إلا أن المسؤولية تحتّم علينا حفظ كيان الأمة وإبعادها عن مساحات التوتر والصراعات. وعلى الإنسان أن يكون منصفاً مع نفسه، فالجيل اليوم يختلف تماماً عن جيل الأمس، على أن الجيل الماضي كان في الكثير من الجوانب أكثر تديناً والتزاماً، لكنه ابن مرحلة زمنية معينة، وقد خلقوا لزمان غير زمان من سبقهم، وكذلك جيل اليوم الذي خلق لزمان غير زماننا.
وهنالك عاصفة هبت من أكثر من جهة على المكون الديني، وهي عبارة عن الحركة الفكرية في وسط الأمة الإسلامية، أعم من الشيعة أو السنة، فالله تعالى يخاطب في كتابه المجيد الأمة بأجمعها، فلا يخصص شيعة أو سنة. بل الخطاب الديني الإلهي حتى مع سائر الأنبياء هو خطاب الأمة الواحدة، بل الأمة الإسلامية الواحدة. هذه العاصفة التي تعمل على زعزعة العقيدة في نفوس أبناء الأمة، على رجل الدين أن يقف في وجهها، وأن يقوم بمسؤوليته تجاهها، وأن يقول قولة الحق، وأن لا يتنازل عن موقفه، ولا تأخذه في الله لومة لائم، وأن يثبت الأصول والقواعد والمبادئ والقيم في نفوس الجيل.
فمن يتابع الواقع الفكري لا يخفى عليه ما يحصل للكثيرين من مغادرة المساحة الدينية نحو الإلحاد، أو مغادرة المساحة المذهبية، وهذه مسؤولية رجل الدين بالدرجة الأولى أن يبذل كل ما في وسعه من أجل حفظ هذه المساحة. على أننا لا نغفل دور الأب والأم في المنزل، ودور المعلم في المدرسة والخطيب الواعي المدرك لما يدور من قضايا من حولنا، فمهمة الخطيب خطيرة وكبيرة، بل ربما تكون أكبر من مهمة رجل الدين في بعض المواطن، لأنه يتنقل في أكثر من مكان ومكان، ولا توجد رابطة معينة تُلزمه البقاء في موقع وموضع معين، بخلاف رجل الدين الذي يمارس دوره من خلال إمامة الجماعة في مكان محدد، أو أمثاله من الوكلاء وغيرهم.
3ـ فهم الواقع والمحيط:
هذا ما يتعلق بواقعنا الديني، وهذا واضح وثابت. ولكن هنالك مجموعة من الأنظمة الأخرى تُستحدث بين الفينة والفينة، خصوصاً أننا نعيش وضعاً مدنياً متقدماً، فقد كنا في مربع، لكننا انتقلنا إلى مربع آخر، والمجتمع اليوم في حالة من التسارع نحو كثير من المستحدثات، فما الذي أعددناه نحن لما يجري؟
على سبيل المثال، أننا نسمع بالرؤية التي تسعى لبناء دولة كبيرة تعيش الواقع من حولها، فما الذي قرأناه من مبادئها وقوانينها؟ هل قرأنا هذه الرؤية من خلال بنودها وأسسها ومرتكزاتها؟ أليست هذه تعنينا؟
هذه أيضاً من مسؤولية رجل الدين، فبقدر ما يعنى رجل الدين بمسؤولية فهم وتبيان الأحكام الشرعية، لا بد أن يعنى كذلك بنظم حياة الناس، وأن يكون شريكاً لهم فيها.
هذه المسألة لا ننتبه لها، وكثيراً ما نقع بسببها في أخطاء، فالكثير منا يذهب إلى المعرض لشراء ثلاجة أو مكيّف مثلاً، ولكن كم من هؤلاء قرأ ما في الكتيّب المرفق معهما دليلاً على كيفية الاستعمال، أو مواصفات الجهاز، أو مدة الضمان وشروطه، والشركة المصنعة وخصائص الجهاز؟
هكذا نحن في أمورنا الأخرى، فلو حصلت لك قضية من القضايا، وأردت أن توجد لها حلاً وأنت صفر اليدين لا تدري بما يجري من حولك من قوانين وأحكام وضوابط وشروط، فكيف يمكنك التعامل معها؟ من المؤكد أن يفلت الزمام من يدك.
فمن أمثلة ذلك موضوع الزواج والطلاق، فأنت تُجري العقد دون أن تعرف ما للزوجة وما عليها، ولا هي تدري كذلك ما لك وما عليك، وما هي إلا أيام حتى تحتدم المشاكل لتطبق الخافقين في جميع زوايا البيت، وتحصل الخسائر الكبرى، ليس في الجانب المادي فحسب، إنما في الجوانب الأخرى المعنوية، حيث تنقطع العلاقات وتستجدّ العداوات التي يورثها الآباء للأبناء، كل ذلك سببه الجهل ما ينبغي أن يعرفه الزوج والزوجة منذ البداية، وغياب رجل الدين عن هذه الأمور.
فالطلاق من مشاكلنا الشائعة هذه الأيام، حيث بلغت النسبة إلى 54٪ أي أنه أكثر من النصف، وسببه الجهل وعدم الوعي. هذا مع التشديد في شروط الطلاق عندنا، من لزوم الشاهدين، وأن تكون في طهر لم يواقعها فيه، وأن تكون الصيغة صحيحة في اللفظ، وإلا لو كانت كما عند غيرنا لكانت النسبة مروعة.
ومن الجهل السائد في موضوع الطلاق أيضاً، أن الزوج يتعنت في الطلاق، فلا يطلق إلا مقابل مبلغ باهض من المال، مع أن القرآن الكريم يقول: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوْفٍ أَو تَسْرِيْحٌ بِإحْسَانٍ}([4]).
إذن لا بد أن يكون كلٌّ منا عارفاً بالأحكام الشرعية، وقوانين المحاكم قبل أن يُقدم على أي خطوة في الطلاق أو الزواج أو غير ذلك من المعاملات والإيقاعات والعقود.
4 ـ الاحتياط في الدين والدنيا:
فلا يسع رجل الدين أن يقول: لا تعنيني أمور الناس في معاشهم، إنما يعنيني تبليغ أحكام الدين فقط، فما لم يشعر رجل الدين أنه موظف في جامعة الخلف الباقي من آل محمد (عج) فلا يستطيع أن يقوم بدوره كما ينبغي، والأمة لا تتفهم وضعه إذا انقطع عن هذا الجانب، فالدنيا مزرعة الآخرة، والله تعالى يقول: {وَلَا تَنْسَ نَصِيَبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}([5]). فالناس لا بد أن يأخذوا نصيبهم من الدنيا، وأن يعيشوا بكرامة، ويبنوا مستقبلهم، ويرتقوا في دراساتهم ومواقعهم ومسؤولياتهم. فعلى رجل الدين أن لا يزرع في نفوسهم اليأس والإحباط.
وأحياناً يكبّل رجل الدين الناس بأحكام ما أنزل الله بها من سلطان، بحجة الاحتياط في الدين، ولا شك أن الاحتياط في الدين ضمانة من الوقوع في المهالك، لكن في الوقت نفسه يضع الدين عن كاهل الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، ولا يكلفهم ما لا يطيقون من المشقة والعنت، وذلك لا يكون بتغليظ الأحكام، إنما يكون بتحريكها كما هي في وسط الأمة.
فالأمس ذهب بما فيه، واليوم نحن في وضع آخر، فإن كان الشباب في الأجيال السابقة بمواصفات معينة، فلا يعني أن يكون شباب اليوم مثلهم، فلكل زمان أهله ورجاله، وعلى رجل الدين أن يراعي هذه الحيثية، وأن يغرس في نفوس الشباب روح المناقشة والمحاورة، ليكون المجتمع راشداً ناضجاً، لا متهالكاً متراجعاً خاملاً.
فالفتوى أمر مهم وخطير، فإذا ما أطلقها فلا بد أن يؤديها باحتياط، ولكن ليس معنى الاحتياط وضع العراقيل أمام المكلف، إذ ما ضاق على فقيه مسلك، فرجل الدين الفقيه لا يعجزه إيجاد المنافذ والمخارج، ويحدد شرعية الفعل الذي يقوم به المكلف.
5 ـ النأي بالنفس عن الصراعات الجانبية:
فهنالك الكثير من الصراعات والخلافات التي ليس فيها سوى الضرر، وتفريق الصفوف، وبث الكراهية في النفوس، فهي صراعات جدلية عقيمة لا طائل من ورائها، نستهلك فيها الأيام والليالي دون أن نصل إلى نتيجة تقدمنا إلى الأمام، لا نتيجة مادية ولا معنوية، وليس فيها سوى استهلاك الوقت بالكلام والتراشق بالألفاظ، والقيل والقال، وتعميق الخلافات. ونحن نجد أن معظم القضايا التي نختلف فيها هي من هذا النوع من الجدل غير المحفوف بالوعي.
فالنأي بالنفس في موارد الصراعات المفتعلة هو أفضل الحلول، لأنك إن دخلت فيها فسوف تتخندق مع أحد الطرفين، وكثيراً ما يكون ذلك على أساس العاطفة وليس الوعي والدين والإيمان والالتزام، فهذا الطرف من جماعتنا، وذاك من الحي الذي نعيش فيه، والثالث من التكتل الذي نتحرك فيه، أو من جماعة المرجع الفلاني، مع أن المراجع جميعاً يرجعون في نهاية المطاف إلى جعفر بن محمد الصادق (ع).
فعلينا إذن أن نغادر مساحة الصراعات القائمة على الجدل العقيم الذي لا طائل من ورائه. نعم، هنالك قاعدة الجدل بالتي هي أحسن، وهذه لا بد أن تكون في مواطنها ومواردها المناسبة، كما في الحوار مع الطرف الآخر، مع الاحترام للجميع، إلا أننا نراها غائبة، بل معدومة تماماً. فلو استعرضنا الحوارات التي كانت قبل عشرين عاماً أو أكثر، إلى اليوم، نجد أن معظمها كان مع الطرف الآخر، بل كلها حول القضايا المذهبية، أما اليوم فنلاحظ أن معظمها أصبحت تدور فيما بيننا، فهذا يُسقط هذا، وذاك يكسر ذاك، وأصبحت المعارك تدور فيما بيننا.
6 ـ سدّ منافذ الشيطان:
وهذه سهلة وفي متناول أيدينا. أتذكر في يوم من الأيام، أن أحد المؤمنين كان يصلي خلف أحد المؤمنين أيضاً، وكان يهتم به ويخدمه كثيراً، فجاءه إبليس يوماً فقال له: إن هذا الإمام قراءته ليست صحيحة، فترك في نفسه شيئاً يسيراً، لكنه أشبه بما يخلّفه الذباب على الطعام، فهو لا يُرى بالعين المجردة، لكنه خطير جداً. فجاء إلى الإمام فقال له: إن قراءتك ليس صحيحة. ثم امتنع عن الصلاة يوماً أو يومين، ثم عاد ليسجّل قراءته في جهاز التسجيل، ثم ذهب لعالم آخر، أفضل وأكبر من صاحبه علماً، فقال له: إنني أصلي خلف فلان، ولديّ شك في قراءته، وقد قمت بتسجيل القراءة لأعرضها عليك. فرد عليه ذلك العالم قائلاً: اترك التسجيل في جيبك، ولديّ سؤال لك. قال: تفضل. قال: أتدري من الذي أمرك بالتسجيل وقام بتشغيل الجهاز في المسجد لتتجسس على إمام جماعتك؟ إنه إبليس! ثم أمره بالخروج من عنده.
هذه إحدى منافذ الشيطان التي يدخل منها، ولو كانت جميع معاملاتنا بهذه الكيفية التي صدرت من ذلك العالم المربي لكانت أمورنا على خير ما يرام، إلا أنها للأسف تجري وفق ما يريده الشيطان، وما يصنعه لنا من منافذ، وهي عديدة ومتنوعة، فقد تكون منافذه دينية أو مادية من مغريات ومحذورات ومخاوف وغير ذلك.
وملاذنا الأول والأخير في سدّ منافذ الشيطان بعد التعرف عليها، أن ننتبه إلى أمر مهم ألا وهو القرآن العظيم، فهو صمام الأمان، ورجل الدين عليه أن يلجأ إلى القرآن الكريم، فعليه أن لا يغتر بعلمه ليدخل إبليس من نافذة العلم: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيْمٌ}([6]). ولا يغتر بأخلاقه، فالنبي (ص) هو غاية الخلق، لكنه كان متواضعاً ليناً: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ}([7]).
فالملاذ الآمن هو القرآن الكريم والسنة المطهرة عن محمد وآل محمد (ع) والعودة إليهما نجاة في الدارين.
خطورة الجدل:
وأختم كلامي بحديث عن النبي الأعظم (ص) يقول فيه: «ما ظلّ قوم بعد هُدىً كانوا عليه، إلا أن أوتوا الجدل»([8]). فأنتم تتذكرون في السابق كيف كان السباق على قراءة دعاء كميل، أما اليوم فلا تكاد تجد من يقرأه. وهكذا في مجالسنا وفواتحنا وغير ذلك، حتى أصبح أحدنا لا يطيق الآخر، فسلكنا طريق الجدل: {وَكَانَ الِإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلَاً}([9]).
فالرافد المهم هو الإخلاص لله سبحانه وتعالى، والأمور تدور مدار النيّات، والأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، كما في الحديث الشريف. لا أن نتدخل في نوايا الناس وسرائرهم. فعندما نرى أحداً يصلي ركعتين في المسجد، لا يجوز لنا اتهامه بالرياء، بدعوى أنه لا يصلي صلاة الصبح، فكيف يصلي النافلة؟ فالله تعالى وحده العالم بالنوايا والسرائر والخفايا. ثم من قال إنه يصلي نافلة؟ ومن قال إنه لم يصل الصبح؟
وهكذا في الصدقات، إذ يدعي بعضهم أن فلاناً لا ينفق لوجه الله! وكأنه مطلع على السرائر، وهو الذي يعقد النوايا للناس. وهكذا في الكثير من القضايا الاجتماعية التي نراها ونعيشها باستمرار.
إننا اليوم نعيش حياةً تختلف عما كنا عليه في السنوات الغابرة، وأبناؤنا اليوم غير أبنائنا بالأمس، وهم رجال المستقبل، فإن استطعنا تصحيح الأمور اليوم، فسوف تكون على خير ما يرام في المستقبل.
نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.