نص خطبة :رجال الدين بين النعمة والامتحان
في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (ع) أنه قال في جمعٍ من أصحابه: «إن أهل قريةٍ ممن كان قبلكم، كان الله قد أوسع عليهم حتى طغوا، فقال بعضهم لبعض: لو عمدنا إلى شيءٍ من هذا النِّقْي([2]) فجعلناه نستنجي به كان ألين علينا من الحجارة. قال: فلما فعلوا ذلك بعث الله على أرضهم دوابَّ أصغر من الجراد، فلم تدع لهم شيئاً (خلقه الله) إلا أكلته (من شجرٍ أو غيره)، فبلغ بهم الجهد إلى أن أقبلوا على الذي كانوا يستنجون به فأكلوه، وهي القرية التي قال الله: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قريةً كانَتْ آمنةً مطمئنةً يَأتِيْهَا رِزْقُهَا رَغَدَاً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ رَبِّهَا فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُوْن﴾([3])»([4]).
نحن اليوم في زمنٍ لم تتوفر فيه المادة بين يدي بني البشر على طول تاريخه كما توفرت فيه اليوم، فالأرض تقذف بفلذات كبدها، وما من خير مكتنز إلى تم استنباطه، وما من نعمة إلا وتسنى للقصي أن يجتذبها إلى موطن الاستقطاب، أما الزمن الذي كانوا يأكلون فيه القد، ويشربون الطرق، فقد ولى في ظاهره. فالنعم اليوم أكثر من أن تعد أو تحصى، والوصول إليها صار بأيسر الطرق، سواء كانت تلك الطرق مؤمَّنة بالبعدين المادي والشرعي، أو كانت متخلفة عنهما، فالنتيجة هي أن أحداً لا يستعصي عليه شيء إذا ما أراد الوصول إلى النعمة. وفي هذا حجة علينا، ولنا فيما مضى من الأمم عظة وعبرة، والقرآن الكريم خير من يقدم لنا مثلاً، لأنه الكتاب الكريم الذي ﴿لا يَأْتِيْهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾([5]). والحكيم هو من يأخذ دروساً، ويُصيِّر منها حكمةً تتماشى معه ويتماشى معها في عباب هذه الحياة. والعكس من ذلك من تمرُّ به الدروس والعبر، فلا يستجلي منها درساً، ليصيِّر منه منهاجاً.
فكم من الناس من يبيت ليلة من الليالي وهو يضرب الأرقام ببعضها، ويرتب الأصفار وراء الآحاد، فما أصبح على شيء من ذلك، والشواهد في ذلك كثيرة، فمنهم من اختط لنفسه طريقاً سريعاً إلى عالم الآخرة من خلال حفرة احتفرها، جراء عدم التسليم بالقضاء والقدر، ولا أقل من عدم الجنوح للوم النفس فيما ارتكبت وقدمت من خلل في تقديم المقدمات التي يمكن أن تؤمن للإنسان حافظاً لما كان تحت يده.
وهناك جماعة أخرى افتتحوا لهم سجلات خاصة في المصحَّات، على أساس منها يتقاضون الأقراص بين الفينة والأخرى ليهدِّئوا من روعهم، وهم يتحركون بين الناس في منتدياتهم الخاصة والعامة، ولا يبدو عليهم من الأمر شيء، ولكنك إذا ما دققت في صفحات الوجوه، وتأملت في نظرات العيون، وتتبعت حركة الأيدي والأرجل عند الجلوس والقيام، لأدركت الكثير مما لا يصدر عادة في الوضع الطبيعي ممن يحظى بحال طبيعي.
وهناك جماعة أخرى عضّت على جراحها، ووطئتها، وألقت قيادها للتسليم إلى ما هو أقوى من مدركات البشر وتخطيطاتهم، وتماشت مع الواقع بما هو واقع، واستطاعت أن تتخطى المحنة في أحد ظروفها ومحطاتها.
لقد كان العذاب يصب على الأمم السابقة صباً، وكانت القبائل والأقوام والقرى تُصفّى بالكامل، فمنها من جُعل عاليها سافلها، ومنها من أُمطر بالحجارة من السماء، ومنها من سخر عليها عذاب من نوع ما، كالريح العاصفة وغيرها.
والسؤال هنا: ماذا ننتظر نحن والنعم بين أيدينا فلا نشكرها قولاً، ناهيك عن شكرها عملاً إلا في بعض الحدود الضيقة التي لا تتماشى مع لطف المنعم وشرف النعمة التي بين أيدينا؟
فلو رجعنا إلى الوراء، وتصفحنا ما كان عليه الآباء من شظف عيش قاسٍ، اضطر البعض منهم أن يغادر البلاد إلى بلاد أخرى سعياً وراء الرزق، فيما عاش البعض الآخر فرضيةً أشد سوءاً، حتى آلت به الأمور أن يبيع بعض ولده!
هذا هو حال سلفنا، ولا سيما الأجداد منهم، ودونكم السجلات المدنية في الأوقاف والمحاكم، لتضعوا أيديكم على أرقام وقوائم طويلة عريضة بممتلكات لآل فلان وآل فلان، لم يبق منها ولا منهم عينٌ ولا أثر، لأنهم غادروها ساعة العسرة.
إننا في حالة من النعمة كبيرة جداً، ومظاهرها متعددة. فهناك نعمة الصحة، حيث كانت تفتك بالأجيال الأوبئة المتنوعة، وما من أب وأم إلا وأعطى المقبرة نصيبها يوماً ما، أما اليوم فلا يذهب إلى المقبرة من حديثي السن إلا النزر اليسير، الذي لا يستدعي انتباهاً.
وأما نعمة المأكل والمشرب فحدث ولا حرج، ودونك ما يجري من حولنا في أطراف الدنيا وما نحن فيه.
ثم نعمة الأمان، وهي نعمة كبرى، حيث ينام الإنسان والباب مفتوح حتى الصباح، خصوصاً في هذه الأيام المعمورة بالطاعة في الشوارع والساحات. فالأمان سيد الموقف، ودونك البلاد من حولك، حيث لا تجد بلداً يحظى بهذه الخاصية، وهي أن تأمن على نفسك في بيتك مطلقاً، وعلى ما في البيت من ممتلكات كذلك، بل على الممتلكات في الخارج مطلقاً، ودعك من بعض الخروقات الجزئية، فنحن لا ندعي وجود مجتمع مثالي. وما كان ذلك ليكون، لولا عوامل عديدة تظافرت فيما بينها، وأهمها:
1 ـ قوة النظام، وما له من الإسقاط المباشر على المشهد، فيما يعبر عنه بالعيون الساهرة.
وأنا هنا لا أزكي نظاماً، ولا أسوِّق لنظام، لكن علينا أن نضع النقاط على الحروف، وأن نتعامل مع الواقع كما هو.
أيها الأحبة: يفترض بكل واحد منا أن يكون عيناً ساهرةً على الأموال والأعراض والأنفس والوطن، فهذه مسؤوليتنا جميعاً، وعندما تغمض عين عن جانحة ما في الخارج، فهذا يعني تداعي الجوانح الواحدة تلو الأخرى، وعندئذٍ نفقد كل شيء.
2 ـ الارتباط بالله، والتمسك بسيرة محمد وآل محمد (ص)، فهو من الروافد المهمة في خلق جوٍّ من الأمان والمحبة، فكم من الدروس والعبر قدمتها لنا المساجد من خلال منصَّاتها الواعية والمدركة لمجريات الأحداث، وكذلك المنابر الحسينية بما تقدمه لنا من زاد روحي صافٍ نقي، صُنع بيد محمد وآل محمد (ص) أيضاً. فعندما تطغى المادة يزداد الفساد في الأرض بكل أشكاله، وعندما نسأل عما يحصل من فساد، يأتينا الجواب من رب العزة في قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الفَسَادُ في البَرِّ والبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاس﴾([6]) ثم يتبعه التعليق من الناس: بل إنه ظهر حتى في (الجو)، فمن استقل طائرةً لمسافات بعيدة وجد أن المنكر يرتكب في الجو أيضاً، وأن الأجواء الإباحية باتت تقدم كواحدة من الخدمات للطبقات العليا، في حين أن هذه المساحة هي الأقرب إلى عالم السماء، فإذا كانت الصلاة هي معراج المؤمن وهو على وجه الأرض يخاطب البيت المعمور في أعلى عليين، فيفترض أن المرء إذا ما اقترب مسافة من ذلك العالم الخاص، وهو التجرد عما هو موجود من عوالق المادة، أن يكون أكثر انصهاراً في عالم المعنى، وذوباناً في عالم الملكوت. لكن ما يحصل خلاف ذلك تماماً.
والسؤال هنا: ما هو المخرج من ذلك؟
والجواب يكمن أولاً في معرفة السبب، فلا علاج ما لم نشخص الأسباب، وكثيرة هي المجالس والمنتديات التي تتعاطى طرح الأسباب والعلل والمشاكل، دون أن تضع يدها على مكامن السر في العلاج.
فالحركة الأولى التي ينبغي أن نطويها هي تشخيص العلة والسبب، بعيداً عن دائرة المزايدة والتقصير، بأن نضع الأشياء في مواضعها.
ومن هنا نجد أن علماء الأخلاق والسير والسلوك، وضعوا حجر الأساس لمدرسة على ضوء نتائجها أرادوا الإجابة على هذا السؤال الهام جداً: ما هي الأسباب الكامنة وراء سلوك الإنسان طرق الانحراف والفساد ؟ فالفساد والانحراف موجودان، بل إن ما يستوجب منهما سلب النعمة والرحمة موجود أيضاً، إلا أن الرحمة واللطف الإلهيان تأبيان إلا أن تشملا الجميع، فقد ورد في الحديث عن أهل البيت (ع): «فلولا بهائمُ رُتَّع، وصبيةٌ رُضَّع، وشيوخ رُكَّع، لصُبَّ عليكم العذابُ صباً، تُرَضُّون به رَضَّاً»([7])، فلولا هؤلاء الشيبة الذين يحنون ظهورهم أواخر الليل تبتلاً إلى الله تعالى لكان الوضع غير محمود. ولولا أولئلك الأطفال الذين يمثلون صفحات بيضاء لم تكدرها عوالق المادة، وهم يتبتلون إلى الله تعالى أيضاً بطريقتهم الخاصة، لصب العذاب علينا صباً.
أيها الشباب الطيب: إن الدعاء من أحدكم والارتباط بالله أهم بكثير من هذا وذاك، لأنكم قبل التكليف في مرحلة لا حساب فيها ولا عقاب، وسجل التدوين لم يفتح بعد، ولم يحرك قلم الضبط الإلهي بحقكم، فالشيخ الكبير قد أثقل ميزانه ورصيده انحناءً وتبتلاً بما يكوّن له شفيعاً أن يطرق عوالم جديدة، فما تقضى من العمر، وما انطوى من الأيام نسأل الله تعالى أن يكون قد ختم بخاتمة الولاء لمحمد وآل محمد (ص) وهو الفلاح الأكبر.
إنكم أيها الشباب، وأنتم تستفتحون عالمكم الخاص، سواء بمواصلة الدراسات العليا، أو النزول إلى ميدان العمل والكفاح من أجل حياة أفضل، ومستقبل أكثر إشراقاً، فإن الدعاء والعبادة من أحدكم لها معناه الخاص، والتجلي يبدو واضحاً على الشاب الملتزم المرتبط بالله تعالى، كما أن الظلمة تعلو وجوه أولئك الذين ابتعدوا عن مساحة اللطف، ونأوا بأنفسهم عن مساحات القرب من مصادر اللطف المتمثل بالزاد المحمدي.
إن العلة في كل ما مضى الحديث عنه هو الشهوة والرغبة الجامحة. وهذا التعبير وإن كان يتبادر منه للوهلة الأولى (الشهوة الجنسية)، لكنه لا على سبيل الحصر، كما أن الجموح النفسي لا يرتبط بهذا الجانب فقط. وعندئذٍ نسأل: ما الذي يقف وراء ذلك ؟ وما هي الأبعاد التي تنحلُّ عنها ؟
والجواب: إن ما ينحلُّ عن الرغبة كثير، فربما جمحت الرغبة عند الحاكم فتحوَّل من عادل إلى ظالم، ومن محب إلى ديكتاتور، يعصف بأبناء مجتمعه الأقرب فالأقرب، ناهيك عن الأبعدين، وتلك الرغبة هي شهوة الملك.
وهناك شهوة العلم، فربما يكون النهم العلمي اللامُقيَّد آفةً تعصف بالفرد، وفي ذلك هدرٌ للطاقات، وإزهاق للأرواح، وتعدٍّ على الأعراض، وتصرف في الممتلكات، وهذا حاصل ومتحقق.
فمن منا لا يعرف شريح القاضي، الذي أمضى الفتوى بمشروعية قتل الحسين بن علي (ع)؟ ألم يتوقف في عدالة علي (ع) في قضية بسيطة في مسجد الكوفة ؟ ألم يكن هذا الرجل عالماً ؟
إن القرآن الكريم رفع من مقام العلماء قائلاً: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِيْنَ يَعْلَمُوْنَ والَّذِيْنَ لا يَعْلَمُوْنَ﴾([8])، لكنه العلم مع التقى والورع وتحمل المسؤولية والصبر والإخلاص والتضحية، فهؤلاء هم العلماء الذين لا يقاس بهم غيرهم، ولكن هنالك من نال من العلم نصيباً وافراً، لكنه لم يوازن، فانفرط العقد من بين يديه، فصار مثله ﴿كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارَاً﴾([9]) أو ﴿كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾([10]) على حدِّ تعبير القرآن الكريم.
إن العالم إن لم يقيد نفسه بهذه الضوابط، فهو واحد من القنابل (النووية) المهددة باستئصال نفسيات البشر، أما إذا رجع إلى المكمن، وتحرك على أساس من المرتكزات التي ثبتتها لنا الشريعة، فطوبى له، وهذه الشريحة من العلماء نحني لها رؤوسنا إجلالاً وتعظيماً، ونأمل من الله تعالى أن تكون هي السمة الغالبة.
وأما شهوة الجنس، فإن الجنس اليوم يباع بأبخس الأثمان، ويقصدك دون أن تقصده، ويصل إليك دون أن تطلبه، وأبناء السوء أكثر تقديماً للمعونة في هذا الطريق، لأنهم من أبناء إبليس، وبالتالي فإن إبليس لا يحتاج الكثير في دفع القافلة إلى الوراء، فما عليه إلا أن يعطي الإشارة، ولو عن بعد، ليحرك من ورائها ألف رأس ورأس.
أيها الأحبة: إن الشهوة أو الرغبة هي واحدة من المواهب والنعم الإلهية على الإنسان، وهي من الحالات الدافعة نحو التكامل الإنساني والرقي البشري، لكنها لا بد أن تكون ضمن الدائرة المخطَّطة لها. وعليه فلا بد من إخضاعها إلى الضوابط التي لا بد أن نستهديها من خلال الكتاب المنزل على النبي المرسل (ص) أو من خلال النصوص الواصلة إلينا عبر الطرق المعتبرة عن محمد وآل محمد (ص).
والحديث عن العوامل التي تجعلنا في حالة من التقهقر والتسليم لجموح الرغبة وهيجان الشهوة كثيرة، أهمها:
1 ـ ضعف الإيمان عند الفرد، ذكراً كان أو أنثى، فمن يعيش حالة من الإيمان المتماسك لا يبتعد عن دائرة من يؤمن به، لأن من يؤمن به يدعوه إلى الكمال لا إلى الانحدار في الحضيض، فهو حين يرتكب الخطيئة، ويجترح الذنب إنما يبتعد عن دائرة الإيمان شيئاً فشيئاً، وبقدر ما تشتد المعصية بقدر ما يحصل الابتعاد عن دائرة المحور.
2 ـ الغفلة والتجاهل، فبعضنا يصدر منه الأمر عن جهل، وبعضنا عن علم، لكنه يحاول أن يحدث حالةً على أساس منها يوجِد المبرر والذريعة، وهذا هو التغافل وليس الغفلة، وهي من المرديات.
3 ـ عدم الاهتمام بالقيمة المعنوية للفرد، وهي عبارة عن الكرامة الشخصية والاجتماعية، فمن منا لا يحظى بقيمة في نفسه ؟ إنَّ من لا يعتد بنفسه فهو والبهيمة سواء، اللهم إلا أن ينتهي به الحال إلى مرحلة التكبر على الآخرين، لأن الكبرياء رداء الله تعالى، ومن نازعه رداءه أدخله جهنم من أي باب شاء، لكن هذا لا يلغي ما هو لي ولك وللآخرين من قيمة، يعبر عنها بكرامة النفس. وبالتالي فإن من لا يعيش كرامة في نفسه ولنفسه لا فرق بينه وبين البهائم التي لا تعي ما يحصل لها وما يصدر منها، فيما لا يتناسب وقيمة النفس، بل إن الإنسان أسوأ حالاً منها، لأن الحيوان جُبل على ذلك، وتلك هي جبلَّته، فهو لا يعي ولا يدرك، والكرامة ليست من لوازمه، أما الإنسان فقد أعطاه الله تعالى هذه الخاصية فقال: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ ورَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيْرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيْلاً﴾([11])، فليس من حق أحد من الناس أن يتخلى أو يتنازل عن هذه الكرامة بأي وجه من الوجوه.
4 ـ معاشرة رفاق السوء ـ والعياذ بالله ـ وهي الأداة الأكثر عصفاً بمجتمعاتنا، وأكثر ما نخشى ذلك على الطبقة المؤمنة، لأننا في حالة من أكثر الحالات حرجاً، وهي المحافظة على الشريحة المؤمنة الملتزمة في سلوكها والمتقدمة في استقطاب ملكاتها.
وهذه الطبقة ينحل عنها أمور أيضاً، أبرزها المحيط الملوث ـ والعياذ بالله ـ وهو ما نجد له مصاديق عديدة في العمل والشارع والمدرسة، والأسوأ من ذلك في الأماكن التي تأخذ طابعاً من الانفراد والسرية وخفاء التصرفات قولاً وعملاً.
وليست الاستراحات بعيدة عن هذا الأمر، وهو اصطناع الجو الملوث، ويكفي لشخص واحد ملوث لاستراحة فيها خمسون شخصاً أن يفسدهم جميعاً، ولو بعد حين، ولا يقولنَّ أحدٌ: إن هناك أربعة أو خمسة من المتدينين بينهم، فما بالك بصحابةٍ سمعوا من الرسول (ص) مباشرةً، ولكن صدر منهم ما صدر بسبب رفقة السوء، ودونك تاريخ الطبري والكامل، ستجد فيه شواهد واضحة لصحابة كانوا على علاقات مع اليهود، وانظروا لما طبعوا به التاريخ من ألوان متداخلة ومتقاطعة أو متنافرة. فنحنُ لسنا أحسن حالاً من تلك الطبقة، لأن الإيمان الذي نتعاطاها هو عبارة عن التلقين والقراءة والتسليم، أما أولئك الصحابة فقد سمعوا مباشرة كلام القرآن، دون واسطة، إلا صوت النبي المعصوم (ص) يطرق أسماعهم، إلا أن النتيجة كانت على حد تعبير القرآن الكريم : ﴿أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم﴾([12])، وبالتالي فلا ضمانة بوجود عدد من المؤمنين المتدينين، فكم خسرنا من الشباب الذين نراهن عليهم برسم آفاق مستقبل طيب، حيث أخذتهم الطرق إلى مسافات بعيدة.
لقد سألت يوماً عن أحد الشباب فقيل لي: إن الدنيا دارت به دورة كاملة، فقد هجر البلد، وهاجر إلى أوربا، وترك زوجته وأطفاله، وتحول إلى مسيحي كاثوليكي!. كل ذلك من رفقة السوء.
ولا يقولن أحدٌ أيضاً: إن الأم والأب يشكلان ضمانة، فهما وإن كان لهما دور كبير، إلا أنهما لا يصنعان المعجزة، فهما يقومان بدورهما في حدود القدرة والإمكان، أما ما يحصل خارج البيت فهو المصيبة، والمحيط الملوث هو الكارثة، فكم من الأشخاص تغيرت مسيرة حياته بكلمة واحدة! وكم منهم من تغيرت مسيرته في الحياة بحركة واحدة، إما إلى الخير أو إلى الشر والسقوط والحضيض.
فإن كنا نريد أن نكون أصحاب ارتباط بالقراءة، فإنها تقدم لنا نماذج ودراسات وأرقاماً من أصحاب الاختصاص في جميع القطاعات، تدلل على وجود حالات من الانهيار السلوكي.
وما دامت الأمور في دائرة الفرد، فإن الإنسان ربما يمكنه أن يفترض حلاً، ولكن عندما تتحول تلك الأمور إلى ظاهرة في وسط الأمة تعصف بمفاصلها، فالكارثة تصبح كبيرة، والطامة عظمى، وعندئذٍ لا ربُّ الأسرة يستطيع أن يضع حلاً، ولا السلطة المتمثلة في الجناح العسكري منها، ولا أحد في المجتمع يمكنه ذلك.
5 ـ وسائل الإعلام الفاسد، وهي من أهم الروافد الفاسدة التي تصب في هذه الزاوية، وقد قال الشاعر:
لا تربط الجرباء حول صحيحة خوفاً على تلك الصحيحة تجرب
حتى إن الفتوى ـ للأسف ـ قد تتحول باتجاه سلبي بدعوى (تخفيفها) لتتماشى مع الواقع، في حين أن أحكام الله تعالى لا تتبدل بالأهواء والرغبات وضغط الواقع الخارجي، والقاعدة المعروفة تقول: «حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة»([13]) كما في الحديث الوارد عن الإمام الصادق (ع).
فمن يريد الإسلام فهذا هو الإسلام الذي ندعو للسير في طريقه، وهو طريق أهل البيت (ع).
إن العلم والمعرفة من النعم الكبرى التي منَّ الله تعالى بها علينا، فإن لم نشكرها ذهبت أدراج الرياح. وعلينا أن ندرك أيضاً أن طلبة العلم يتفاوتون فيما بينهم، شأنهم شأن الطلبة في الجامعات، فهناك من هو متميز، ومن هو أقل، حتى نصل تنازلياً إلى درجة (المقبول) ، وهكذا الحال في طلبة العلوم الدينية، فمنهم من يحمل المسؤولية أمام المجتمع، ولديه مشروع إلهي في هذه الحياة، ومنهم من هو دون ذلك بكثير.
ودعونا ننظر إلى إلى الأحساء قبل قرون، ونعيد الكرة في النظر إليها اليوم، استكمالاً لحديثنا حول حوزة النجف، فماذا أعطتنا النجف؟ وماذا أخذنا منها نحن؟
لقد أعطتنا النجف الكثير وأخذنا منها الأكثر، وبالرجوع إلى قرون ماضية نجد مصداق ذلك. ولكن عندما نبحث عن عناوين علمائنا كأسماء، أو نفتش عن مفاصل سيرتهم، أو نبحث عن موروثهم قد لا نعرف عنهم إلا النزر اليسير، فلنسأل أنفسنا: كم منا باشرت أسماعه هذه العناوين:
1 ـ مطلع البدرين: للعلامة الباحث الحاج جواد رمضان.
2 ـ أعلام هجر: لسماحة السيد الفاضل الشخص.
3 ـ مراقد المعارف: للشيخ محمد علي الحرز العاملي.
4 ـ أعيان الشيعة: لآية الله المجدد السيد محسن الأمين العاملي.
إلى قائمة تطول بالمصنفات التي تناولت الأعلام، فهل اقتنينا هذه الكتب أو تصفحناها ؟ وهل تعرفنا من خلالها أقطابنا لنسأل: ماذا أخذنا منهم وماذا أعطينا ؟ وأين كانوا وأين نحن اليوم ؟
لقد كانت الأحساء حاضرة علمية شكلت مهوى أفئدة طلاب العلوم في يوم ما، من القرن التاسع الهجري وما بعده، حتى القرن الثالث عشر، ومشارف القرن الرابع عشر، ثم بدا الضعف شيئاً فشيئاً.
وقد شهدت تلك الفترة نشاطاً علمياً رائداً، لا في مدرسة أهل البيت (ع) فحسب، بل حتى في مدرسة العامة بمذاهبها الأربعة، حيث كانت الأحساء تعيش جواً علمياً وفكرياً وأدبياً منفتحاً إلى أبعد الحدود، بحيث شكَّل مساحة لا نظير لها في طرح الآراء المرتبطة بالمذاهب، فقد كانت مدارس الأحناف والشافعية والمالكية والحنابلة تنمو وتتطور جنباً إلى جنب مع مدرسة أهل البيت (ع) في حالة من الانسجام والتجاذب، أو الأخذ والرد أحياناً، وبذلك رشد المجتمع وأسقطت الحواجز. ولو رجعنا إلى الوثائق العثمانية لاهتدينا إلى الدليل على المدعى، حيث كانت المدارس عامرة فأضحت اليوم دوارس، فصارت المدارس دوارس، لا عين لها ولا أثر، إلا في الوثائق العثمانية، وجزى الله الدكتور محمد القريني خيراً عندما بعثر الكثير من الأوراق والوثائق العثمانية في إسطنبول، ليقدم رسالة الدكتوراه في هذا الجانب.
ونعود مرة أخرى للقول: كم من أبنائنا لديه رسالة دكتوراه شبيهة برسالة الدكتور القريني في هذا الجانب، وفاءً لأبنائنا ورجالاتنا الذين يفترض أن نرفع رؤوسنا بهم ؟ بل كم منا من سمع بهذه الرسالة؟.
إننا لسنا أقل من غيرنا، وليس الغير أفضل منا، ولكن رحم الله امرأً عرف قدر نفسه.
لقد حوت الوثائق العثمانية الكثير من الأسماء في هذه المنطقة من الفريقين العامة والخاصة، وكمَّاً هائلاً من الطلاب الذين قصدوا الأحساء من خارجها، من مناطق إسلامية نائية، كإيران والهند وأفغانستان، وغيرها من الأماكن، حيث كان الطلاب يقصدونها لسماع الرواية ونقل الحديث، فما الذي حصل واستوجب هذا التبدل والانهيار؟
أما على صعيد المصنفات العلمية والزاد الأدبي الواسع فقد كان لهذه المنطقة القدح المعلّى والحظ الأوفر في يوم من الأيام، أما اليوم، فإننا حتى لو حبانا الله برجالاتٍ فذة من أمثال الأستاذ المهندس جاسم الصحيِّح، فإننا نقدم رجلاً ونؤخر أخرى، ونمشي مشية الأعرج، والحال أننا نستطيع أن نضارع به وبأمثاله جميع الأدباء في العالم العربي والإسلامي، فلم لا نعطي هذا الرجل حقه ؟ بل لماذا نغمزه أحياناً ؟ ولصالح من ؟ فوالله لو كان جاسم عند غيرنا لكان له من الشأن غير ما هو عليه اليوم، لكن أمة هذا قدرها وهذا موروثها، وعاطفتها قبل عقلها، لا بد لها أن تعيد حساباتها.
أما عن المرجعيات الدينية في الأحساء، والتي كانت شاخصة هنا، فلا عين لها اليوم ولا أثر، ولو أن أحدنا تجرأ وطرح فكرة (المرجعية المحلية) فكأنه سب أحد المعصومين والعياذ بالله!
إن السبب في تقدم غيرنا في هذا المجال بسيط جداً، فقد عرفوا قدرهم وقيمتهم، كما عرفوا ضعفنا في داخلنا، أما لو عشنا في داخلنا القوة والتماسك، وشد بعضنا أزر البعض، فإننا لا نقل شأناً عن غيرنا. فلو سمع أحدنا عن شخصٍ ما أنه (آية الله) فلا داعي لغمزه وتضعيفه.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يتلمس مواطن الخلل ليسدها، ومواطن الكمال ليأخذ بها إلى الأفضل.
في الختام أذكّر بشهر شعبان، وهو شهر النبي الأعظم (ص) وهو البوابة التي منها نفضي إلى شهر الله تعالى. وإن كانت الصدقة في رمضان تتضاعف من حيث الأجر، إلا أنها في هذا الشهر من حيث العمل أهم، لأنك إن دفعتها في هذا الشهر فقد ساهمت في تفطير الصائم من جهة، ودفع العوز من جهة أخرى. والأفضل من ذلك كله دفع الصدقة بعنوان الأرحام، الذين ينتظرون الأقرباء.
والحمد لله رب العالمين