نص خطبة :ذكرى شهادة الإمام الجواد عليه السلام دعوة للاصطفاف ونبذ الفتن
في الحديث الشريف عنهم عليهم الصلاة والسلام، عن جدهم الأعظم (ص) أنه قال ذات يوم وعنده جماعة من أصحابه: «اللهم لقّني إخواني مرتين، فقال من حوله من أصحابه: أما نحنُ إخوانك يا رسول الله ؟ فقال: لا، إنكم أصحابي، وإخواني قوم من آخر الزمان، آمنوا بي ولم يروني... لأحدهم أشد بقيةً على دينه من خرط القتاد في الليلة الظلماء أو كالقابض على جمر الغضا، أولئك مصابيح الدجى، ينجيهم الله من كل فتنةٍ، غبراء مظلمة»([2]).
هذا الحديث الشريف، كأنه يتحدث عن الواقع الذي نعيشه اليوم، حيث الفتن كقطع الليل المظلم من أكثر من جهة وجهة، فهناك مؤامرة على الإنسان بما هو إنسان، وعلى المسلم بشكل خاص، وعلى الموالي بشكل أخص، وهو بقدر ما يثبّتنا، فإنه يزرع فينا الأمل.
وفي معنى هذا الحديث وردت روايات كثيرة تنص على أن أتباع مدرسة أهل البيت (ع) هم الفرقة التي تدركها النجاة في آخر الزمن، وكيف لا يكون ذلك والخلف الباقي من آل محمد يتحرك في أساطهم؟.
لقد أجمع المؤرخون على أن الإمام الجواد (ع) ولي أمر الإمامة بعد شهادة والده الرضا (ع) مسموماً، وعمره لا يزيد عن سبع سنين، والإمامة المبكرة التي قام بأعبائها، أحدثت نقلة كبيرة في وسط مدرسة أهل البيت (ع) من جهة، والوسط الإسلامي في بعده الأوسع من جهة أخرى.
فمن تقدم الإمام من الكوكبة النيرة كانوا في أعمار ألفها المجتمع أن تنهض بأعباء الأمور العظيمة، ابتداءً من علي (ع) إلى الرضا (ع) فكلهم كانوا في عمر يساعد على ما تتلقاه الذهنية في حدود معارفها ومدركاتها، لكن الإمام الجواد (ع) جاء وهو في عمر صغير من حيث البعد الزمني، وإلا فاعتقادنا أن الإمام (ع) إنما يولد كاملاً مكمَّلاً على أنه الأفضل بين القوم من حوله.
لقد أحدثت هذه الإمامة المبكرة مجموعة من التساؤلات، لأنها لا تنسجم والرؤى التي نسجت عليها العقلية في جزيرة العرب آنذاك، ولهذا أسبابه وجذره التاريخي، كما حصل مع علي (ع) حيث غمز البعض ممن غمز فيه، أنه حدث السن، وحداثة السن مع علي (ع) كانت بالإضافة لمن تقدمه، وإلا فإنه لم يكن كذلك.
وبقدر ما أخذت هذه القضية من دور مهم وخطير، بقدر ما تصدى لها أقطاب الطائفة وأماطوا اللثام عنها ورفعوا حالة التشكيك.
فالإمامة لا تتم إلا عبر طريق واحد لا ثاني له، إلا وهو التنصيب الإلهي، سواء بالمباشرة أو بالواسطة، فمنصب الإمامة كمنصب الرسالة والنبوة، لا بد أن يكون قد صنع على يد القدرة، لأن ما يناط به لا ينحصر بالأمر الدنيوي فحسب، إنما يناط به الأمر الدنيوي والأخروي كما هو معلوم.
وكلنا يعلم أن الحكيم إذا أراد أن ينصِّب، فلا بد أن يكون المنصَّبُ حكيماً، لذا ذهبت مدرسة أهل البيت (ع) إلى أن طريق تنصيب الإمام المفترض الطاعة، لا بد أن يكون مرتبطاً بالسماء.
أما الطريق الآخر الذي ذهب إليه غيرهم، فهو الانتخاب والترشيح، وهذا الطريق وإن كان قد يوافق في بعض الأحايين تقديم الأفضل على المفضول، إلا أنه ليس القاعدة المطردة، بل إننا عشنا وسوف نعيش ـ إذا ما مُدّ لنا في أجلنا ـ ورأينا أن مجموعة من الرؤساء الذين تم انتخابهم وفق هذا الطريق ـ وهي صورة مصغرة مقرِّبة للمشهد الأكبر، والقياس مع الفارق ـ سرعان ما ينقلبون على الجمع الذي رشحهم بنسبة 99.9 % ويتحولون إلى جلادين ودكتاتوريين.
من هنا فإن الانتخاب والترشيح أمر نسبي، لا سيما في زماننا هذا، حيث لا نرى مدعياً للديمقراطية بوجهها الواسع إلا وعليه الكثير من الملاحظات، فما من حراك سياسي على وجه الأرض اليوم إلا وهو مؤطّر بإطار الحزبية، سواء أعلن عنها أم لا، وهذا واضح وبيّن، ودونك المشهد، دون تحفظ على أي مورد من موارده. فكل ذلك يدور ضمن هذه المنظومة، فمن يقدم الأفضل للجماعة أو الفئة أو الحزب أو التنظيم، هو الذي يصبح رئيساً حتى في أكثر الدول ديمقراطيةً كما يدعى، كأمريكا مثلاً، وهي أبعد ما تكون عن الديمقراطية، والشواهد واضحة.
مؤهلات الإمام في قيادة الأمة:
فالإمام (ع) لا بد أن يكون متوفراً على شروط حتى يصبح هو الإمام، وهذه الشروط موضوعة من قبل الله تعالى، ومودعة في ذات الإمام، فلا ظرف من الظروف يكون قابلاً لاستقطاب هذه الشروط، إلا الظرف الذي أُعدّ له. وكلنا يعلم أن ما بعد الرسول (ص) هم علي (ع) وما نسل عنه، بنص من الله تعالى.
والشروط هي القدرة والكفاءة الحقيقية على إدارة شؤون الأمة، لا الاعتبارية التي يتبانى عليها الناس، وهذه القدرة تنحل بدورها إلى عدة مكونات:
1 ـ القيادة الفكرية للأمة: فإذا ما تصفحنا تاريخ العظماء والخلفاء والزعماء والملوك والسلاطين والرؤساء سوف نجد أن هناك تبايناً واضحاً بين تلك المنظومات في بنائها الفكري، بل إن كثيراً من القادة الذين سادوا الدول، لم يكونوا على مستوى كافٍ من الأهلية في هذا الجانب (الفكري) إنما كانوا في أدنى مستوىً من التحصيل، سواء كان التحصيل التقليدي فيما مضى، أو الأكاديمي المعروف اليوم، أو ما يُعمل به في بعض الزوايا، كما هو الحال في الحوزات العلمية والأزهر والزيتونة وما إلى ذلك.
وبالنتيجة ليس بالضرورة أن يكون الزعيم الذي يتصدى أو يصبح وجه الأمة، هو الإنسان الأكثر قدرة على قيادة الأمة في جانبها الفكري، والشواهد على ذلك كثيرة فلا داعي للتفصيل.
2 ـ القيادة العلمية للأمة: بحيث يكون الإمام هو المتفرد في هذا المقام، ومن لا يُشقُّ له غبار، ولا يدرك في سير، فالإمام إمامٌ بما أودع الله تعالى فيه من علم، وهو علم مطلق إذا ما أضيف إلى جميع الناس، أما إذا أضيف إلى الله سبحانه وتعالى فتبقى النسبة محفوظة، حيث إن العلم بالنسبة لله هو عين ذاته، على العكس مما عند المعصومين (ع)، فهو علم مفاض عليهم، مضاف إليهم، من محمد النبي (ص) إلى خاتمهم محمد.
والإمام الجواد الذي نعيش ذكراه، قد ضرب الأرقام العالية، وثبت الشواهد البينة، ودونك ما سطرته أنامل من لا يعتقد معتقدنا، ولا يسير على منهجنا، فهم يثبتون هذه الحقيقة، ولا يتنكرون لها، ولا يتنصلون من معطياتها.
3 ـ القيادة الدينية للأمة: فعلى ما مر به أهل بيت العصمة (ع) من ضغوط، إلا أنهم لم يتخلَّوا عن القيام بدورهم في هذا الجانب، وما وصلنا من أحاديث، تضمنتها الموسوعات الحديثية الكبرى، خير دليل على المدعى، فما من إمام إلا وله سيل كبير في هذه الحيثية، سواء من جهة الابتداء ببيان الأحكام الشرعية، أم الإجابة عن السؤال إذا ما طرح، فللأئمة (ع) جميعاً بصماتهم ولمساتهم الواضحة.
نعم، غلب على عطاء بعض الأئمة الجانب الفقهي، وعلى البعض الآخر الجانب الكلامي، وعلى البعض الآخر الجانب السلوكي، ونظم الأمة في بعدها الأخلاقي، ولكن النتيجة بحسب ما كان الظرف والزمن والواقع، كان الإمام (ع) يتجاوب ويتعاطى في تأمين هذا الجانب الديني.
4 ـ القيادة العملية للأمة: وهذه واضحة وبينة في الأمة، فقد كان الإمام (ع) على حالة من التواصل مع آحاد الأمة في أفراحهم وأتراحهم، والأكثر من ذلك أن الأئمة (ع) كانوا يتحببون ويتقربون إلى شيعتهم، فكلنا يعلم أن ما من أمة إلا وتتقرب إلى رموزها، أما الأئمة (ع) فلم يكونوا يتعاملون من آحاد الأمة على أساس أن هذا المنصب يحدث فصلاً بينهم وبين الآحاد، فعلى ما هم عليه من الهيبة والعظمة والقدسية، التي ربما توجِد حالة من البعد عند الطرف المقابل، وهو الموالي، إلا أن الأئمة (ع) في تعاطيهم كانوا يتحركون على أساس أنهم منهم وإليهم، وعلى هذا شواهد وروايات كثيرة ذكرنا طرفاً منها في شهر رمضان، ومن ذلك أن الإمام الحسن (ع) عندما دُعي إلى إفطار من قبل جماعة، ترجّل عن جواده، وافترش الأرض معهم، وأكل من زادهم، ثم دعاهم إلى طعامه.
وهذه الحالة من اقتراب الرمز أو القائد أو الزعيم أو الإمام من الأمة، دلالة على رضا الشعب عن القيادة، أما إذا وجدت الطوابير المكدسة من الجنود، تفصل بين رأس الهرم وقاعدته، فعليك أن تضع ألف علامة استفهام واستفهام، ولهذا امتداده من يوم البشرية الأول، وإلى يومنا هذا، وما يلحقه في الآتي.
وبناء على المقاييس الإلهية، والوقائع التاريخية يثبت الإمام الجواد (ع) أحقيته بالإمامة، وأن مسألة العمر لا تقدم ولا تؤخر كثيراً، والشواهد على ذلك فوق الحصر، ودونك ما في القرآن من قضية عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا، وما إلى ذلك ممن أوتي العلم والحكمة والنبوة والزعامة وهم لا زالوا في دور الصبا وحتى المهد.
والشواهد هنا كثيرة يطول بنا المقام في استعراضها، وسأحاول قدر الإمكان المحافظة على أوقاتكم، بالإضافة للمحافظة على الجانب الصحي لي.
وربما يصار إلى خلاف ما تم تأسيسه، من أحقية الإمام بالإمامة في حال الصبا، على أن يكون الأولى بالخلافة من ليس في دور الصبا، وهذه الحالة موجودة، وقد طرحت مجموعة من التساؤلات والتشكيكات، من جهة أنه لا يمكن أن يصار إلى الطفل أن يكون نبياً أو إماماً، وكأنّهم لم يقرأوا القرآن، ولم يسمعوا أبداً قول النبي (ص) فليس بعد القرآن وحديث النبي (ص) شيء. فقد نص النبي (ص) على أسماء الأئمة واحداً بعد واحد.
ومشكلتنا نحن اليوم أننا قليلو القراءة، ومن هنا أؤكد على الشباب أن يقرأوا، فكل ما يقال مسطور، وليس علينا إلا أن نسبق الغير إلى السطور، وعلينا أن نبحث، ولا نترك غيرنا يقرأ قبلنا.
فمن تلك الشبهات التي أثيرت حول إمامة الإمام الجواد (ع):
1 ـ عدم علم الشيعة كون الإمام (ع) صبياً، فمن قال إن الشيعة يعلمون أنه صبي؟ فمن الممكن أن يكون لُبّس عليهم الأمر، فصاروا يعتقدون بإمامته، في حين أنهم لا يعلمون أنه صبي، خصوصاً أنهم في تلك الأزمنة كانوا يعيشون في أمكنة متباعدة، فعندما يصلهم الخبر بإمامة الجواد، فإنهم لا يعلمون كونه صغيراً أو كبيراً.
والجواب عليها: أن الإمام في مدرسة أهل البيت (ع) لم يكن في يوم من الأيام محاطاً بالشرطة والحماية، كي لا يستعلم أنه صغير أو كبير، فقد كانت بيوت الأئمة (ع) بلا حاجب، مفتوحة للجميع. فهل من المعقول أنه لا يمكن لطائفة أن تستطلع الأمر وتقف على حقيقته؟
ثم إن مدرسة أهل البيت (ع) لم تبنِ نظريتها في الإمامة على أساس من السرية والباطنية كما هو الحال مع بعض المذاهب والمتصوفة، الذين لا يُعرف الإمام في أوساطهم إلا بعد وفاته، فأئمة أهل البيت (ع) كانوا يتحركون في وسط الأمة، وكانت بيوتهم مشرعة الأبواب للقاصي والداني، وكان يقصدهم الشامي فيلقى أبوابهم مفتّحة، وفي قصة الإمام الباقر شاهد كبير على ذلك، ومن قبله ما حصل مع الإمام الحسن (ع) وما إلى ذلك من الأمور.
والأمر الثالث في الإجابة عن هذه الشبهة: هو قيام الدولة العباسية بتسليط الضوء على خليفة الإمام السابق، فلم تكن الخلافة العباسية لتغض الطرف لحظة واحدة عما يجري في نسق الإمامة في وسط مدرسة أهل البيت (ع) فكانت تشخص وتقوم بعملية الفرز بين أبناء المعصومين (ع) ومن هو الذي تجتمع فيه أكبر نسبة من صفات يمكن أن تكون في الإمام، من الجانب الفكري أو العلمي أو العملي والسلوكي، فنحن في البيت الواحد مثلاً يمكن أن نميز بين ولد وآخر من حيث الذكاء، وكذلك بين الناس عند مقارنة بعضهم مع البعض الآخر، فكيف مع منصب الإمامة واللطف الإلهي ونورانية الإمام (ع) ؟.
فالسلطة العباسية لم تغفل هذا الجانب، إنما كانت تركز وتتابع، وفي قضية الإمام المهدي (ع) خير شاهد على ما ندعي.
فالمأمون العباسي مثلاً، زوج ابنته من أم الفضل، وقد اختاره من بين أبناء الرضا (ع) للخصائص والملكات الموجودة فيه من جهة، ولوضع الإمام (ع) تحت الرقابة القريبة اللصيقة.
وقد سطر التاريخ أن الإمام الجواد (ع) وبمحضر من المأمون، كان يقف في وجهه، ويدحض الحجة بالحجة.
2 ـ ومن الشبهات التي أثيرت هنا أن مفهوم الإمامة لم يكن مفهوماً واضحاً وبيناً عند مدرسة أهل البيت (ع)، أي أن أتباع هذه المدرسة لم يكونوا يشخصون مفهوم الإمامة بشكل دقيق، ومن هنا يمكن لأيٍّ كان أن يكون إماماً، كما هو الحال لدى الآخرين من سائر المذاهب.
ومنشأ هذه الشبهة أن منصب الإمامة ربما يكون بناءً على التسلسل النَّسَبي والوراثة، فالنسبية هي التي تقرب الإمام، وتمنحه هذا المنصب.
والجواب: أن هذا واضح البطلان، فإن مفهوم الإمامة في مدرسة أهل البيت (ع) يختلف عن ذلك تماماً، ولو كان الأمر بالتوارث النَّسَبي لكان الأنسب أن يُقدَّم الأكبر، وهو ما لانراه في إمامة أهل البيت (ع) فلم يكن الكبار من أبناء الأئمة هم الأئمة بعدهم، إنما تقدم للمنصب من هو الأصغر سناً.
أضف إلى ذلك أن التاريخ شاهد على أن الواقع خلاف ذلك تماماً، لأن مفهوم الإمامة منذ زمن الرسول الأعظم (ص) كان يتحرك في ذهنية المسلمين، ولكن مع وصول الإمام أمير المؤمنين (ع) إلى غدير خم، وعقد البيعة له بالإمامة، بدأت هذه اللفظة تأخذ منحىً وبعداً خاصاً.
وعندما توفي النبي (ص) وتقدم للإمامة من تقدم، أصبح الفصل واضحاً بين مقام الخلافة والإمامة، فالخلافة أصبحت سلطة ظاهرة، أما الإمامة فبقيت ولاية باطنة، تتحرك في الخفاء، وخارج دائرة الضوء، لأسباب وأمور كثيرة لا داعي للدخول فيها.
ومنذ زمن الإمام علي (ع) إلى زمن الإمام الرضا (ع) تبلور مفهوم الإمامة في ذهنية الشيعة كثيراً، وحتى في يومنا هذا، عندما تسأل أدنى المستويات عند الشيعة عن الإمامة فإنه يجيبك بناءً على ما تقدم من التعريف، وعلى العكس من ذلك تماماً تجد من يتخبط في بيان وتحديد هذا المفهوم من الطرف الآخر، حتى لو كان عالماً، لأنه لو نصّ عليه بما يفيده الاصطلاح، فإن ذلك يحتّم عليه أن يتخلى عن دور، وينتقل إلى دور آخر، وهو ما لا يريده أحد منهم لنفسه مطلقاً، منذ القديم وإلى يومنا هذا.
والشواهد على ذلك كثيرة، منها أنه بعد وفاة الإمام الصادق (ع) انعقدت الإمامة للإمام الكاظم (ع) ثم حدثت بعد وفاته مسألة الوقف، ثم صار الإمام الرضا (ع) هو الإمام المفترض الطاعة، وأصبحت المعالم واضحة وبينة.
ولكن قبل أن تكون الأمور كذلك، جاء أحد أتباع مدرسة أهل البيت (ع) يسأل عن الإمام بعد الإمام الكاظم، فقيل له: إنه في بيتٍ لجعفر بن محمد، وهو في ضيعة له خارج المدينة المنورة، فأتاه فإذا بقوم مجتمعون على أحد أبناء الإمام الكاظم (ع) فلما دخل عليه الرجل قال: والله، ما وجدت فيه نور الإمامة.
مما يعني أن الإمامة كانت معروفة في خصائصها وصفاتها حتى لدى آحاد الشيعة، وكانوا يتعاملون معها بهذا الحد من التمييز،فما بالك بالأمور الأخرى التي ذكرناها؟
3 ـ ومما ذكروه من شبهات أنهم قالوا: إن علماء الشيعة ووجهاءهم بل حتى عامتهم، تواطأوا على أن يجعلوا الأمور بهذه الكيفية.
ومن الغريب جداً، أن يتفوه بمثل هذا من يدعي العلم والمعرفة.
وهذا الفرض وإن كان من فرض المحال، ولا يمكن أن يصار إليه، إلا أنه يمكن أن يردّ بوجوه عدة، منها أن واقع الشيعة يكذب دعوى التواطؤ للاحتفاظ بمسمى الشيعة، لأن من يتواطأ على أمر معين، لا بد أن يكون هدفه من ذلك جلب منفعة أو دفع مفسدة، أما واقع الشيعة فعلى العكس من ذلك تماماً، والحسابات الدنيوية كلها لا تساعد على ذلك.
أما في الحسابات الأخروية، فإن ورع أقطاب الطائفة يمنعهم أن يقعوا بمثل هذا الأمر، بأن يدلسوا أو يكذبوا. كيف؟ وأعلام الطائفة ممن نص النبي (ص) على علو مقامهم؟ وكذلك من عاش مع الأئمة المعصومين (ع) فهناك مدح منهم لمن اتصف بالورع، وذم وقدح لمن لم يتصف بالورع والوثاقة.
فعملية الفرز والتصنيف كان يمارسها الأئمة (ع). فهذه النخبة التي انتخبها الأئمة ووصفوها بالوثاقة، كيف يمكن أن نتصور تواطؤهم على مثل هذا الأمر؟
ومن جهة أخرى فإن طريق أهل البيت (ع) لم يكن من الطرق المعبدة للوصول إلى المال والجاه والثروة، إنما هو من أعسر الطرق وأكثرها تعثراً، للوصول إلى الجاه الدنيوي. ودونك التاريخ، منذ اليوم الأول إلى يومنا هذا، فسترى أن مصير أتباع أهل البيت (ع) في كثير من الأحيان هو التهجير أو التنكيل أو السجون والطوامير، بل حتى الأئمة (ع) لم يسلموا من هذه الطائلة. نعم، لو أراد الواحد منا المصفى من العسل، على أن يكون هو البُلغة في الدارين، لما كان الغير أهدى إليه طريقاً، وأقرب إليه نيلاً وتحصيلاً، لكن الدنيا بما فيها ـ باستثناء الخلف الباقي (ع) ـ لا تعادل أنملة من واحد من كوكبة الإمامة من آل محمد (ص). وما قيمة الإنسان في ماله ونفسه وعرضه إذا ما أراد أن يقدم أو يؤخر قدماً في هذا الاتجاه؟. ومن اعتقد خلاف ذلك فهو واهم.
فلو كان الإنسان يريد المال والجاه فإن الطرق الأخرى معبّدة، وأقلها أن يغيّر أحدنا اسمه، من هذه الأسماء المتعارفة للأئمة (ع) إلى أسماء أخرى. وقد كان هذا الأمر قديماً، وليس وليد اليوم، فقد كان خليفة الشام يقول: ألا وقد برئت الذمة ممن تَسَمّى بعلي أو تظاهر بحب علي.
وقفةٌ وموقف:
أيها الشباب: إن الإمام الجواد (ع) يدعونا اليوم، ونحن في هذا المنعطف الخطير، أن نتحلى بالحكمة والروية والوعي والإدراك والرجوع إلى من يمتلكون القرار الحكيم، ومن يجعلون من أنفسهم وسائط خير لنجاة طائفة وأمة بكاملها، لا أن نصفق مع من يصفق أياً كان، ثم تكون النتيجة أن الفرد منا لا يدفع ضريبة نفسه منفرداً فحسب، إنما يجعل غيره يدفع الضرائب أيضاً. فمن يريد من الناس أن يقفوا معه، عليه أن ينصفهم أولاً، كي يصطفوا إلى جانبه، فالإنسان ليس مفصولاً ومعزولاً عن مجتمعه إنما هو فرد من أفراده، والمتاجرة بالمجتمع أمر محظور، وخط أحمر، والمتاجرة لها صور متعددة، فإن رضينا عن وضعنا الحالي هذا، فسوف يأتينا في المستقبل ما هو أسوأ.
أيها الأحبة: لم أكن في الماضي أتكلم عن شيء من هذه الأمور، وفضلت السكوت لسنتين أو أكثر، على كثرة ما كتب في الانترنت، وما طبع من كتب، وما أقاموا وما أقعدوا، فقد كنت مهمِّشاً لهم، ولا أرى أنهم يعدلون عندي قلامة ظفر، ولكن أن تصل الأمور إلى المساس برمز من رموزنا، وتاج على رؤوسنا، وهو سماحة العلامة الحجة السيد محمد علي، فإننا نقول: إلى هنا وكفى.
ومن أراد معرفة ذلك، فليدخل إلى الانترنت، ليرى ما يفعلون، وباسم الزهراء (ع) والحرص على مذهب أهل البيت (ع).
وقد حذرت منذ القديم، وقلت: اليوم سكتُّ عن فلان فيما جرى عليه، وهو اليوم في قبره، شاهدٌ في عالم آخر على ما نقول، وقلت: إن النار سوف تقترب شيئاً فشيئاً منكم، الواحد تلو الآخر، ولم يكن أحد يسمع تحذيرنا هذا.
واليوم انظروا ماذا يحدث! اقرأوا كتاب: الجنازة الماسونية، وهو كتب مؤلف من جماعة احكموا عليها بما شئتم، وهو مذيل بقائمة اسمها: القائمة السوداء بأسماء من شاركوا في تأبين فضل الله، ولم يسلم من هذه القائمة لا السيد علي الناصر، ولا غيره. فهل أصبح هؤلاء الأعلام قائمة سوداء؟! وهل ثبتت الحال في أوساطنا إلا على أكتاف من تقدمنا؟ فبدل أن نشكر علماءنا وكبار الشخصيات عندنا، ونحافظ على عظمتهم، صرنا نهدم بناءهم بأيدينا نحن لا غيرنا؟
والله، إن النتيجة ستؤول إلى أننا نهدم أنفسنا أولاً قبل أن يهدموا، إذا كان كل منا ينأى بنفسه عن الواقع.
انظروا إلى هذا الكتاب الجديد، الذي نشر حديثاً تحت عنوان: البيان الجلي في الرد على كتاب السيد محمد علي العلي، وهو من 600 صفحة، وليس فيه ورقة واحدة في صالح أهل البيت (ع) ولا خطوة عملية لصالح الطائفة، أما في الفتن فهم رؤوس شامخة.
لقد كنت أقول: دعونا نميز ونسبر الأغوار، فلا ننخدع بالعمامة والعباءة، فكان يقال: إن السيد محمد رضا يشهّر، ولكن انظروا أين وصلت الأمور؟
لقد وصلت الأمور إلى أن يكتب هؤلاء ـ الذين أترفع أن أذكر بحقهم نعتاً يوفي قدرهم، حتى أتلفظ به ـ فيصفوا العلامة الحجة السيد محمد علي أنه (مداهنٌ مفترٍ كذابٌ منافق)، لماذا؟ ما الذي صدر من هذا السيد ؟ ألأنه حفظ كيان الحوزة في زمن العسرة، يوم كان يطارد من بيت إلى بيت كي لا تغلق من الجهات الرسمية ؟ أهذا جزاؤه على جهوده المبذولة؟ أو لأنه أحيا مراسم أهل البيت (ع)؟ أو لأنه نذر نفسه لأبناء مجتمعه؟ أو لأن الكبير والصغير عنده سواء؟ أهذا جزاؤه على كل هذا؟
والله ما قلت هذا لأنه أحد أبناء أسرتي، فلو أنه كان من كان، وتعرض لمثل هذا فسوف أقف مثل هذه الوقفة، التي أسأل الله تعالى أن يتقبلها مني.
أقول: أيها الشباب، إن كانت الغرف السوداء مغلقة، فالغرف الرمادية مفتوحة، وعقارب الرمل كثيرة.
في الختام لدينا تنبيه بسيط على قيادة السيارات، فقد فقدنا هذا الأسبوع شاباً، أو ربما تعدى قليلاً مرحلة الشباب إلى الكهولة وهو الأخ صالح الدريس، في حادث مروع في العيون.
وهنا أقول: على الجميع أن ينتبه مرتين، مرةً لنفسه هو كسائق، ومرة للسائق الآخر الذي ربما لا يكون منتبهاً، لأن المشكلة قد تكون في الآخر الذي لا ينتبه، بل ربما يتوجب الانتباه للآخر أكثر من الانتباه للنفس.
فمن المعقول أن يخرج أحدنا من بيته مبكراً ليصل بربع أو نصف ساعة دون أن يفجع أحداً، فالمسافة من الدمام للأحساء، سواء قطعت بسرعة 180 كلم / ساعة أو أقل، فإن فرق الوقت لا يتجاوز العشر دقائق.
فيا أيها الشباب، أنتم ثروة كبيرة، ولا ينبغي أن يفرط بأي منكم.
وهذه القضية لا تقع على عاتق الناس فحسب، إنما تشترك البلدية في ذلك أيضاً، ففي بعض البلدان النامية أكملوا إنجاز (كوبري) في ثمانية أشهر، وهو أطول مما لدينا بحوالي عشر مرات، فأين هي بلديتنا من هذا (الكوبري) الذي قتل فيه الكثير؟
إن البلدية تعرف المواطن إذا كان قد فتح نافذةً صغيرة لمروحة في المطبخ، فإنها تسارع إلى المطالبة بالتصريح، لكنها لا تلتفت إلى الأكبر من ذلك، كالتحويلة أو المطبّ في غير محلها، وكأنها لا تدري بذلك أبداً.
أما في المرور فالوضع أسوأ، فهو يعرف أن يضع نقطة تفتيش في زاوية ما، ليمسك بأحد الفلاحين المساكين، ليفرض عليه غرامة مالية بسبب المخالفة، أما ما يحصل في الطرق فكأنه غير معنيّ به.
أضف إلى ذلك أن المسؤولية تقع علينا نحن أيضاً، فلا بد أن ننتبه، لأن حفظ الأنظمة أمر مهم وحساس.
نسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق، والحمد لله رب العالمين.