نص خطبة: دور العقل في زمن الغيبة الكبرى
الامتحان الأكبر في الغيبة:
كان الكلام في الأسبوع الماضي حول الغيبة الكبرى للخلف الباقي من آل محمد (ص).
والغيبة التي عشنا ذكراها في الأسبوع الماضي، أدخلت الأمة في الكثير من التشعبات، وليس ذلك بدعاً، فكل منظومة يغيب عنها الرمز، ولو في ما يتمثل بالغياب الخارجي، فإن غيابه يُحدث خللاً بين أبناء تلك المنظومة من النخبة المتقدمين، ناهيك عن الأتباع والعامة من الناس.
فهذه البرهة الزمنية احتضنت حالة النقلة في أوساط الأمة، بين عالم الظهور والشهود والتجسد للإمام المعصوم المفترض الطاعة، وبين حالة الغياب.
ورب سائل يسأل: إذا كان ثمة ضرر يحدث للمنظومة بما هي منظومة، فما هي مبررات الغياب لرأس الهرم فيها؟ خصوصاً إذا كان الغياب دفعياً لا تدريجياً؟.
والجواب أن الأمة المحبة، المؤمنة، الصادقة في إيمانها، المجسدة للصدق عملاً، عايشت مرحلة النقلة قبل ذلك بفترة ليست بالقليلة. فالإمام الهادي (ع) وهو العاشر في كوكبة الإمامة، قام بممارسة تصب في هذا الاتجاه. وجاء الإمام الحسن العسكري (ع) وهو الحادي عشر في كوكبة الإمامة، فأصّل وجذّر فكرة النقلة والغياب. ثم جاء الإمام المهدي (ع) فعاش الغيبة الصغرى بجميع معطياتها.
ومن المؤسف أن الغيبة الصغرى، إلى يومنا هذا، لم تأخذ مساحتها الكافية والواقعية في أية حقبة من حقب التاريخ الشيعي أو الإسلامي بصورة عامة. أما الغيبة الكبرى فهي حالة طبيعية إذا ما أضيفت إلى من بيده التشريع.
ويفترض أن سبعين عاماً من الغيبة الصغرى كانت جديرة بتكوين مجتمع خاص يتفاعل مع من غاب أو استجد على ساحة خارطة أتباع مدرسة أهل البيت (ع)، من السفراء الأربعة ثم العلماء.
ولا بد أن يكون للعلماء دور في تلك الحقبة، وإن لم يسلط الضوء إلا على السفراء الأربعة، وفي هذه الحالة الكثير من التجني الذي بتنا اليوم ندفع الكثير من ضرائبه، اللهم إلا شواهد وشواخص معينة تصب في طابعها العام في اتجاه مدرسة الحديث التي نأت بنفسها كثيراً عن إعمال العقل.
منزلة العقل:
إن العقل قيمة ونعمة عظيمة، لذا نرى أن النبي (ص) يقول لمن ذكروا رجلاً وأثنوا عليه: دعوكم من وصف فلان بطول ركوع وسجوده وتهجده وتلاوته القرآن، وادخلوا في عمق القضية وجوهرها، وأخبروني عن وزن عقله، فعندما تلقح الفتن هنا وهناك هل يكون حلس المسجد، يشغل فيه زاوية من الزوايا؟ أو أنه يترك ما بيده ليتحرك فيما يرشد إليه العقل النوعي؟
وكمثال على ذلك أحد الصحابة أو التابعين، يدعى هرثمة، كان رجلاً ناسكاً متصوفاً كثير العبادة والتبتل، سمع واعية الإمام الحسين (ع) فانتحى جانباً، وكان اللبس والإشكال وعدم موفقية استنطاق العقل قد غرزت فيه سهامها، حيث ظن أنه بابتعاده عن مشهد الصراع سوف يكسب مقام الخلاص من الولوغ في الدماء هنا أو هناك، فحفر له قبراً، وصار يصوم النهار ويقوم الليل، ويتلو القرآن، وينتظر ما الذي حل وحدث للحسين بن علي (ع). وكان هذا كل همه. فهل ينتصر الإمام الحسين (ع) في هذه المواجهة ليعقد له من ورائها لواءً؟ ليقول بعد ذلك: كنت أجيش الجيوش، وأجنّد الجنود، لنصرة الإمام الحسين (ع) لأن المتدين الأهوج الملغي لعقله، قد يرتكب ما هو أعظم مما يرتكبه الفاجر في فجوره، طبقاً لما جاء في النص الشريف.
ومن هنا قد يقول بعض الواهمين: لماذا هذه الهجمة الشرسة منكم على المؤمنين العبّاد الزهّاد الأتقياء الورعين؟ أقول: هذا الكلام غير صحيح، وفيه تجنٍّ كبير على الحقيقة، فالعبادة الواعية، كالصلاة والصيام والحج وغيرها من العبادات والشعائر الأخرى، إذا كانت متحركة على أساس الوعي والإدراك، فلا يستطيع أحد أن يغمز فيها، أما إذا كانت عبادة مفرغة من أهم عناصر التكامل والعروج والسمو، ألا وهو العقل، فلا شك أنها تكون عرضة للنقد، ولنا في رسول الله أسوة حسنة. فقد ذكروا له أن الرجل كثير العبادة والخير، إلا أنه سألهم عن عقله وفكره.
والملاحظ أن هؤلاء استغربوا من سؤال النبي (ص) عن عقل الرجل، حال أنهم يذكرون تدينه وعبادته، وهذا أشبه بلغة اليوم التي يتعامل بها الكثير منا. فالسؤال يجب أن يكون عن العقل أولاً كما يقول النبي (ص).
لقد كان عبد الله بن الزبير يدعى (حمامة المسجد) من كثرة العبادة والتردد على بيت الله الحرام، وطول ركوعه وسجوده وتلاوته القرآن الكريم، لكنه بعد ذلك تسبب في ضرب الكعبة بالمنجنيق.
وربما يقول قائل اليوم: هل يجرؤ (الدواعش) على هدم الكعبة مثلاً؟ أقول: هذا أمر طبيعي جداً، ولهم في أسلافهم أسوة سيئة. وابن الزبير والحجاج شواهد تاريخية، لا يمكن لأحد أن يلغيهما من صفحة التاريخ، شيعياً كان أم سنياً. وليست هذه آخر مرة تنتهك فيها حرمة الكعبة.
لقد كان الحجاج بن يوسف الثقفي من حملة القرآن الكريم وحفاظه ومعلميه في أحد مساجد ثقيف في الطائف، وهو من أكبر مساجد الطائف وأكثرها قيمة تاريخية. ثم أصبح فيما بعد مضرب المثل في الظلم والدموية، أما طواغيت العصر فقد أخجلوا الحجاج في أفعالهم، وجعلوا الناس ينسون ما فعله من ظلم وتقتيل.
كان الحجاج يقول:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني
وقد عرفوه حقاً، ولكن لا كما هو معروف منه من تعليم القرآن، إنما عرفوه بالسيف والظلم والقتل.
والسؤال الآن: لم حصل ذلك ويحصل؟ ولماذا يتحول العابد الناسك حامل القرآن إلى هذه الحالة؟ الجواب: أن العقل معطّل، وهو ما يحدث اليوم في وسط الأمة.
ما هو العقل؟:
العقل لغةً: هو الحَجر والنهي، تشبيهاً بعقل الناقة ومنعها من الحركة، إذا أريد لها أن لا تضيع في البيداء، إذ تُشدّ قوائمها بعقال. ومنه أيضاً (العقال) الذي يعتمره العرب اليوم، بعد أن كانوا في القديم يلبسون العمائم.
وسمي العقل بذلك، لأنه يمنع صاحبه من التذبذب والوقوع في ما لا يُحمد، وذلك إذا كان فاعلاً نشطاً حركياً في بلورة الأفكار والسعي هنا وهناك وترتيب الأوراق والوصول إلى نتائج. فهو يمنع صاحبه من العدول عن سواء السبيل، والصراط المستقيم.
إننا بحاجة ماسة للعقل، لا سيما في زمن الغيبة، لتعدد المذاهب والأذواق والطرق الطارئة، فقسم منها مسترجَع من الماضي، أي أنه كان في الماضي ثم أعيد بوجه جديد، وصار له أنصاره ومريدوه. وقسم آخر مُصنَّع تحت نظر عين بصيرة في حدود المادة، لذا يضع الصانع مجموعة من الأمور الملبَّسة بلباس العقل، المتقبَّلة عند أصحاب منطقة الوسط وملء الفراغ من أبناء الأمة، لذا يندفعون بادئ بدء، ثم يبدأون في مراجعة الحسابات، فمنهم من يندفع حتى النهاية، ومنهم من يتوقف في منتصف الطريق، ومنهم من يراجع الحسابات مطلقاً، فينهج منهج التغيير والتبديل.
إن هذه الحالة ليست طارئة، إنما كانت موجودة في القديم، حتى في مدرسة أهل البيت (ع) حيث تجدها في الناووسية والفطحية والواقفة وطرق أخرى حُسبت على المذهب، وإلا فإن من يخرج عن منظومة الإمامة لا يمكن أن يُحسب على المذهب، ولا يبقى في هذه الدائرة. فلا يمكن أن يقال للزيدي إنه (شيعي) بالمعنى الأخص، لأنه لا يقبل بالمنظومة الفكرية عند الإمامية، وهي عبارة عن إمامة حقة متمثلة باثني عشر إمام منصوص عليهم من قبل الله على لسان النبي الأعظم محمد (ص). وكذلك الإسماعيلية وغيرهم.
فمن الخطأ أن يحمل هؤلاء على الفكر الإمامي. بل إنهم ليسوا من التشيع في شيء، لأن من لا يقبل إمامة واحد من الأئمة الاثني عشر (ع)، من الإمام علي (ع) حتى الخلف الباقي (عج) فليس من الشيعة.
فالشيعي هو الإمامي، والإمامي هو الشيعي، وهذا هو موروثنا وما صدعت به روايات محمد آل محمد (ع).
إن جمهور العلماء عندما يقفون على مفردة ما، يمكن أن يُستخلَص منها ما يُستخلص، فإنهم لا يقفون عند حدود ظاهر الاصطلاح، أو المنبع اللغوي، إنما يغوصون في أعماقها لاكتشاف السر، وأحياناً يأتون بما يقيد العموم المستفاد من عالم اللغة، وأحياناً يُبعدون المفردة المركبة من المادة والهيئة عما أريد الاستدلال عليه وأرشد إليه المعنى اللغوي، إلى معنى بعيد جداً، صحيح أنهم لا يُسقطون العُلقة، لكنهم ينأون بها كثيراً عن المستفاد من مدلولها اللغوي، على نحو الانصراف الذهني من حاقّ اللفظ.
فقد قالوا في العقل: إنه عبارة عن وقار الإنسان وهيئته. فمن كان ظاهره الهدوء والسكينة، وكان منخفض الصوت عند الحديث مثلاً، فهذا عاقل فطن واعٍ حسب تعريفهم. أي أن المظهر يوحي بذلك.
وقال بعضهم: إنه ما يكتسب بالتجارب من الأحكام الكلية. فهنالك أحكام كلية وأخرى جزئية بين أبناء البشر. والفلاسفة والعلماء لا يعتنون بالجزئيات، إنما يعمدون إلى الكليات لينتزعوا منها الجزئيات بعد ذلك. فمن يمتلك مثل تلك الكليات يسمى عاقلاً في عرفهم.
وبمقارنة بين التعريف الأول والثاني، تجد أن ثمة مسافة بعيدة جداً بين المنتزَع الأول والمنتزع الثاني، فالأول صامت، والثاني ناطق، والأول جامد، والثاني متحرك.
ثم إن الثاني إذا لم يُقيَّد فإنه يصل بنا إلى ما وصلت إليه البشرية اليوم من تصنيع أسلحة الدمار الشامل. فهؤلاء (العقلاء) لم يصلوا إلى هذه المرحلة إلا لأنهم تحركوا في سبيل جمع المدركات الكلية على حساب الأمر الجزئي مهما علت قيمته وسمت مرتبته.
وقال قسم ثالث من العلماء في تعريف العقل: إنه عبارة عن الفطرة الطبيعية الأولى في الإنسان، وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها. ومن أقطاب المدرسة الفلسفية التي تتبنى هذا الرأي عند العامة العلامة أبو حامد الغزالي، وهو وإن كان من علماء العامة، ولكن تأثر بمدرسته جمع من أتباع المدرسة الشيعية الإمامية.
وهنا لا بد أن أشير أن الشيعة لا بد أن تعني الشيعة الإمامية، فلا معنى أن نطلق مصطلح الشيعة على المنظوم العام، فالشيعة تعني الإمامية الاثنا عشرية، فهؤلاء لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، فإن وجد كمالٌ فهو للجميع، وإن وجد نقص وخلل فعلى الجميع أيضاً أن يصححه. لا أن نحمّل الجميع ذلك الخلل والخطأ، فهناك مسار عقدي ملوث، كله خطأ في خطأ، وخلل في خلل، من أمثال ما تروِّج وتسوِّق له قناة فدك وغيرها، وهذا لا يمكن أن يُحمل على فكر أهل البيت (ع) وإن حاول هؤلاء أن يحمِّلوا مدرسة أهل البيت (ع) عطاءهم الذي يسوقون له هنا وهناك.
وربما يحتجّ بعضهم بأن مظلةً مرجعية هي التي تؤمِّن لهم الغطاء الشرعي، وهذا غير صحيح، فأحياناً يكون العامة والجمهور والأتباع هم الشرع.
وبناء على هذه التعريفات الثلاثة أصبح لدينا مسارات ثلاثة أيضاً في الأمة، فهنالك جماعة أرادت لنفسها الحراك في وسط الأمة، وأخرى نزعت للاتجاه الثاني، وثالثة نحو الاتجاه الثالث.
ومن الممكن الجمع بين الصورة، وهو أمر سهل ويسير، فالفطرة لا تأبى البحث، كما أن البحث لا يأبى الهيبة والوقار. فمن الممكن أن يكون الإنسان على هيبة ووقار، وفي الوقت نفسه يكون متنوراً، ولديه قراءة جيدة للمشهد، واستنباط، كما يكون أيضاً ابن الفطرة السليمة التي ينطق بها القرآن الكريم والسنة المطهرة، ولا محذور في الأمر.
من هنا فقد أشكل بعضهم على التقسيم المذكور واعتبره تفنناً وفذلكة، وإلا فإن حقيقة الأمر تتداخل فيما بينها، ومن المعلوم منطقياً أنه عند التداخل يسقط التقسيم.
بين الفلسفة والعقل:
إن الفلاسفة الذين عاشوا عمقاً وتركيزاً لهم آراؤهم، ولكن الفلسفة مدارس، ولكل مدرسة أذواقها وطرقها، وربما نكون معجبين بمدرسةٍ ما، أو رمز من رموزها، ولكن ذلك لا يعني نهاية المطاف، فكل ذلك نتاج بشري.
فما وصلت إليه الفلسفة في أعلى درجاتها، بناءً على المسارين المعروفين، لا تعدو أن تتجاوز مساحة ما هي فيه من النتاج البشري عقلاً، وهو بعيد كل البعد عن معطيات العقل الكلي الذي تقوم به الأنواع، والمرشد لهذا الاتجاه، والفاتح له السبيل لا يمكن أن يتأتى لأحدٍ إلا عن طريق محمد وآل محمد (ص) لذلك لا تجد بين الفلاسفة من اتفاق على مفهوم واحد أبداً، ابتداءً من أعلى المفاهيم في فكرة خالق الكون عندهم، إلى أقلها وأصغرها. فهناك آراء متضاربة متناحرها، يُسقط بعضُها البعض الآخر.
وهذا لا يعني أن نغلق الباب أو ندير ظهورنا لهذا النتاج الضخم الذي قدمه هؤلاء، لا للاعتقاد به، إنما من باب الاستعانة بآليات البحث الموصل إلى الحقيقة، فأنا وأنت والآخر كلنا مسلمون، لكن ثمة مفاهيم مبعثرة في وسط الأمة إما أنها لم تكن مفتوحة الرموز في الصدر الأول للإسلام، أو أنها كانت مفتوحة الرموز ثم أغلقت، بناءً على مصالح معينة، إما فردية وشخصية أو جماعية، وبالنتيجة بقيت الرموز على حالها، أو أنها ازدادت غموضاً مع مرور الأيام، بسبب أقلام الأعلام. لأن الإنسان في كثير من الأحيان، قد يأتي بالإضافة اعتقاداً منه أنه يبين الرمز، ويفك اللغز، إلا أنه في الحقيقة يساعد على إغلاقها وإحكامها بشدة.
لذا تجد أن البعض عندما يرجع إلى بعض الكتب الفلسفية كمنظومة صدر المتألهين أو غيرها، أو يرتقي إلى ما هو أبعد من ذلك في سير العرفان ويقف عند فصوص الحكم، يجد نفسه أمام عالم مُربَك بامتياز، لا لشيءٍ إلا لأنه اتخذ العقل وسيلة مجردةً دون الرجوع والارتكاز على المنطلق من الكتاب والسنة؛ لذلك ضاع الكثير منهم، وأضاعوا الكثير الكثير من الناس من ورائهم.
ومن المؤسف أن الموجة عندما تحصل تجد أن الكثير ـ وربما الجميع ـ يتحرك في مسارها واضعاً العقل في زاوية، ولا ينتبه إلا بعد أن تسير به الموجة إلى مسافات بعيدة بحيث يستوحش الرجوع للنقطة الأولى.
فاليوم أرى أن البعض يقتني الكتب ذات المسار الفلسفي، وعندما تسأله: هل درست مقدمات الفلسفة؟ وهل أخذت أصولها على أيدي المعنيين بشأنها؟ تجد أن الإجابة سلبية، حال أنه يستنتج ويستظهر الكثير من القضايا التي يبني عليها الكثير من الأمور بحيث يبتعد من حيث لا يشعر، ويحسب أنه يحسن صُنعاً.
لقد كان هذا الأمر في مربعات بعيدة عنا، حيث كان في إيران، ثم انتقل إلى العراق، ثم جاء إلى بعض مناطق الخليج، أما اليوم فقد بات يتسلل إلى واقعنا ومجتمعنا.
إن البعض يقول: إن أهل الأحساء أهل فطرة وبساطة، أي أنه يريد أن يقول: إنهم سُذَّج، لكنه لا يستطيع. ولكننا لسنا سذجة، إنما نحن أبناء الفطرة التي فطر الله الناس عليها، من محبة الحق، والعرفان بجميل أهل الحق، ولا لأحد على أحد جميل، إلا ما كان واسطة بين الرب والمربوب، وهم محمد وآل محمد (ص). أما مُنتَج (الاستراحات) السطحي فلا يمكن أن يغير واقعاً، مهما كانت الظروف والأحوال. فعلماؤنا الذين رحلوا، والآخرون الذين لا زالوا في أوساطنا يحملون الأمانة، لهم فضل كبير في تثبيت عالم الفطرة، ولكنها الفطرة الواعية، وليست الفطرة الساذجة، إلا إذا كان أولئك الذين يدعون السذاجة في أهل الأحساء يريدون أن يوجهوا تهمة طويلة عريضة لعلمائنا منذ قرون إلى يومنا هذا، فهذا كلام آخر. أما نحن فلا نستطيع أن نتنكر لتلك الجهود. فبفضل عطائهم وتنويرهم وما قدموا مما يتماشى مع حالتهم وقتئذٍ، ثبتت تلك الفطرة السليمة. لقد قدموا ما قدموا، وقاموا بالتكليف، ولولا ذلك لما كنا اليوم على ما نحن عليه.
تصوروا لو أن المجتمع كان مقطوع الواسطة بين القاعدة العامة للجماهير وبين الأساس، وهو مدرسة أهل البيت (ع) فما عسى أن تكون الأمور؟ وإذا أردت أن تقرأ المشهد بشكله الواقعي، فدونك بعض المناطق التي كانت تعيش الواقع الذي نعيشه، وكيف باتت اليوم؟
إن من يقرأ صحيفتين أو ثلاث صحائف من كتاب هنا أو كتاب هناك فليس معنى ذلك أنه أصبح مثقفاً واعياً قادراً، بحيث تصل الجرأة في البعض منهم أن ينتقص البناء القرآني. وهذا يشكل خطراً كبيراً في المستقبل إذا ما غضضنا الطرف عنه.
لذا فإننا نسأل: أين هي الحوزة العلمية؟ ولم لا تقوم بدورها؟ وأين رجال الدين؟ لم لا يقومون بدورهم؟
إن في الأحساء أكثر من 750 طالب علم، فلماذا لا تُفَعَّل حركتهم؟ صحيح أن هناك طبقة منهم تعمل، من دون شك، ولا نريد أن نبخس حقهم، ولكن هذا العدد الناهض المتحرك في الوسط غير كافٍ أن يقوم بالمسؤولية كما يجب.
إذا ادعينا اليوم أن أمورنا على خير ما يرام، فهذا خلاف الواقع، فقد تكون مقبولة إلى حدٍّ ما، إلا أنها غير جيدة فصلاً عن أن تكون ممتازة.
إننا اليوم نقف أمام قضية صغيرة، فنجد أن الكثير من منابر الإمام الحسين (ع) تتعامل معها لشَرذمة واقع المجتمع، ولكن في الوقت نفسه نجد الجميع مغلقاً في مسألة أخرى حساسة ومهمة، وكأن الأمر لا يعنيهم. والعذر في ذلك المحافظة على العلاقات، وتجنب الصطدامات. إذن لماذا لم ينهج الإمام علي (ع) هذا النهج؟ فقد خاض المعارك والنزاعات، ولم يتجنب الصدامات، ولم يحافظ على العلاقات على حساب المبدأ والموقف الحق.
لقد كان بإمكانه أن يحفظ العلاقة مع معاوية، فيصالحه ويضع يده في يده، فلا تسيل قطرة من دم. وكان بمقدوره أن يتفق مع أم المؤمنين عائشة على حساب الكثير من القضايا. كما كان بمقدوره أن يضع يضع يده بيد الخوارج، ويتجنب حرب النهروان وينتهي كل شيء.
إنه المبدأ، وطريق ذات الشوكة، والصراط المستقيم، وهو الطريق الذي لا يعرفه إلا علي (ع).
فعالم الغيبة الكبرى عالم وسيع، وعلينا أن نستفيد منه ضمن حدود دائرته وظرفه الزمني، لأن المبتدأ فيه معروف، لكن منتهاه غير معلوم، فما نطالب به أنا وأنت، وهو انتظار الفرج، الذي ورد في الروايات الشريفة أنه أفضل الأعمال، لا يعني كثرة الصلاة، ولا كثرة التردد على الحج أو زيارة الحسين (ع) مشياً على الأقدام، إنما هو العقل، فأغنى ما يملكه الإنسان هو العقل، وهو مفتاح الإيمان في التوحيد والنبوة والإمامة، فإذا فسد العقل فسد كل شيء.
فمسؤوليتنا اليوم هي كيفية صيانة العقل وتحريكه وتغذيته، وأن نعيش بعقل، فهناك مشاريع وخطط ومؤامرات بعدد الحصى، ونحن مشغولون بأتفه الأمور.
دور العقل في إدارة الاختلاف:
إن من الأمور المهة جداً في حياتنا أن الآخر مهما اختلف معك فعليك أن تنفتح فكرياً، وتشرع أبواب العقل، ولا تكن متحجراً لا ترضى إلا ما أنت فيه، فإن أنت أقنعتني لزمني أن أكون معك، وإن أنا أقنعتك لزمتك الحجة، وعليك أن تكون معي، وإن لم يقنع أحدنا الآخر فلا مانع أن نتعايش مختلفين. كل ذلك من العقل الذي يجب أن نحتكم إليه.
ومن العقل أيضاً أن نقف قليلاً أمام الأسماء والعناوين البراقة، فهي لا تسمن ولا تغني من جوع، بقدر ما تعكس الكثير من السلبيات. فها نحن نرى أن أحد صغار الطلبة، ممن لم يمضِ في الحوزة إلا أياماً قلائل، يترأس بعثة إلى بيت الله الحرام، بعنوان (العلامة فلان) في الوقت الذي نرى أن سماحة السيد المرجع لا يرضى لنفسه إلا (السيد) وهذا أشرف الألقاب في الحقيقة، فهو سيد في نسبه وعلمه وشرفه وموقفه وشجاعته وحبه للإنسان بما هو إنسان، وحبه للمسلمين، بل إن المصطلحات المستجدة مثل آية الله العظمى وغيرها لا تفيه حقه.
وهذا يذكرنا بموقف للسيد الإمام (قدس سره) في النجف الأشرف، فقد كتبوا على الرسالة العملية له: سماحة آية الله العظمى الحاج السيد روح الله الموسوي الخميني زعيم الحوزات العلمية. فلما علم السيد الإمام أصدر أمره فوراً بلزوم سحب الرسالة العملية من جميع مراكز التوزيع في العراق وإيران، وحذف هذه الألقاب.
هذا هو شأن الكبار، وشأن العقول الكبيرة، أما العقل الصغير فلا يخطو مثل هذه الخطوات، وهو الذي يكون دائماً في معرض النقد من قبلنا.
فمن أمثلة هذه العقول أن أحدهم يحلو له أن يجمع بين لقبي (آية الله) و (الدكتور) جاء بخطاط ليكتب اسمه، وكان هناك وسيط بينهما، وهو أيضاً دكتور، فقال له الخطاط: هل نضع لقب الدكتور قبل آية الله أو بعدها؟ فقال: دعني أسأل سماحة آية الله الدكتور، فلما اتصل به قال له: دعني استخير الله، فقال: متى؟ قال: عند الفجر إن شاء الله.
هذا هو العقل الذي أسلط سهام النقد عليه باستمرار، فأرجو أن لا يكون هنالك خلط في الأمور، بحيث يُحمَّل كلامي ما لا يحتمل، فنحن من أنصار العقل الناضج، أما العقل الآخر فلا.
نسأله تعالى أن يكتب لنا ولكم التوفيق، وأن يفتح عقولنا ويرفع عنها الأقفال، والحمد لله رب العالمين.