نص خطبة: دماء عاشوراء تستحق التأمل والساحة تتطلب الهدوء والتعقل

نص خطبة: دماء عاشوراء تستحق التأمل والساحة تتطلب الهدوء والتعقل

عدد الزوار: 708

2011-11-29

وفي الحديث الشريف عن الإمام الصادق (ع): «...فأحيُوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا»([3]).

الحديث عن قم المقدسة، مدينة العلم والجهاد والاجتهاد، حديثٌ له من القيمة الشيء الكثير، لأن حوزةً لها من العظمة والقدرة على العطاء في مفاصل كثيرة من التاريخ كحوزة قم، لم يحصل لها تهميش ومقاطعة واستدبار، لكن الشيء إذا ما اكتملت فصوله استطاع أن يقوم بنفسه، وما عسى أن يكون بمقدور من يضع العوائق أمام من يتسلحون بمكامن القدرة والقوة على إحداث التغيير.

وهناك عوامل عدة حصلت، اتفاقاً أو تخطيطاً، بعثرةً أو نظماً، صَبَّت في صالح مدرسة قم الكبرى. فقد كانت النجف بمثابة المعِدّ لكي تصل حوزة قم الكبرى إلى ما وصلت إليه، ولا يتنكر لهذه الحقيقة إلا مكابر، كيف لا والنجف الأشرف، ومنذ أكثر من ألف عام، وهي تتربع على قمة الهرم بالنسبة لمدارس أهل البيت (ع) بعنوان الحوزات العلمية، وقد أشرت في حديثي عن النجف الأشرف، أن الحوزات التي تتقلت في أكثر من موضع وموضع جراء أحداث وأحداث، لم يكتب لها البقاء والاستمرار لفترات طويلة، وإنما عادت إلى الحضن الأصيل، وهو حوزة النجف الكبرى، كما هو الحال مع حوزة حلب الشهباء، وجبل عامل، وإصفهان ومشهد، وحتى البحرين ولواحقها في تلك المرحلة كالقطيف والأحساء. ولكن من غير الصحيح أيضاً أن يقلل أحدٌ من شأن تلك الروافد التي انبثقت هنا وهناك عند عودتها إلى الحضن الطبيعي وهو النجف، وكم كان لها من أثر في دفع المسيرة الأم، وهذه حالة طبيعية.

لقد بلغت حوزة النجف رشدها وكمالها في أواسط القرن المنصرم، عندما قيض الله لها أقطاباً ورموزاً في العلم والمعرفة، شكلوا أضلاعاً ثلاثة، كل واحد منهم استطاع أن يدفع المسيرة في التحقيق العلمي في جانب الأصول إلى مسافات متقدمة جداً.

فقد كان الشيخ محمد حسين الإصفهاني (رضوان الله عليه) مربي الفقهاء والمجتهدين والمراجع والفلاسفة، وكانت له اليد الطولى في التأسيس والتأصيل والقفز بمدرسة الأصول في النجف إلى مربعات لم تألفها من قبل، بحيث كانت تصعب المجاراة لها في تلك المرحلة من أي موقع تعنونت فيه الحوزة.

ثم جاء الميرزا النائيني (رضوان الله عليه)، وأضاف لمسةً فيها من السحر البياني والدقة العقلية والاقتراب من مساحة الذوق العرفي الشيء الكثير، ليسد فراغاً كان يلازم مدرسة الشيخ الإصفهاني، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن الكمال لا يضاف إلا لرب الكمال، أما البشر فهم في معرض النقص, هنا أو هناك، خلا من اصطفاه لطفاً وكرماً، كالأنبياء والرسل، وفي مقدمتهم محمد وآل محمد.

ثم جاء الآغا ضياء الدين العراقي، الذي تخرج على يديه أقطاب، سرعان ما أصبحوا من وجوه الطائفة، وتسيدوا الموقع في جانب الفتيا وتربية التلامذة.

لقد تقدم هؤلاء الثلاثة بالحوزة مسافات بعيدة جداً، بحيث صعب على من جاء بعدهم أن يحدث شيئاً جديداً، اللهم إلا بما امتن به الله على حوزة النجف بعد هذه المنظومة المتميزة المتمثلة بهؤلاء الأعلام الثلاثة، من سيد شهداء عصره الإمام السيد الشهيد الصدر (قدس سره) الذي استطاع أن يتغلغل في معطيات هذه المدارس الثلاث، ليخلص من وراء ذلك إلى ما يمكن أن يوصف بالفتح على حوزة النجف الكبرى، وإعادة الحراك إلى مساحة التحقيق. لذلك عمد نظام البعث إلى تصفية هذا الرمز.

لقد غادر هؤلاء الأقطاب الدنيا، وهم بفراقهم لها، وإن خلفوا أثراً مكتوباً، ورجالاً تمت صناعتهم على أعينهم، إلا أنه مما لا شك فيه، كان لغيابهم أثر كبير في تراجع الحراك العلمي.

وهذا الذي ذكرناه، من غياب الرموز والأقطاب والأركان، هو السبب الأول في تراجع  الحراك العلمي.

وأما السبب الثاني فهو وصول حزب البعث المقبور وطاغيته إلى سدة الحكم والسلطة في العراق، فقد جعل من شغله الشاغل إضعاف النجف الأشرف قدر الإمكان، مادياً وبشرياً وعلمياً وتراثاً وما إلى ذلك، وقد جعل له مجموعة من السبل والطرق على أساس منها تحرك واندفع، ومن تلك الأساليب والسبل:

1 ـ حملة التهجير المسعورة التي طالت شخصيات النجف الكبرى، وهي حركة مشؤومة ترتب عليها من الخسارة الشيء الكثير. ومع شديد الأسف أقول: إن تلك المرحلة لم تُقرأ كما ينبغي، إنما تقاسمتها الأحزاب والتنظيمات والشخصنة في الكثير من جوانبها، على حساب ما للقضية من بعد مذهبي واضح.

2 ـ تعرُّض رجالات العلم ورموز الطائفة، وفي مقدمتهم زعيم الحوزة العلمية في وقته السيد الخوئي (قدس سره الشريف) للكثير من صنوف المضايقة، ويمكن أن تحسب تلك الأمور في عدة أشكال وصور.

3 ـ الاستجوابات العشوائية، فما يكاد أحدٌ يخرج من درس إلا ويُستدعى ويستجوب، أو ينتهي من صلاة وراء السيد يوسف الحكيم (قدس سره) إلا ويستجوب. بل إن الاستخارة لدى رجل الدين، تكون مدعاة للاستجواب من المستخير، وما إن تجلس إلى جنب رجل دين، ولو صدفة، إلا وتحاسَب.

إن هذه الظاهرة خلقت حالة من الخوف والرعب في صفوف رجال الدين. ولم يستثن من تلك الإجراءات أصحاب الطبقة الأولى المتقدمة في الحوزة العلمية.

4 ـ إغلاق الديوانيات والمدارس التي يلتقي فيها أهل العلم والأدب والثقافة، ويتناولون في أروقتها الكثير من جوانب البحث. وبعض أصحاب تلك الديوانيات والمجالس (أو البرانيات باصطلاح أهل النجف) لم يعرف لهم أثر إلى يومنا هذا.

5 ـ التوقيف الإداري المسيس: فيكفي أن يدخل المرء طوامير السجون لتهمة عارضة بأنه يعمل لصالح جهة حزبية ما.

6 ـ مصادرة الكتب في المكتبات، وإغلاق المطابع، وتغييب مجموعة ممن يشار إليهم بالبنان في تحريك الجو العلمي من هذه الناحية، من قبيل الشهيد السيد الطالقاني والكثير من أمثاله.

7 ـ مداهمة البيوت والمدارس: فقد تفترق مع صاحبٍ عزيز عليك في أول المغرب، وهو في أحسن حال، ثم تسأل عنه بعد صلاة الصبح فلا تجد له عيناً ولا أثراً، وكان هذا عامل ضغط كبير على حوزة النجف.

8 ـ غرس بعض من يُسمَّون برجال الدين في الوسط الحوزوي داخل النجف، وهو ما تسبب في نفرة البعض ممن هم من أهل العلم ورواده، خوفاً على أنفسهم أو أهليهم أو من يلتقون به. وكان ذلك يجري وفق حسابات دقيقة إلى أبعد الحدود.

9 ـ توجه بعض أبناء الأسر العلمية الكبرى في النجف إلى الدراسة الأكاديمية على حساب الدراسة الحوزوية.

ولا بد هنا من وقفة بسيطة، وهي أن الحوزة العلمية إذا ما نهج المرء سبيلها الطبيعي، فهي المقدمة على غيرها من العلوم، لذا يفتي العلماء في مورد صرف الحق الشرعي أن القدر المتيقن فيما يستوجب براءة الذمة هو الصرف على الحوزات العلمية. ولو رجعت مع هذه الفتوى إلى الوراء، وتصفحت أقوال المراجع لاحقاً عن سالف، لوجدت أن المصب والنتيجة في هذا الاتجاه.

ويخطئ البعض عندما يتصور أن الحوزة العلمية ليست لديها القدرة على مجاراة الجامعات والكليات والمعاهد المطروحة اليوم، كما يخطئ من يتصور أن رجال الدين يقفون عن حدود معينة. وكلكم يعلم من خلال خطابي الواضح البين، أن رجل الدين إذا ما انطبق عليه العنوان انطباقاً دقيقاً، فإن له الصدارة والتقدم، وهذا لا يعني التقليل من دور الأكاديمي وأهميته في عطائه، ولكن في الأعم الأغلب أن الأكاديمي يقف عند نتيجة محددة، وهي تحصيل الوظيفة، وفي أحسن التقادير، أن يحصل على وظيفة أفضل منها، وعلى العكس من ذلك، فإن رجل الدين إذا ما أراد أن يتقدم فعليه أن يواصل مسيرته العلمية والتعليمية من المهد الحوزوي إلى أن يُشيَّع إلى اللحد. وهنا تكمن المفارقة بين الاثنين.

وربما يقول قائل: إن في الحوزة نتاجاً ضعيفاً، إلا أن هذا له أسبابه وعوامله التي نتعرض لها إن شاء الله في وقتها.

إن هذا التوجه المذكور من أبناء العوائل العلمية نحو الدراسة الأكاديمية أضعف بالنتيجة واقع تلك الأسر، حتى غابت المرجعية عن بعض البيوت، وانتقلت إلى بيوت أخرى، وانحسر العمق الفكري في بعض العوائل التي يشار إليها بالبنان لصالح عوائل أخرى. وهكذا الأمر في الجانب الأدبي والتحقيقي وغير ذلك من الأمور.

إن هذه الأمور دعت مجموعة كبيرة من رجال الدين من السقف العالي، وممن هم دونهم، إلى البحث عن ملاذ آمن، وكانت قم كما وعدت بها الروايات عنهم عليهم الصلاة والسلام، حيث أصبحت هي الملاذ المأمول.

فقد ورد عنهم عليهم السلام قولهم: «ستخلو كوفة من المؤمنين، ويأزر عنها العلم كما تأزر الحية في جحرها، ثم يظهر العلم ببلدة يقال لها قم، وتصير معدناً للعلم والفضل، حتى لا يبقى في الأرض مستضعف في الدين حتى المخدرات في الحجال، وذلك عند قرب ظهور قائمنا...»([4]).

ولما كانت النجف تعيش أوج العظمة وسيادة الموقف العلمي، فإنك عندما تتحدث مع البعض حول معطيات مثل هذا النص، فإنه يستبعد أن يحصل، أو على الأقل في القريب المنظور، ولكن من عاش رأى بعينيه، وأبصر ببصيرته، وشاء الله تعالى أن يحصل هذا، وبصورة سريعة. وقيض الله سبحانه وتعالى لسيد الأمة وإمامها (رضوان الله تعالى على روحه المقدسة) أن يحصل ذلك على يديه، مما يعطي دفعاً لهذه الحوزة، ففتحت فيها الأبواب على مصراعيها أمام طلاب العلم، بحيث أصبحت الأرقام أشبه بالخيال في من يتصور واقع الحوزة. ولو أجرينا مقارنة لاستطعنا القول: إن ما كان يُحصَّل في قرن من الزمان، بات يتحقق في عقد واحد. ولعل البعض لا يرضيه هذا الكلام، ويتحسس منه، لا لشيء، إلا لمفردة النجف، ومن منا لا يريد النجف أو يبخل بنفسه عليها؟ ولكن هذا أمر له حسابه، وذلك أمر آخر له حسابه أيضاً.

ولكي نطمئن أصحاب هذه النفوس نقول: كما أن العلم انتقل إلى قم المقدسة، فإنها وديعة لفترة من الزمن، ثم يعود العلم إلى مسجد الكوفة من جديد. يقول الإمام علي (ع) في إحدى خطبه من فوق منبر الكوفة، وهو يروي عن النبي (ص) أنه قال: «ليضربنكم على الدين عوداً، كما ضربتموهم عليه بدءاً»([5]).

وقد يقول قائل: ربما كان هذا في الماضي، إلا أن الأعاجم كانوا يأتون إلى الكوفة لتحصيل المعلومة، لا لتعليم القرآن، واليوم أصبحوا يحملون مشعل العلم والمعرفة في مدرسة أهل البيت (ع) وسوف يعودون إلى مسجد الكوفة وظهرها (النجف) ليعلموا العرب معالم دينهم.

ولو لم يزحف كبار العلماء وقتئذٍ من النجف، وهم المجتهدون والمراجع، الذين مضى منهم من مضى، كالسيد المرعشي والسيد الكلبايكاني والهاشمي الآملي والخونساري والشيخ اللنكراني والشيخ جواد التبريزي والسيد الروحاني وجماعة، لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه اليوم.

إن البعض ربما يتحسس حتى من أبناء مدرسة قم لمجرد أنهم درسوا في قم، وهذا ليس بصحيح، لأن قم المقدسة وسام شرف، ومن لا يتشرف بها فلا شرف له، ومن يتنكر لها فكأنما  تنكر لأصله. ففي الحديث الشريف عنهم (ع): «قم عش آل محمد، ومأوى شيعتهم»([6]).

إن العلم لا يعترف بالمكان، إنما يعترف بقدر ما تعطيه من جهدك، فإن أعطيته كلك أعطاك بعضه، ومن يحاول أن يقلل من قيمة قم، فإنه ينسى أنه يوجه نقداً للنجف أولاً، لأنها صنيعة النجف، ولا تكاد تضع يدك على رأس فقيه أو أصولي أو مفسر أو رجالي في هذه الفترة، إلا وتجد أنه خريج النجف، فمدحنا لقم إنما هو مدح لها وللنجف.

وقفة مع شهر محرم الحرام:

إننا نقف الآن على أبواب محرم الحرام، ولا بد من الإشارة في هذا الجانب إلى كربلاء وعاشوراء والحسين (ع) وهي القضية التي لا يمكن أن يتخلى عنها الموالي تحت أي ظرف من الظروف. يقول الإمام علي (ع): «لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت الدنيا بجمّاتها على المنافق على أن يحبني ما أحبني، وذلك أنه قُضيَ فانقضى على لسان النبي الأمي (ص) أنه قال: يا علي لا يبغضك مؤمن، ولا يحبك منافق»([7]).

إنها معادلة دقيقة صاغها سيد البلغاء وصنيعة النبي (ص) وهي معادلة غير قابلة للتغيير.

ومما أود التنبيه عليه في هذا الصدد، أنه لا توجد قراءة في هذا الجامع في شهر محرم، ونسأل الله تعالى أن يكون ذلك في السنة القادمة إن شاء الله. ويمكن الاستفادة من الحسينيات والجوامع في هذا الجانب.

والأمر الثاني: التأكيد على المشاركة في مراسم عاشوراء وصفر، لما لهما من أثر مباشر على حياة الإنسان المؤمن، وفيهما من الدروس ما لا يخفى.

والأمر الثالث: التزام الهدوء التام، لأن المرحلة حساسة وخطيرة وفيها تجاذبات، ونحن لا نرى من ذلك إلا الظاهر، أما العمق فهو مغيب عنا في كثير من الحالات، فعلينا أن نعيش المرحلة بما يتماشى وحيثياتها، حتى لا نغرق ونُغرق الآخرين معنا، ولا نضيع ونُضيع النشء من حولنا.

والأمر الرابع: لا بد من اختيار الخطيب الجيد القادر على إيصال رسالة المنبر الحسيني للناس، فالحسين (ع) لم يضحِّ من أجل الدنيا لكي نهتم نحن بالأمور المادية من الطعام والشراب في هذا الشهر، صحيح أن هذه الأمور فيها بركة، ولها الأثر في نشأة وتكوّن أبنائنا، سواء الخَلقي أم الخُلقي، إلا أنها ليست الغاية الأولى.

ومع احترامنا للخطباء جميعاً، فإنهم على ما يقدمون، إلا أن البعض منهم لا يتماشى وحدود المرحلة، فالشباب اليوم ما عادوا كما كانوا بالأمس، فربما يتحدث الخطيب بالأمس فلا يحاسب على رواية فيها من الوضع والدس والتحريف والكذب الشيء الكثير، وفيها من الكرامات المختلقة التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يساعد عليها الوضع ببرهان، أما اليوم فإن العالم يعيش طفرة علمية في جميع جوانبه، ونحن أولى أن نركب هذه السفينة، لأن مدينة العلم هي مدينة محمد وآل محمد، فإذا كنا حريصين على أن نستفيد من عاشواء، فهذا هو عاشوراء، بأدبياته وسلوكياته ومفرداته ومعلوماته وما إلى ذلك.

ومن ثم ينبغي أن ننتقي الخطيب لا على أساس من التردد في ذبذبات صوته، وإن كان هذا من حق المستمع أيضاً، ولكنه ليس الهدف الأساس، إنما الهدف الأساس هو ما نخرج به من حصيلة بعد خروجنا من الحسينية، فعندما يذهب الشاب إلى الحسينية فعليه أن يفرغ نفسه، ويجدول برنامجه كما يجدول أيام الامتحانات في المدرسة، فيبحث عن الخطباء أصحاب الثقل، القادرين على العطاء.

وبتصوري الخاص ـ ولعله تصور قاصر ـ أن المنبر اليوم لا يلبي حاجيات شبابنا، ولا يحقق طموحهم، بل ربما أكثر من ذلك، بحيث إن البعض يمارس شيئاً من التعسف إصراراً على منهجية ورثها ممن تقدمه، وعندما أقول هذا الكلام فإنني لا أجعل الأولياء على الحسينيات والمساجد بمنأىً عن هذا، فهم يتحملون جزءاً كبيراً من المسؤولية، وعلى الولي أن يرجع إلى الجمهور، لأن الحسينية لا تتحرك أصلاً إلا بجيوب الجماهير، والقليل من الحسينيات ينفق عليها من جيب الولي، بل قد تكون الحسينية هي التي تنفق على الولي نفسه. لذا يفترض أن يرجع الولي إلى الجمهور، فيأخذ رأيهم بالخطيب بعد انتهاء الموسم، وهل يمكن الاستفادة منه مرة أخرى في السنة القادمة أو لا؟ وهذه الأمور لا مجاملة فيها، إنما المصلحة هي الخدمة الحسينية، فإن اقتضت تغيير الخطيب فلا بد أن يغيَّر.

إن ولي الحسينية اليوم ينبغي أن لا يكون على ما كان عليه الولي قبل سنين، ففي السابق كان من الممكن للولي أن يسيّر الجمهور بعقلية وذهنية الثمانين سنة من عمره، أما اليوم فلا مجال لهذا الكلام.

والشباب كذلك، يتحملون مسؤولية في هذا الجانب، وهي عدم ترك الخطيب يبحر في فضاءات لا يهتدي طرقها، فإن رأينا الخطيب لا يستطيع الاقتراب من مساحة آية أو رواية بالشكل المطلوب في استكشاف مداليلها، فلا بد أن نضع حداً لذلك، وينبغي مناقشة الخطيب، وجعله يسير في حدود الإمكانيات، ومطالبته بمراجع ومصادر ما يطرح من روايات أو أقوال، ولا يكفي في هذا الباب الادعاءات غير المستدل عليها، ونقل الأقوال بلا سند، أو القول إن الخطيب سمع الكلام من المرجع الفلاني، فهذا الكلام لا يقدم ولا يؤخر، وفيه من الاستعراضية الشيء الكثير، ولكن على حساب الحقيقة.

فمن أراد الحديث من فوق المنبر الحسيني فلا بد له من استحضار الدليل الناضج والمصدر الدقيق، لكي يكون حاضراً للرد والإجابة، سواء في مجال السؤال من الجهة الرسمية أم السؤال من الجمهور، ولم تعد المرحلة اليوم تتحمل أن تكون خبط عشواء، إنما تتطلب الدقة والتأمل والنظر والحسابات، ولا يمكن أن يُخلّى بين خطيب المنبر ونفسه، فليس هو وحده اليوم في الساحة لكي يترك هكذا.

إننا اليوم في فضاء مفتوح، ولا نتكلم في أماكن مغلقة، ففي الأسبوع الماضي اتصل بي أحد الأشخاص من الرياض بعد خروجي من المسجد، وكان قد سمع الخطبة بكاملها قبل تحميلها في الموقع، وكان مهتماً بها، وهذا يحتم علينا طرح الكلام المسؤول الدقيق المستند إلى الأدلة والمصادر. وعلى الخطيب في كلامه أن يعي دقة الموقف، وأن وراءه طائفة وليس هو بمفرده في الساحة.

من هنا فإنني أذكّر الشباب مرة أخرى بالهدوء، وعدم ترك الخطباء يخبطون خبط عشواء، وعدم ترك أولياء الحسينيات يعبثون بمقدرات الوقف، لأنها منحة الإمام الحسين (ع) لآحاد الأمة.

إن هذا هو نبض الشارع، ونحن منهم وإليهم، فنحن لا نملك صحيفة ولا مجلة ولا قناة ولا أية وسيلة لإيصال صوتنا سوى المسجد والمنبر الحسيني، فإن لم نلامس واقع الناس ومشاكلهم وقضاياهم، فلا نكون منهم.

نسأل الله تعالى أن ينفعنا بالحسين (ع) وخطباء منبره الشريف الذين نذروا أنفسهم لتحمل المسؤولية أمام الحسين (ع) فإن هؤلاء الخطباء سوف يقفون يوم القيامة أمام سيدهم الحسين (ع) .

لقد قفز الشيخ الوائلي (رحمه الله) بالمنبر قفزة نوعية، بحيث كان طلاب الجامعة في بغداد يسافرون إلى النجف لحضور مجلسه والرجوع إلى بغداد، وهذا لم يأت من فراغ. ونحن اليوم بحاجة إلى خطباء يستحقون أن نشد الرحال إليهم، ولا يضر أن يكون أحدهم في قرية أو مدينة. وشد الرحال لحضور المجلس الحسيني دليل على تميز المنبر.

أسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.