نص خطبة:خصائص التشريع الإسلامي الأصيل ـ 3
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
عظم الله أجورنا وأجوركم بإمامنا التاسع الإمام الجواد (ع) باب المراد، ورزقنا الله وإياكم زيارته والشفاعة على يديه ونيل المطالب في الدنيا.
الإمام الجواد (ع) في خضم الصراع الفكري:
قال الإمام الجواد (ع): «عليكم بطلب العلم فإن طلبه فريضة والبحث عنه نافلة وهو صلةٌ بين الإخوان، ودليل على المروءة، وتحفة في المجالس، وصاحبٌ في السفر، وأُنس في الغربة»([2]).
وعن الإمام الرضا (ع) وقد جيء له بولده الإمام الجواد (ع) قال: «هذا المولود الذي لم يولد مولودٌ أعظم بركةً على شيعتنا منه»([3]). وفي نص آخر: «هذا المولود الذي لم يولد في الإسلام مثله مولود أعظم بركة على شيعتنا منه»([4]).
في زمن الإمام الجواد (ع) اشتد الصراع الفكري بين أتباع الطوائف والملل والنحل، وساعد على هذا الوضع النقلة الثقافية التي أحدثها الخليفة العباسي المأمون جراء ما قام به من دور كبير في ترجمة النصوص من الديانات والمذاهب والملل والنحل الأخرى، وهي حركة جديدة على الواقع الفكري بين أبناء مدرسة الإسلام. ومن الطبيعي أن يكون الأمر كذلك في كل أمة عاشت وضعاً معيناً تتقلب بين جنبات موروث أُحكمت قواعده وسُدّت المنافذ في وجه ما هو دخيل، على الأقل ما كان في عقلية أولئك الذين يعيشون مثل ذلك الواقع.
والأمة الإسلامية ليست بدعاً بين الأمم فقد ألفت موروثاً كبيراً، ولسنا في صدد محاكمة هذا الموروث، وأنّى للإنسان أن يحاكم والأرضية لما تستحكم بعدُ، حيث السلائق والطرق والأهواء والرغبات والجدية في الأمر تختلف من مكان إلى مكان وفق ما تلقفته تلك الجماعات التي تربت على نسق معين. لذلك لا غرابة أن يتشبث كل إنسان مذهبي بالمذهب الذي ينتمي إليه، لأنه لا يرى إلا الوجه المشرق فيه، أما الصفحات التي ربما تستوجب منه الوقوف الطويل والتأمل والمحاكمة، فلا يكلف نفسه في اتجاهها عناءً يذكر.
فقد مرت المسيحية في أكثر من محطة صراع فكري حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، مما هو مسوَّق له في أوساط بني البشر بغض النظر عما هو مستور عن سائر الناس على هذا الكوكب. واليهودية كذلك، وإن بدا في ظاهرها التوحّد، إلا أنها أيضاً طرق ومسالك، فهناك جناح متطرف وآخر معتدل وهكذا. وهكذا الحال في المسلمين، فقد ورد في الحديث أن هذه الأمة ستفترق كما افترقت سابقاتها من الأمم، وها نحن نرى أن المذهب الفلاني يفترق إلى فرق واتجاهات، ثم تتشعب هذه بدورها إلى فروع وهكذا.
من هنا نقول: إن بعض الأسماء الشاغلة للساحة اليوم، ربما تتحول إلى صنمية في ذهنية البعض بحيث تشكل طرقاً ومناهج ومسالك، ثم مذاهب. وهذا غير مستبعد، خصوصاً إذا وجد من يغذي ويحرك ويدفع العجلة للأمام.
فالإمام الجواد (ع) في تلك الحقبة الزمنية التي آلت له فيها مقاليد الإمامة الفعلية بعد شهادة والده الإمام الرضا (ع) مسموماً مظلوماً، وجد نفسه أمام هذه التقاطعات الكثيرة، وأثير أمامه الكثير من الشغب من الداخل والخارج، وما يحصل اليوم في الساحة ما هو إلا ارتدادات لذلك الواقع، من عدم حسن القراءة والتعامل مع ذلك الواقع، وما يراد له اليوم أن يكون واقعاً ثابتاً في وسط الجماهير المؤمنة.
النبوغ العلمي:
ومن المعلوم أن الإمام الجواد (ع) تقلد مقام الإمامة في السابعة من عمره، ولست بصدد أن أستدل بآيات من القرآن الكريم على إمكانية ذلك، فهي موجودة وواضحة، يفهم منطوقها ومدلولها حتى الأعرابي، ناهيك عمن يدعي علماً أو ثقافةً أو وعياً أو فكراً. إلا أنني اخترت طريقاً مختصراً يرفع عنا غائلة الإشكال في مسألة العمر. فنحن نعرف أن كون الإنسان صغيراً أو كبيراً لا يقدم ولا يؤخر، فأحمد بن الإمام الحسن (ع) خرج من طاحونة الطف وكان عمره أربعة عشر عاماً، وكان جريحاً، وسار في ركاب الأسر إلى الشام، وفي محضر يزيد بن معاوية طلب يزيد من أحمد بن الحسن أن يقف فوقف، فقال له: ادنُ واجلس، فقال له: أجلس من حيث أنا أم من حيث أنت؟ وهذه العبارة يطلقها هذا الشاب أمام من يراد له أن يكون خليفة المسلمين. فقال له يزيد: بل اجلس من حيث أنت. وهو من بيت النبوة، أبوه السبط الأول، وعمه السبط الثاني، ورئيسة الركب زينب عمته، والإمام المفترض الطاعة وهو السجاد (ع) معه. فصار يدنو حتى زاحم يزيد برجله، فقال له: ما وراءك؟ قال: ظننتك تقوم من محلك وتجلسني مكانك.
فالقضية لا تتعلق بالعمر، وكم ممن طعنوا في العمر، فلم تكن النتيجة كما هو مطلوب. وفي الحديث الشريف: «المرء بأصغريه: بقلبه ولسانه»([5])، أي بما يحمل من نقاء وطهر وقدرة على البيان وإيصال المعلومة، أما طوله وعرض منكبيه واندحاق بطنه فلا قيمة لها. ومن الغريب أن البعض عندما يريد أن يؤرخ لفلان من الناس فإنه يبدأ بأوصافه هذه، فيما يغفل عن عقله وهمته.
إن المأمون العباسي أراد أن يزوج ابنته أم الفضل للإمام الجواد (ع) فلامه من لامه على ذلك من العباسيين، بأنه يريد تزويج ابنته لغلام. والمأمون كان يمتاز على سائر الخلفاء من الأمويين والعباسيين بصفة الثقافة، بغض النظر عما له وما عليه، فهو رجل مثقف بدرجة عالية، بدليل أنه في مجالس المناظرة لا يدخل طرفاً، إنما يدخل لإثارة واستثارة الحضور، أي أنه يلعب دور المحكّم الموجِّه الحوار الأطراف التي يريد أن يستقطع من وجودها.
فلما لامه العباسيون على ذلك قال: وأما أبو جعفر محمد بن علي فقد اخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل في العلم والفضل مع صغر سنه، والأعجوبة فيه بذلك، وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه فيعلموا أن الرأي ما رأيت فيه([6]).
ويقول محمد بن طلحة الشافعي: هذا أبو جعفر محمد الثاني، فإنه تقدم في آبائه عليهم السلام) أبو جعفر محمد، وهو الباقر بن علي، فجاء هذا باسمه وكنيته واسم أبيه، فعرف بأبي جعفر الثاني، وهو وإن كان صغير السن فهو كبير القدر رفيع الذكر([7]).
فالميزان والمدار على ما يحمله الإنسان في داخله من علم ووعي وأدب وشرف ونبل وكرامة وإباء وغير ذلك.
ولو أنك فتشت في جميع مساحات الفكر، والقراءات حول الشخصيات في العالم أجمع، فلن تجد شخصية يجمع المؤالف والمخالف على أنها شخصية مميزة في ذاتها إلا هذه الكوكبة النورانية، ولن تجد لها مثيلاً في المذاهب والمدارس المختلفة. فلو سألت واحداً من أئمة المذاهب الأربعة عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) فمن المستحيل أن تجد لديهم علامة استفهام، بل لا تجد سوى كلمات الثناء والإكبار، في الوقت الذي يضعون الكثير من علامات الاستفهام على أئمة مذاهبهم وأصحابهم. ولو أردت أن أسرد مجموعة من المقالات في الإمام الجواد (ع) لطال بنا المقام، وهي من أناس لامسوا حدّ النصب والعداء لأهل البيت (ع) إلا أنهم لم يستطيعوا أن يغمزوا في الإمام الجواد (ع) كشأن آبائه وأبنائه المعصومين، الذين يمثلون صفحة من النقاء والصفاء، لأنهم صنعة الله.
متطلبات فقه المرحلة:
بالعودة إلى حديثنا السابق حول خصائص التشريع الإسلامي أقول: إن حاجتنا اليوم ماسة جداً لفقه المرحلة، وهو يحتم علينا الكثير من الأشياء، فهنالك ما يسوجب أن ننتقل من مرحلة الفقه التقليدي إلى فقه المرحلة، فالفقه التقليدي فقه محترم يؤمّن لنا صمام أمان ونلوذ به عند الحاجة، ولكن لا يمكن لنا أن نستسلم في بعض المواطن إذا شكل حاجزاً وحاجباً دون الوصول إلى حاجيات الناس. ولنا في أئمتنا (ع) أسوة حسنة، فلو راجعنا موروثهم لوجدنا أن الإمام الصادق (ع) مثلاً تحرك في مساحات لم تكن متاحة للإمام علي بن الحسين (ع).
فالمرحلة مؤثرة، وانعكاسها على المسار الفقهي واضح وبين. فلم لا نسير اليوم على ذات النهج والطريق، فالناس يعيشون أجواء لم تكن كما كانت، وذلك لأسباب عديدة، منها:
1 ـ تطور أنماط الحياة العامة بين الناس: فحياة الفرد اليوم لم تعد كما كانت في زمن الأبوين، إنما تغيرت إلى نمط جديد، وأنماط العيش تنعكس على سلوك الإنسان وتصرفاته، بل حتى الأمور الكمالية لها ما لها من الإسقاط على حياة الإنسان، وهذه كلها تولد الحاجة للحكم الشرعي، ولا يمكن أن نرفع لافتة طويلة عريضة بالحرام، لينفر الناس بعدها ويخرجون من دين الله أفواجاً بعد أن دخلوه أفواجاً.
إننا لا نبحث عن تحليل المحرّم لكن مساحة الأصل الأولى وهي الحلية ينبغي أن تترك لها القدرة على الحراك في أكثر من مساحة ومساحة ليستقر الناس ويعرفون ما هم قادمون عليه.
انظر إلى تلك الجماعة التي ترى أن الأصل في الأشياء الحرمة وليس الإباحة، على خلاف ما هو المجمع عليه، كيف أن حياتهم تتراجع بل لا يقرأ لها أمل في الأفق، وسوف تأكل نفسها في يوم من الأيام، وما يحصل اليوم هو جزء من دفع الضرائب لذلك الوضع، لأن ما بني على مقدمات فاسدة مآله إلى الفساد.
2 ـ القفزة النوعية الكبرى في المعلومات وسرعة الوصول إليها: فأنت بالأمس لا تستطيع أن تصل للمعلومة بهذه السرعة العجيبة، فإذا أراد الفقيه بالأمس أن يستدل على مطلب من المطالب فإنه يحتاج ليوم كامل للبحث في الوريقات الصفراء والكتب البالية التي تصارعه عليها أقدام العثّة متنقلة من سطر إلى سطر، أما اليوم فبلمسة زر واحد يجد عشرات المصادر والروايات والأقول والنتائج المستخلصة. فلا يستطيع الفقيه اليوم ومن يتحرك في مساحة الفقاهة أن يضع يداً على يد، ولا يحركها إلا عند أشد الحاجة مساساً.
المبادرة والتعامل الإيجابي:
يصف الإمام أمير المؤمنين (ع) رسول الله (ص) بقوله: «كان طبيباً دواراً بطبه قد أحكم مراهمه»([8]). وليس هناك من هو أعظم من الرسول (ص) منذ بدء الخليقة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، لكنه كان يتحرك في الأوساط، ويتنقل من شعب إلى شعب ومن وادٍ إلى وادٍ وينفتح على كل من يدخل المدينة المنورة.
فلما جاء وفد نجران مثلاً خرج النبي (ص) لاستقبالهم، وفي رواية أخرى أنهم نزلوا في مسجد رسول الله (ص) فخرج إليهم، ولم ينتظرهم حتى يطرقوا عليه الباب. أما اليوم فتجد أمامك الكثير من الحجّاب والحرس، وينبغي أن لا يمتعض أحد من هذا الكلام، لأنه يعبر عن واقع مر. فهناك من رجال الدين مثلاً إذا أردت أن تسأله مسألة فعليك أن تبيع ماء وجهك، فهل هذه سيرة النبي (ص) وآله (ع)؟
والله ما رجل الدين إلا خادم نذر نفسه لأبناء مجتمعه وأمته، ومتى ما تخلى عن ذلك فهو خائن، وأنتن رائحة تُشم في نار جهنم يوم القيامة هي القيح الخارج من أفواه العلماء الذين لا يحكمون بحكم الله، ولا يؤدون الرسالة.
3 ـ تقاطع العلوم واشتراكها: إذ نجد التقاطعات الكثيرة بين كافة العلوم اللاهوتية من جهة، والناسوتية من جهة أخرى، وفي ما هو المشترك بينهما، جراء قرب المسافات بين الشعوب والأمم، فبالأمس لا ندري ماذا يحدث في أوربا، أما اليوم بمجرد أن تفتح عينيك من النوم، وقبل أن تقول: لا إله إلا الله، تسمع وترى كل ما يجري في هذه الدنيا.
كان آباؤنا يستيقظون مبكرين قبل الفجر يهللون ويسبحون ويكبرون ثم يصلون الفجر ويذهبون إلى أعمالهم، أما اليوم فصرنا نسهر حتى الصباح، وليت هذا السهر كان فيما ينفعنا في حياتنا، من ترتيب أوضاعنا المعاشية أو تنظيم علاقاتنا أو غير ذلك من المنافع، بل الحاصل هو العكس من المشاكل والشجارات بسبب السهر، لأن السهران نصف سكران.
أيها الشباب: صحيح أن رجل الدين بالأمس عليه مسؤولية كبيرة، إلا أنه جاء الوقت الذي يجب أن تتحملوا فيه المسؤولية بشكل أكبر، ولا تعبأوا بمن يريد أن يلغي وجودكم، لأن ذلك غير ممكن، فهناك من الشباب من لديه ثقافة ووعي ومتابعة أكثر من رجل الدين. فعليكم أن تقرأوا وتدققوا وتراجعوا، وأن تحفظوا موازين الأدب بينكم وبين علمائكم وغيرهم، إلا أن الأدب يجب أن لا يمنع من السؤال.
كان الإمام الجواد (ع) يستقبل الكثير من الأسئلة، ومن الطبيعي أن بعض الناس يسأل، وبعضهم يُنكر، وهكذا.
كان أحد أصحاب الإمام الجواد (ع) وهو من أصحاب الإمام الرضا (ع) أيضاً يحاول أن يغمز من قناة الإمام، فراح يسأله أسئلة استنكارية أو اختبارية وما أشبهها. سأله ذات يوم: أكفرت؟ فقال الإمام الجواد (ع): هوّن عليك. ثم قابله بأسلوب الرأفة والمحبة التي كان يتصف بها جده رسول الله (ص) وكذلك الرغبة في السلامة والسعادة لجميع الناس، والعلم والمعرفة المربوطة بالله تعالى، وتسلسل معه في الإجابات، حتى أصبح هذا الرجل من أبرز أصحابه وحملة حديثه والراوين عنه. فلو أنه قابله بما نقابل الناس به اليوم لما استطاع أن يجعل منه عنصراً نافعاً.
نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.