نص خطبة:خصائص التشريع الإسلامي الأصيل (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
﴿ وَمَا كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون﴾([2]).
ضرورة التشريع الإلهي:
التشريع من المهام الكبرى التي سعى الأنبياء والرسل من قبل الله تعالى في نظم أمرها كي تنتظم وفقاً لذلك شؤون الناس. فالناس يختلفون فيما بينهم في مذاقاتهم ومشاربهم ورغباتهم حتى تصل النوبة إلى الأهواء.
فلو أردنا أن نقرأ التاريخ على أساس الافتراض، فما كان عسى أن تكون النتائج لو أن الله سبحانه وتعالى لم يبعث الأنبياء والرسل؟ أو أن الوحي لم ينزل،وبقي محجوباً في العالم العلوي، ولم يتحرك بين بني البشر على وجه هذا الكوكب؟ فما عسى أن يكون حال البشرية بشكل عام لو أن ذلك لم يحدث؟
وهل من الممكن أن نقول: إن البشرية لم تكن محتاجة للتشريعات في سيرها؟ أعتقد أنه من السذاجة بمكان أن يعطي الإنسان حكماً بعدم حاجتها لذلك، لأن البشرية مع تتابع الأنبياء والرسل، وهبوط الملائكة بالوحي وحركة الوحي في أوساط الأمة من خلال القوانين الممضاة، نرى حالها كما نراه اليوم.
لقد ظن الإنسان أنه يستطيع أن يلعب دور البديل عن الله عز وجل، فيجعل من نفسه مشرعاً مقنناً، ولا نعلم ما هي حجته في ذلك، هل لأنه من أبناء الصنف فيكون الأقرب والأعرف بحاجيات أبناء صنفه؟ إذا كان ذلك كذلك فإن خالق هذا الكون أدرى، أي أن الملاك إذا كان من حيث هذه الجهة فهو لله أقرب.
لقد نزل القرآن الكريم على قلب النبي الأعظم محمد (ص) من قبل الروح الأمين، ليكون الدستور الخاتم للدساتير المنزلة إلى الأرض. وبواسطة الأنبياء والرسل وصلت تلك الدساتير إلى عالم البشرية، فكانت حلقة الوصل بين عالمين. إلا أن القرآن الكريم ـ مع شديد الأسف ـ لم يحظ بالعناية الكافية إلى يومنا هذا، إنما بقي في دوائر معلومة ومحسوبة، ولو أن عطاءها أكثر مما هو عليه فيما سبقه من الكتب.
القرآن في نظر علي (ع):
لقد ورد في النصوص الشريفة أن القرآن: «حمال ذو وجوه»([3])، أي أنه ليس بإمكانك أن تحمله على وجه ثم تقول: ليس وراء ذلك شيء.
هذا هو الإمام أمير المؤمنين علي (ع) يقرب لنا القرآن الكريم من خلال كلامه في نهج البلاغة، ويضع يده على مجموعة من الاتجاهات، منطلقها ومعينها ونبعها الذي تستقي منه هو القرآن الكريم.
يقول (ع): «جعله الله رِيّاً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء، ومحاجَّ لطرق الصلحاء، ودواءً ليس بعده داء، ونوراً ليس معه ظلمة، وحبلاً وثيقاً عروته، ومعقِلاً منيعاً ذِروته، وعزاً لمن تولاه، وسلماً لمن دخله، وهدى لمن ائتم به، وعذراً لمن انتحله، وبرهاناً لمن تكلم به، وشاهداً لمن خاصم به، وفَلْجاً لمن حاج به، وحاملاً لمن حمله، ومطية لمن أعمله، وآية لمن توسَّم، وجُنّةً لمن استلأم، وعلماً لمن وعى، وحديثاً لمن روى، وحُكْماً لمن قضى»([4]).
وبطبيعة الحال حيث إن الخطاب سماوي، فقد نزل بالتدريج على قلب النبي (ص) وقد تلاه على المسلمين منجَّماً، وأخذه المسلمون فحفظوه واستظهروه، إلا أنهم لم يسبروا الغور والأهداف، بل الأكثر من ذلك أن حلّت الطامة الكبرى عندما افترق المسلمون فيما بينهم على أساس سبب النزول مما جعل الآيات توضع في غير موضعها، ويؤخذ في تفسير نزولها وسبب نزولها الكثير من الظن البعيد عن القطع، حال أن من يمكن الرجوع إليه للقطع في المدعى هو النبي الأعظم (ص) وكانوا يعيشون وجوده في أوساطهم. ولكن لا أعلم ماذا أقول؟ هل كان من تعاسة الحظ لهذه الأمة أن يُستهلك ذلك العمر والفترة القصيرة للرسالة في أمور لم تكن لها الأولوية؟ فلو أن تلك الفترة استهلكت في جوانب أخرى أهم لكان الحال أفضل مما هو عليه بكثير.
فمثلاً تجد أن في أسئلة بعضهم ما لا يرتقي لمستوى ذهنية طفل، ناهيك عمن سمع الوحي من خلال واسطة واحدة، وهو النبي (ص). فهل أنهم لم يحركوا عقولهم؟ أم أنهم لم يكونوا يمتلكون عقولاً تتماشى وقوة النص؟ أو لحاجة في نفس يعقوب قضاها؟ أم هنالك شيء آخر؟
في كل الأحوال أن من دفع الثمن باهضاً هو من جاء بعدهم من المسلمين في العصور الآتية، فهؤلاء باتوا يعيشون الواقع المر الصعب، بحيث تجد ما يمكن أن يُلتمس من القرآن الكريم دليلاً على تبرير قتل في وضح النهار، لا لشيء إلا لأن القائل به صحابي، والعكس صحيح أيضاً، لأن صحابياً اتخذ موقفاً في اتجاه آخر. وإلا ما عسى أن يبرَّر ما حصل في طاحونة الجمل مثلاً، أو ما حصل في صفين، وما ترتب عليه من آثار في النهروان؟ وما عسى أن يبرر ما يقع في الأمة حتى يومنا هذا؟
إن ما يقع في الأمة هو عين ما وقع فيها من قبل، ولم يتبدل سوى المصاديق، أما العناوين فتراوح مكانها وتتنقل من مكان إلى آخر. وببذل جهد بسيط لربط الحاضر بالماضي يخلص أبسط الأفراد إلى نتيجة حتمية هي أن الأمة تجترّ تاريخها في أسوأ حال مما كانت عليه في منبثق التاريخ الإسلامي، فما هي إلا سنوات يسيرة حتى انحرفت البوصلة، وأي انحراف؟ كان استدباراً للوجهة الصحيحة، وكان من الطبيعي أن يفلت الزمام بعد ذلك وتصبح المشارب أكثر من أن تعدّ أو تحصى. والإمام أمير المؤمنين (ع) يضع يده على هذه الجزئية.
فالعالم الذي يرغب أن يشبع نهمه خارج دائرة المحور والارتكاز، وهو القرآن الكريم، فإنه يتحرك دون عاصم لفكره واستنباطه. أما إذا انطلق على أساس هذه المحورية فإن الأمور تختلف تماماً.
ثم يتقدم الإمام علي (ع) فيقول: «وربيعاً لقلوب الفقهاء» فهو يعطيهم المدد في حركة الفكر وإعمال العقل في الاستنباط والتفريع، وفي الجهة الثانية يؤمّن الأساس، وهو القلب: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»([5]). فهي إما أن تكون صفحة بيضاء صافية نقية، أو أن تكون سوداء مشوهة، فالذي يجلوها ويجعلها ربيعاً مخضراً هو القرآن الكريم، والفقهاء أولى بذلك. فما من حربٍ عادلة أو جائرة إلا وكان للفتوى فيها الحضور الأول. حتى الإمام علي (ع) نفسه قتل بفتوى، حيث عُقد الميثاق في بيت الله الحرام عند الكعبة المشرفة على أن يتم التخلص من الإمام علي (ع) حيث اجتمع ثلاثة نفر، توجه منهم اثنان إلى الشام للتخلص من معاوية وعمرو بن العاص، والآخر توجه باتجاه الكوفة للتخلص من علي (ع).
وقد يرى البعض أن التحرك باتجاه الشام كان تمويهاً، أما التحرك تجاه الكوفة فكان التحرك جدياً.
فالعالِم إذا استأنس بالقرآن فلا شك أن الربيع يأخذ مساحته الطبيعية من قلبه فينعكس على عطائه ومحبته. ولا أتصور أن فقيهاً تربع القرآن في قلبه وأشرقت جوانبه بأنوار القرآن ثم يعطي المسوّغ لسفك الدم.
ثم يقول (ع) في القرآن الكريم: «ومحاجّ لطرق الصلحاء» قد يتصور البعض أن فلاناً من الناس صالح، لأنه لا يترك الحج سنوياً مثلاً، ولا المشي لزيارة الأربعين كل سنة، ولا يترك صلاة الليل، يتصدق ويساعد الفقراء ولا يترك صلاة الجماعة حتى الفجر، فهذه أمارة الصلاح. لكن هذه جهة من جهات الصلاح، وهذه أعمال صالحة بلا شك، ولكن اسأل عن هذا الذي تعتقد أنه صالح في بيته وأسرته وعياله، ربما تجد أنه أقرب إلى جنكيزخان أو هولاكو أو غيرهما.
ثم يقول (ع): «ودواء ليس بعده داء» فهنالك مرض عضوي جسدي، مزمناً كان أو غير مزمن، وهناك أمراض نفسية، وهي الأشد فتكاً وإهلاكاً، وها نحن اليوم نجد الناس كيف تأخذهم الأهواء يميناً وشمالاً.
ومن أهم الفوارق بين الأمراض الجسدية والنفسية أن المريض بالمرض النفسي لا يعترف بمرضه، فتراه في أبسط الأمراض الجسدية يقيم الدنيا ولا يقعدها، بل حتى يستعطف هذا وذاك، ويشكو هنا وهناك، وتراه يعطّل أعماله وارتباطاته، إلا أنه لا يستطيع أن يعترف أنه مريض بالغرور أو الحسد أو الكذب أو عدم أداء الأمانة وعدم الصدق بالحديث وغير ذلك، بل لو أنك واجهته بشيء من ذلك لما أمنت على نفسك.
ثم يقول (ع): «ونوراً ليس بعده ظلمة» وليتك يا أمير المؤمنين تنظر حال الدنيا اليوم! فقد كنت تقول لمن كان في ذلك اليوم: «ملأتم قلبي قيحاً» فما عساك تقول اليوم؟ أنت الذي عشت مظلوماً، وقتلت مظلوماً.
أبرز خصائص التشريع الإسلامي:
فالتشريع الإسلامي له مقومات وأسس وخصائص، وليس أمراً فوضوياً، ويفترض بمن يتصدى للتشريع أن يكون متخصصاً، وليس الباب مفتوحاً لمن هب ودب. إننا لا ننكر أن الزمان والمكان والقضية كلها لها أثر في الحكم، إلا أن من يحدد ذلك لا بد أن يكون متخصصاً.
1 ـ السعة والشمول:
فمن أهم الخصائص في هذا الدين الحنيف السعة والشمول، وما من قضية إلا ولله فيها حكم، فإن كان هناك تقصير في سدّ بعض الفراغات فهذا ليس من أصل التشريع، إنما ممن يدير حركته، لذا يتمايز الفقهاء فيما بينهم بالعلم، فهناك فاضل وهنالك أفضل، وهناك عالم وهناك أعلم، وإن كان لديّ بعض التحفظ على هذه المصطلحات، لأن الأعلمية لا يمكن قياسها إذا لاحظنا الاختلاف في المباني، فقد يتبنى زيد مبنىً يختلف عما يتبناه عمرو في الاتجاه الثاني، وهذا حق مشروع، ولكن لمن له الدراية والتخصص.
وقد يسأل سائل: وهل تحجرون علينا أن نتكلم، فلا يتكلم إلا أهل الاختصاص؟ ولماذا لا يتكلم من كان له عقل؟ ولكن هل رأيتم أحداً أراد أن يبني بيتاً فأوكل الأمر لطبيب جراح؟ وهل رأيتم العكس، بأنّ مريضاً بحاجة لعملية جراحية في القلب أوكل الأمر لمهندس معماري؟ كل هذا يُسلَّم له من قبل الجميع فلا يناقش فيه أحد، إلا الفقه والعقيدة وما يتعلق بالدين، بدعوى أن الدين للجميع، لكن الله تعالى يقول: ﴿فَاسْأَلُوْا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُوْنَ﴾([6]).
فالسعة والشمول في الشريعة لتلبية الحاجات الملحّة، والأبصر بهذه الأمور يفترض أن يكون الفقيه الراشد. وقد أطلق الإمام الشهيد الصدر الأول (قدس سره) مصطلح المرجعية الرشيدة على هذا المقام الذي يعتبر فيه المرجع هو الأبصر في أمور الشريعة والأقدر على الاستنباط. ومع شديد الأسف أن هذه المفردة لا زالت غريبة في الحوزة العلمية منذ استشهاد الشهيد الصدر (قدس سره) حتى يومنا هذا، لأنها تقض بعض المضاجع وتبعثر بعض الأوراق.
2 ـ الدقة والعمق: وهذا ما يتجلى بوضوح في نتاج علمائنا، بحيث تمر الليالي والأيام على الفقيه وهو يقلب الصفحات ويغربل الأدلة، وفي النهاية يقف عند إشكال بسيط ليعود للمنطلق الأول في البحث. وهذا يدل على تقىً وورع وتعامل مع المطلق.
فهؤلاء هم الأمناء على الدين، ولا يمكن أن يؤتمن غيرهم عليه.
3 ـ القيمة العرفية في مساحات التطبيق العملي: وهي واحدة من الأمور المهمة في الشريعة. ولدينا بعض الفقهاء لا يحركون هذا البعد، لذا نجد أن مرجعيتهم خجولة لا تلبي حاجة الشارع، حتى يتحرك الشارع ويبدأ يضغط. فالعرف ـ أي القاعد الجماهيرية ـ لها قيمتها، فاليوم يختلف الوضع عما هو عليه في الماضي.
أكتفي بهذا القدر، وسوف أكمل في الأسبوع المقبل إن شاء الله.
نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.