نص خطبة: حياة النبي (ص) ومعطيات فلسفة التاريخ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
عن الإمام الباقر (ع) قال: «ما من شيء يُعبد الله به يوم الجمعة أحبَّ إليّ من الصلاة على محمد وآل محمد»([2]).
﴿مَا كَانَ حَدِيْثَاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيْقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيْلَ كُلِّ شَيءٍ وَهُدَىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُوْنَ﴾([3]).
مسيرة النور:
ذكرى العروج الملكوتي لأشرف وأقدس نفس عرفها الوجود، فالنبي الأعظم محمد (ص) بعد فصل طويل من الجهاد والاجتهاد في سبيل النهوض بواقع الإنسان بما هو إنسان إلى الدرجات العلا رحل إلى جوار ربه.
وفي هذه المسيرة الطويلة محطات كثيرة ينبغي أن يتوقف عندها المسلم طويلاً، ولو توقف المسلمون في هذه المحطات، وتعاطوا الأبعاد المرتبطة بها لما آل الحال بهم إلى ما هم عليه اليوم، إذ بات الحال أن لا يطيق الإنسان نفسه، ناهيك أن يطيق ويتحمل الآخر من حوله. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن فاصلة طويلة قد حدثت بين أبناء الأمة الإسلامية في صورة، وبين أبناء البشرية بشكل عام في صورة أوسع، فلم يأخذوا من هذه المدرسة وهذا المنبع إلا ما يؤمّن له بعض المكاسب هنا أو هناك.
إن حياة النبي (ص) تستوقفنا وينبغي أن نتوقف عندها، لا لأن النبي (ص) بحاجة لذلك، وإنما لأننا نحن في مسيس الحاجة له.
فمكان الولادة مكة المكرمة، المدينة المميزة، وسيدة المدن على وجه الأرض على الإطلاق، فقد كرمها القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وحفلت بالكثير من الأحداث وبصمات أولئك الذين بنوا آثاراً في الجانبين، المادي والمعنوي مكتوباً ومقروءاً. فهي إذن علامة امتياز.
كانت هذه المدينة في جانب من جوانبها قبلة الأنبياء والرسل. وفي بعض الروايات إشارة واضحة إلى أنه ما من نبي ولا رسول إلا وعرّج إلى مكة وطاف ببيتها. أما الكعبة الشريفة فهي محور الارتكاز الذي تحوم حوله ملائكة السماء، والطيبون من بين البشر على وجه الأرض.
في هذه المدينة العظيمة الجليلة المكرمة ولد النبي الأعظم (ص) وشعت أنواره المباركة، فهي مدينة الأنبياء والرسل، ومدينة البيت العتيق ومهبط الوحي الإلهي، ومدينة الأمن والسلام. إنها مكة، وكفى.
منزلة البيت الهاشمي:
أما بيته ومحتده وأصالته فتعود إلى هاشم، وهاشم سيد هذا البيت قبل أن يُتَوَّج بالشرف الأقدس المتمثل بشخص النبي محمد (ص). فخصائص هذا البيت قبل الإسلام وبعده تعطيه الريادة والتقدم والامتياز، لأنه لم يكن كغيره من سائر البيوتات، وإن علا شأنها وحُفظ لها مقامها، لكن هذا البيت الهاشمي كان يجمع الكثير من صفات الكمال، حتى يكون الوعاء الأقدس والموضع لهذا النور العظيم، ومبعثاً لإشراقات هذه الرسالة الخالدة الخاتمة.
بيتٌ له من الشرف ما لا يقاس به سواه، ليس ادعاءً، إنما الشواهد على ذلك كثيرة، فجميع البيوتات يمكن أن يُختلف عليها إلا بيت هاشم.
اصطفى الله النبي (ص) من هذا البيت وإن كان يحمل ما يحمل، لكن ذلك كله في كفة لا تؤمّن مساحة ما يكافئ ما في الكفة الثانية، إنما هو أثر ومضة إشراق النبي (ص) من عوالم الأنوار آنذاك، فكان انعكاسها يتمثل في عبد مناف وأبي طالب وعبد الله والكوكبة النيرة.
هذا البيت العظيم يقول فيه قائلهم، عندما يصل إلى عظمته، ويقايس بينه وبين سائر البيوتات:
قالوا أبو صقر من شيبان قلت لهم كلا لعمري ولكن منه شيبانُ
فكم أبٍ قد علا بابنٍ ذُرى شرفٍ كما علا برسول الله عدنانُ
فأن تكون الأصالة في التأسيس، ثم يحصل التشريف فهذه هي العظمة، وأي شرف؟ شرف الكمال والنور والقدس والخدمة الشريفة والرغبة الجادة في أن تصل الأمة إلى أرقى مراتب السعادة. ودونك التاريخ فتشه ظهراً لبطن، فلن تجد ضالتك إلا في ذات النبي الأعظم محمد ومن انحلّ عنه.
يتخاصم العرب فيما بينهم، ويعمدون لبيت هاشم وينتهي كل شيء، فتحقن الدماء وتصان الأعراض وتحفظ الأموال وتأمن الديار، وكان ذلك قبل الإسلام. وأما عند ظهور الإسلام على يد النبي (ص) فالأمر أوضح.
أما الرافد الثاني لهذا البيت فهو الإيمان بالرسالات السابقة، فالعرب في غالبيتهم تفرقوا مللاً، وتبعوا توجهاتٍ وطرقاً، لكن هذا البيت أبى إلا أن يتمسك بالأشرف من بين تلك الطرق، فكانت الحنيفية الإبراهيمية هي الديانة التي تمسكوا بها، وطبقوا المعطيات منها، وجاء الإسلام ليثبت مجموعة من تلك الأمور التي كان عليها هذا البيت تطبيقاً في الخارج.
وأما الرافد الثالث في شرف هذا البيت فهو التشريف بشرف النبوة، وهو شرف عظيم تمثل بالرسالة المتمثلة بالنبي الأعظم (ص) صاحب المناسبة، والوصاية والولاية والخلافة المتمثلة في علي (ع) وهو من النبي (ص) كنفسه بصريح القرآن.
إن القرآن الكريم يقدم لنا النبي الأعظم (ص) وعلينا أن نقترب من حياة النبي (ص) من خلال القرآن الكريم، فهو النمير المصفى الذي لا يكدره شيء، لأن السماء تكفلت بحفظه وصيانته، فالقرآن الكريم يقول: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ﴾([4]). وصفات النبي (ص) كثيرة، ولكن أيها الأحبة، ما أحوجنا إلى هذا الجانب وهذه الزاوية من حياة النبي (ص).
إنها مسألة تسير مع الأيام، وتتحرك في وجدان كل إنسان يعيش نبض ضمير صادق ويلتزم بما هو منتمٍ إليه من العقيدة الحقة المتمثلة بالإسلام الحنيف. وإذا أردت أن تسأل عن الخلق العظيم الذي جاءت السماء لتؤصل له وتجعل منه آيةً محكمة، فالجواب من النبي (ص) حيث يقول: «أدبني ربي فأحسن تأديبي»([5]). وعندما يُسأل المعصوم عن خلق النبي (ص) يقول: «كان رسول الله (ص) خلقه القرآن»([6]). هذا هو النبي (ص) في هذه الزاوية.
وقفة مع التاريخ:
ثم إن هنالك أحداثاً كثيرة صاحبت مولده أو تعقبته، وفي مسارات عدة. لكن التاريخ أيها الأحبة لا يرحم، لا لأنه تاريخ، وإنما لأن من صاغه وركّب جمله أوقعه في المحاذير الكثيرة، مما اضطر الأمة، والبشرية من ورائها، أن تدفع الكثير من الضرائب، فهنالك أرواح تم إزهاقها، وأعراض تم انتهاكها، وأموال تمت مصادرتها، وحريات كُبتت، لأن كل واحد يدعي أن التاريخ لصالحه، وأن ما وصله من التاريخ هو الذي ينبغي أن يكون حاكماً، والسيرة التي نقتدي بها، لكن نسي هؤلاء أن هنالك الكثير من علامات الاستفهام على التاريخ المكتوب الواصل إلينا، لأن العبث فيه لم يقف عند حدّ معين، إنما أخذ به لمسافات بعيدة، حتى تجد أن مجموعة من الأحداث التي وصلتنا لم يكن لها عينٌ ولا أثر إذا ما أُرجعت إلى واقعها التاريخي، من حيث الزمان والمكان والأفراد الذين لعبوا الدور فيها.
بل الأكثر من ذلك أن هنالك أحداثاً وقعت بالفعل من حيث الأصل، لكنها حُرفت وأُخذ بها إلى مسافات بعيدة لأهداف وغايات كثيرة، تم الإفصاح عن البعض منها والتعمية على البعض الآخر، حتى تجيء الأمة بعد ذلك وهي تتهجى تلك المفردات لا على هدىً، لأن ما تراكم من التاريخ ولّد قناعات خارجية لا علاقة لها بحقائق الأمور.
وإذا ما أردت أن تتدبر فابدأ من مولد النبي (ص) والأحداث التي صاحبته ولم تصل إلينا في معظمها إلا عبر طرق ملتوية، حتى غزوات ومعارك النبي (ص) وسراياه، كان فيها الكثير مما لم يكن، لكنه دُوِّن في التاريخ لغاية وحاجة في نفس يعقوب قضاها. وبعد ذلك وذاك الكثير.
إن التاريخ الصحيح إذا ما أردنا أن نقرأه، وإذا ما أردنا أيضاً أن نعيشه، وأن يُكتب لنا أيضاً في يوم من الأيام، فخير منهج هو المنهج الذي اتبعته السماء، من خلال السرد التاريخي للآيات الشريفة.
المنهج القرآني الصحيح في كتابة التاريخ:
كلنا نقرأ القرآن الكريم وهو يستعرض لنا أحداثاً، تتعلق بالأنبياء تارةً والأمم والأقوام تارةً أخرى. عن أهل الإيمان تارةً، والكفر والشرك تارةً أخرى، ولكن في حياة الجميع عِبَر لمن ألقى السمع وهو شهيد. وأما أولئك الذين لا يرغبون أن يكون لهم هذا الواقع فهم وما شاؤوا، وهم وشأنهم.
1 ـ تدوين الحقيقة:
إن أركان التاريخ الصحيح في مدرسة القرآن تبتني على دعائم عدة، منها على سبيل الاختصار أن القرآن يعمد إلى تدوين الحقيقة كأساس ينطلق منه في عرض الأحداث، وهنا تقع المفارقة أيها الأحبة، وهي أننا إذا أردنا أن نسرد قضية، فتارةً نسردها بما هي قصة، وتارة أننا نريد إضافتها إلى زيد من الناس أو عمرو، وتارة ثالثة نسردها من أجل إيجاد حالة من الضبابية عليها، وهذا واقع مرير ملغم في تاريخنا الإسلامي مع شديد الأسف.
فلو أن المسلمين التزموا بمعطيات المنهج القرآني، لما وقعوا فيما وقعوا فيه، لكنهم تنكبوا طريقه وأعرضوا عن منهجه، لذلك جاء التاريخ مزوّراً ومشوهاً. وقسم منه قبل أن تتحرك الحروف من خلال الحبر والقلم، كانت القوى الدافعة من ورائه عبارة عن أرصدة مكومة من الذهب والفضة، وباع رجالات كراماتهم وشرفهم وقيمة الحق والحقيقة بثمن بخس دراهم معدودة، لكن الضريبة ثقيلة، غابت عنهم أو غيبوها أو أسهموا في تغييبها، حتى وقعنا فيما وقعنا فيه اليوم: ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُوْنَ﴾([7]).
2 ـ اعتماد العلم والمعرفة:
والأمر الثاني الاعتماد على العلم والمعرفة في سرد الحديث، لا على التخمين والحدس، وإنما على أصول العلم، وذلك بأن أعمد للقضية فأحللها، وأرى هل تتوازن مع الواقع؟ أو لا تتوازن؟
وبمثال بسيط مما نعيشه اليوم وسيصبح تاريخاً في يوم من الأيام: نسمع إحصائية لزيارة الأربعين، بأنها بلغت 27 مليوناً، فلا بد أن نسأل قبل كل شيء: هل يخضع هذا الخبر للموازين العلمية؟ أو الدقة في الحسابات؟ هل هو تخمين وحدس؟ وما مصدر الخبر ونوعه؟
يقول ناقل الخبر مثلاً: حضر من قطر اثنان في المئة، فنسأل: كم هو عدد السكان في قطر؟ لنقل: إنه مئتان وخمسون ألفاً، فيكون المجموع خمسين ألفاً. فأي أسطول قطري نقل هؤلاء الزوار؟ وعلى هذه فقس ما سواها.
وتاريخنا الإسلامي يغيب عن دائرة العلم وأصوله في بعثرة الأحداث.
ففي كربلاء مثلاً، برز العباس (ع) وأراد أن يأتي بالماء من المشرعة للأطفال الذين يتضورون عطشاً، فلو قال قائل: إنه قتل بيده اليمنى سبعين ألفاً، ثم قُطعت فأخذ السيف باليسرى فقتل سبعين ألفاً، ثم احتضن السيف ـ ولا ندري كيف احتضنه بعد قطع يديه ـ وعض عليه بأسنانه وقتل سبعين ألفاً، فهذا الخبر لا يمكن الأخذ به.
ونحن في حياتنا اليوم نرى ما نرى بأم أعيننا ما يحدث من المبالغات، فلا نستغرب أن يكتب المؤرخ ما يكتب من هذا وأمثاله.
3 ـ ملاحظة حيثيات الحادثة وظروفها:
والأمر الثالث: مصاحبة الحدث بجميع حيثياته، فعندما أدرس قضية من القضايا فلا بد أن أقف على جميع الجوانب، ولا بد من تأمين الوصول إليه كي تأخذ القضية بعدها الحقيقي وتنكشف الرؤية.
ففي القضايا الجنائية كثيراً ما يصلون إلى المجرم من خلال أخفى الخيوط الموصلة إليه، وقد يسلكون هذا الطريق الموصل للحقيقة وإن طالت الفترة. وهذا ما ينبغي أن نتعامل بموجبه مع التاريخ.
4 ـ الموضوعية:
والأمر الرابع: التجرد من كل عامل دخيل مؤثر في صياغة النص، والعوامل في هذا الجانب كثيرة، منها القومية المقيتة، فالعربي عندما يكتب عن الأمة العربية ينسى كل شيء، ويتحرك بمكونه الداخلي، وكذلك الفارسي عندما يكتب فإنه لا يرى أمة على وجه الأرض إلا أمة الفرس. وعلى هذه فقس ما سواها.
فالقومية المقيتة أوردت الإنسان فيما أوردته فيه منذ القديم إلى اليوم، من حروب طاحنة، ونخشى أن يكون القادم أسوأ.
ومن تلك العوامل التي تضر بالموضوعية البعد الطائفي المتشدد، وهذه الحالة لا تختص بالمسلمين دون غيرهم، ودونك تاريخ المسيحيين، الذين طحنتهم الحروب وشردتهم ودمرتهم، ثم استيقظوا في النهضة الكبرى التي قادتها فرنسا، فتقدموا بمقدارٍ ما، مع تحفظي على بعض ذلك التقدم. لكن هذا المقدار من احترامهم أنفسهم يجعلهم في مقدمة الأمم. فقد أصبح اليوم أنموذج الإنسان المسلم الكامل ـ مع شديد الأسف ـ هو الإنسان الغربي، ورغبة الأمة المسلمة أن تكون كالأمة الغربية، وانفصلت عن عمقها وتاريخها وأصولها ومبادئها وقيمها، وقطعت كل أواصر التواصل مع محمد (ص) إلا من خلال الطقوسية المجردة من المحتوى، فالفرد المسلم يصلي، لكنه لا يدرك فلسفة الصلاة وشأنيتها. فلو أن الأمة المسلمة تصلي كما أراد لها النبي (ص) أن تصلي بأمر الله تعالى، لما وقعت في الفحشاء والمنكر، لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. فهنالك إذن فاصلة عميقة وهوّة سحيقة.
إن هذا البعد الطائفي ليس وليد اليوم، وليس مختصاً بنا نحن، فالأمة الإسلامية بعد وفاة الرسول الأعظم (ص) انفتحت فيها الصفحة الأولى، وصارت الصفحة تجر الأخرى، ودونكم كتب التاريخ، من الطبري إلى ابن الأثير في الكامل، إلى ابن كثير في البداية والنهاية، إلى سيرة ابن هشام، إلى غير ذلك من كتب التاريخ، تجد فيها الكثير من الكوارث مما حصل في حلب ومكة وبغداد وغيرها. ولم يكن هنالك نصراني أو يهودي، إنما كان المسلمون يذبح بعضهم بعضاً. هذه هي نتائج الطائفية المقيتة. وأحياناً ليست طائفية إنما مذهبية في داخل المذهب نفسه.
ثم إن العامل الطائفي المتشدد أورث الحزبية والتكتلات، والحمد لله أن بلادنا ليس فيها حزبية، ولكن فيها تكتلات، وهذه التكتلات قد تكون أحياناً أخطر من التحزبات. فالحراك الحزبي حراك تنظيمي يكون تحت المجهر مباشرةً، من قبل أجهزة الأمن في جميع الدول، أما التكتل فعادةً ما يكون بمنأىً عن هذه المراقبة اللصيقة، فتكون آثاره خطيرة، وأحياناً يكون تحت دائرة التوجيه فيكون أسهل استغلالاً من التنظيم الحزبي. لذلك نجد أن الضرائب التي تدفع اليوم ثقيلة، لأن هذه تكتلات مريضة ليست مبنية على أسس رصينة.
ومن تلك العوامل تسييس الأحداث، وهذا ما يغفل عنه الكثير منا، وهو أن كل ما يجري تحت تأثير دائرة واعية مدركة لها أجندتها تستطيع أن تحرك خيوط اللعبة في أكثر من اتجاه واتجاه، دون أن يشعر اللاعبون لأنهم أصبحوا واقعين تحت تأثير من يلعب بهم.
والأمر الأخير: الثقافة المنحرفة المشوهة، فدعاة الثقافة اليوم بعدد نجوم السماء، ولكنك لو غربلتهم لما حصلت على شيء يُذكر، فهنالك من يهاجم الراوي الفلاني ولا يعرف حقيقته. ويُسقط الشخصية الفلانية ولا يقف على كنهها، ويحارب الفتوى الفلانية للمرجع الفلاني ولا يعي مغزاها، وهكذا حتى ينقطع النفس، ثم يدعي أنه مثقف، فهل هذه ثقافة؟
إذا كانت الثقافة تعني استحضاراً لأسماء كتب مؤلفة في الغرب فهذا ليس مستعصياً على الآخرين، فيمكنك أن تذكر اسماً لكتاب أو موسوعة فأذكر مثله، وربما أكثر. وأنا من طلبة العلم، بل أرى نفسي أصغرهم. وإن كانت الثقافة بسرد الأسماء لأعلام ومفكرين في شرق الأرض وغربها من غير المسلمين، ممن يقتدى بهم عند من يدعي الثقافة، فهات ما لديك واسمع مني ما لديّ. وأكرر كلامي: أنني أصغر الجميع، ولست مغروراً.
وبالنتيجة أن النبي (ص) وضع بين أيدينا سلاح العلم، لكنه سلاح خطير. ولنأخذ بعض الروايات كمثال:
يقول النبي (ص): «من أفتى بما لم يعلم لعنته ملائكة السماء وملائكة الأرض»([8]). فلننظر اليوم لبعض الفتاوى من تجار الفتاوى، وآخر ما كنا نتوقع أن يُدفع في سبيل إخراج الفتوى للعلن قيمتها مقدماً، وقد كنا نستغرب من شريح القاضي أن يُشترى منه الحكم في قضية من القضايا، فرأينا اليوم أكثر من شريح وشريح.
ويقول (ص): «من سُئل عن علم يعلمه ثم كتمه ألجمه الله تعالى يوم القيامة بلجام من نار»([9]). فهذا يعلم الحكم، لكن البوح به يتعارض مع مصالحه، فيكتمه. ويعرف الشيء فلا يقوله، خوفاً أن يمتعض فلان من الناس، ولا يخشى أن يغضب الله عليه ويدخله جهنم ويلجمه بلجام من نار.
وفي حديث آخر يقول (ص): «من يرد الله به خيراً يفقِّهْهُ في الدين»([10]). ويقول أيضاً: «إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله»([11]). فهناك من يدرس في النجف أو قم لسنوات، ثم يعود فيجلس في بيته. فأين جهوده وجهود العلماء الذين تحملوا العناء في تدريسه، والأموال التي تقاضاها من بيت المال؟ وأين الغربة وجهود الأهل وتحملهم الأعباء؟.
يقول النبي: «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»([12])، ويقول الإمام علي (ع): «لقد ملأتم قلبي قيحاً»([13]). وهذا الأذى والقيح سببه تلك النماذج من الناس الذين ذكرناهم.
وغابت شمس النبوة:
في مثل هذه الليلة كانت ذكرى رحيل النبي (ص) وكان هذا اليوم أصعب الأيام عليه (ص) إذ اشتد به المرض، ولم يكن معه سوى الإمام علي (ع) والفضل بن العباس وبعضهم كان يدخل مستأذناً، وقيل: إن النبي (ص) في أيامه الثلاثة الأخيرة كان بين بيت علي (ع) وبيت أم المؤمنين عائشة، على خلاف بين المدرستين، ولكن آخر لحظاته كانت في بيت علي (ع) وكان ممداً في حجره، وفي تلك الأثناء دخلت الزهراء (ع) ورأت النبي (ص) في تلك الحال، وعلي (ع) ينضح الماء في وجهه، وكانت الزهراء (ع) تنادي: وا أبتاه وا رسول الله.
نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.