نص خطبة:حوزة قم وكسر القيود عن النصوص الدينية

نص خطبة:حوزة قم وكسر القيود عن النصوص الدينية

عدد الزوار: 657

2013-02-01

في الحديث الشريف عن النبي الأعظم (ص): «إنَّ أهلَ النَّارِ لَيتأذَّوْنَ من ريحِ العالِمِ التَّارِكِ لعلمه» ([2]).

نظرة في حوزة قم:

الحوزة العلمية المقدسة في قم، كسرت كل الحدود الضيقة ذات الوجه الواحد من وجوه التفكير، وانطلقت إلى مساحات أبعد مما كان يتصور البعض، جراء قراءات تحصل على لملمة مفردات منها، من خلال سبرٍ تاريخي لواقع الحوزات العلمية من الغيبة إلى الحراك. وهي بذلك أرادت أن تنفث الروح من جديد في تراث نبويٍّ مقدس، لأن الزمن لعب لعبته، ومن لا يتفق مع المسلك الأصيل لعب لعبته أيضاً، ومن يخشى القادم من الأمور لعبها كذلك.

ومدينة قم تعتبر محطة وعدتنا بها النصوص الشريفة، فهناك بعض النصوص أكدت أن العلم سوف يأزر في مدينة الكوفة، ثم يظهر في مدينة يقال لها قم ([3]).

فمدينة قم لها من الخصائص الشيء الكثير، والدار لا تُزان إلا بأهلها. حيث ورد بعض أهلها على أحد المعصومين (ع) فأدناهم وقربهم، ثم قال لهم: «مرحباً بكم وأهلاً» ([4])، كما أنها حظيت بالعناية النبوية ([5])، فباتت تشكل ظرفاً صالحاً لاحتواء موروث مقدس.

والقرآن الكريم يؤكد أن حجر الأساس في الرسالة هو العلم والمعرفة، والقراءة والبحث والتحقيق، وهناك المئات من الآيات التي تدفع بهذا الاتجاه، لكن ـ مع شديد الأسف ـ تعاطاها غيرنا من أبناء الأمم الأخرى أكثر مما تعاطيناها نحنُ، وألبسنا النصوص لباس العبادات، واستغرقنا فيها، وأدرنا ظهورنا للأساس الذي توظَّفُ الرواياتُ طبقاً له في باب العبادات.

وتضاءل الأمر شيئاً فشيئاً حتى حُصرت تلك النصوص في حساب استحبابات ومكروهات تبعدنا في الكثير من الحالات عن حجر الأساس.

إن القرآن الكريم والسنة المطهرة توأمان وثِقْلان يسيران في وسط الأمة، وفي اتجاه واحد، هو النهوض بالأمة من واقعها المرير إلى واقع أكثر إشراقاً. فالدين اليوم، بما هو منظومة إسلامية يفترض أن يكون ذلك الإسلام الذي استطاع النبي الأعظم  محمد (ص) أن يسير به سيراً سُجُحاً، وأن يشذب تلك النفوس، ويأخذ بها إلى المدى الأبعد.

القراءة والتفكّر:

كان البيان الأول للنبي (ص) هو (اقرأ)، والأمة متى ما قرأت فقد أنصفت نفسها وأنصفت الأمم من حولها، وكذلك الفرد عندما يخاطَب بهذه العبارة المقدسة، ويستجيب لنداء السماء بواسطة النبي محمد (ص) فإنه يعيش سعادة في نفسه لتشرق على من حوله، لأن الطابع العام للمجتمع أنه مجتمع جاهل، لكن النبي (ص) استطاع أن يصنع من ذلك الطابع طابعاً آخر، ألا وهو المجتمع المتنورلا الذي يسمع من النبي المرشد ثم يوجِد تزاوجاً بين ما قيل وأُلقي، وبين ما هو الواقع الحركي من حوله.

لذلك كانت المفاهيم العامة الصادرة من قبل الرسول الأعظم (ص) بقدر ما تجد من الآذان الصاغية الواعية فإنها تجد مصاديق حية في الخارج، فلو أن أولئك الذين ضحَّوا بأنفسهم وأموالهم، وكذا أولئك الذين نذروا كل ما في مقدورهم أن يتصرفوا فيه على نحو الملكية بين يدي الرسول الأعظم (ص) لم يقرأوا ويتدبروا ويتعقلوا ويعملوا، فربما كان للنتيجة حساب آخر.

وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن الصورة تمثل إشراقاً في جميع أبعادها، ولا ندّعي شيئاً من هذا، كما أن الضبابية كانت تخيم على بعض المواقع، والتاريخ يعيد نفسه، وله امتداد وحركة، غاية ما في الأمر أن التاريخ تارةً يؤخذ به ذات اليمين، وأخرى ذات الشمال، وثالثة يبقى متأرجحاً بين مسارين، وهو ما تخبط فيه الأمة خبط عشواء مع شديد الأسف.

لقد أراد الإسلام أن يحصّن الفكر عند المسلم، لذلك أتى بسيل من الآيات، وأردفها بسيل من الروايات عن النبي محمد (ص) وآل محمد (ع) كل ذلك من باب التأكيد والتذكير لا التأسيس، لأن التأسيس يُفترض أن يكون قد تم منذ أول آية، بل مفردة من آية، طرقت أسماع النبي الأعظم (ص) ألا وهي: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ([6])، لكن هذا التأكيد والتفنن في قولبة الألفاظ، وتسخيرها باتجاه الهدف، إنما يدل على خطورة القضية وعظم المسؤولية التي يفترض أن يأتي التذكير والتأكيد عليها بين الفترة والأخرى، والصور والمداليل على ذلك أكثر من أن تعد وتحصى حتى على نحو الفعل من قبل الأئمة المعصومين (ع).

فقد كان الإمام السجاد (ع) إذا جاءه طالب علم، قال: «مرحباً بوصية رسول الله (ص) ثم يقول: إن طالب العلم إذا خرج من منزله لم يضع رجله على رطب ولا يابس من الأرض إلا سبّحت له، إلى الأرضين السابعة»[7]).

وهذا أمر مهم جداً يفترض أن يكون له حيز من تكويننا، كي نستطيع أن ننطلق إلى مساحات أبعد.

فالقرآن الكريم، جاء ليحصّن الفكر في أوساطنا، سواء في حيز الأفراد أم المجتمعات، فخطابه خطاب أممي في الأعم الأغلب، إلا إذا كان للقضية خصوصياتها، وتلك الخصوصيات معدودة محدودة، على العكس من ذلك فيما يعني الأمة بكاملها، فإن الآيات في ذلك مطلقة، والروايات صريحة، تحلّق بمن يريد أن يصل إلى الحقيقة، ويوسع من مداركه بما لا يخطر على ذهنه، لأننا مهما بلغنا وقرأنا وبحثنا وطرقنا من الأبواب فإننا نبقى ننهل من معين محدود، أما كلامهم فإنه يضاف إلى الله تعالى، وينطلق منه، فحديثهم عن رسول الله، عن جبريل، عن الله، وهذا يعني فيما يعنيه عدم المحدودية.

مرتكزات التحصين الفكري:

إن القرآن الكريم يحصننا من خلال عدة أمور:

أولها ـ أنه ينهانا عن اتباع الظن، ومنه سوء الظن، لأنه مهلكة، فإذا ما شرعت أبوابه ولج فيه الصغير والكبير والذكر والأنثى والشريف والوضيع، ويترتب على سوء الظن هدم الذاتيات وتحطيم القيم، ومصادرة المفاهيم، وجعل الإنسان من نفسه سلطاناً من حيث يشعر أو لا يشعر، ثم يتطور حتى ينقلب إلى شيطان.

يقول تعالى: ﴿وَلا تَقْفُ‏ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً([8]). وهذه صريحة وواضحة لا تحتاج إلى قواميس، وإن بتنا في زمن نحتاج فيه إلى الرجوع حتى لقاموس العجائز.

ولنذكّر هنا ببعض المصاديق من سوء الظن:

تصور أن أحداً أساء الظن في زوجته، أو في شريكه، فما عسى أن تكون الحياة؟ وفي مرحلة أرقى لو أساء الظن في موروثه الديني، فما عسى أن تكون الأمور؟ لا شك أن الحياة سوف تتحول إلى جحيم.

ثانيها ـ اتباع الأهواء الشخصية: يقول تعالى: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ‏ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى‏﴾([9]).

إن اتباع الأهواء الشخصية تارة يكون نابعاً من الأنا، وهذه لها عواملها ومحفزاتها، كالغرور وغيره، وتارة يجعل الإنسان من نفسه رهينة عند هوى نفس شخص آخر، وهذه أنكى من تلك، فالمجازر التي تلف الدنيا إنما يكون منشؤها هذا الجانب، وهو اتباع الهوى الشخصي لطرف آخر.

فمن قتلوا الحسين (ع) قال له بعضهم: نقاتلك بغضاً لأبيك، وهذه ليست استجابة للهوى الباطني الذي يفترض أن يكون ناشئاً من الفطرة، إنما هنالك انحراف وسقوط في الهوى الشخصي عند الطرف الآخر، بمعنى الاستجابة لربّ الهوى في ذات السلطان، الذي تحول إلى شيطان.

فاتباع الأهواء الشخصية يلعب دوراً كبيراً، وإذا استطاع الإنسان أن يحصّن نفسه من ذلك، فإنه يستطيع أن يعيش حالة من السكينة والهدوء والاستقرار والقراءة المنطقية. لذا فإنّ العلماء العظماء، وكبار مفكري العالم، إنما يتّكِئون على هذا الجانب، وهو التخلص من إرهاصات اتباع الهوى وضغطه النفسي، فتصل بهم الأمور إلى هذه المسافة الكبيرة.

ثالثها ـ اتّباع السواد الأعظم، أُنساً بهم، بغض النظر عما هم عليه من الحق أو الحقيقة. فقد ابتلي النبي الأعظم (ص) بهذه الطبقة، ودفع ضريبتها الأئمة (ع) وكذا العلماء، فإنهم ليسوا بمنأىً عن دفع الضرائب، قرناً بعد قرن، إلى يومنا هذا، حتى المصلح الكبير الذي يحمل صفحة بيضاء، كالسيد الإمام (سيد الأمة).

وإني لأعجب من البعض، ممن امتعض من وصفي السيد الإمام بسيد الأمة. وهؤلاء لو رجعوا بذاكرتهم إلى ثلاثين سنة ونيف، وقرأوا كيف كان الواقع في المدرسة الشيعية وأتباع مدرسة أهل البيت (ع) عندما كانت الأجواء تعجّ بالغنى والطرب واللهو والسمر، وكان الربا يُتداول في المجتمع، وكان جزء كبير من المجتمع لا يتناهون عن منكر فعلوه، بل ويتعاونون على الإثم والعدوان، وكيف أن الإمام أنقذهم من ذلك، وأسس نهجاً جديداً، لما رأوا أن ذلك كثير عليه، بأن نصفه بسيد الأمة. ولا ندري لمَ يستكثر البعض عليه ذلك، حتى صار يتعقبه بعد أكثر من عشرين سنة على وفاته.

فمما يجعلني أصفه بهذا الوصف، أن سلمان رشدي لما كتب كتابه المشؤوم حول النبي (ص) ونعته بنعوت ما كانت مألوفة يوماً في عرف الكتّاب. حتى المستشرقين منهم، لم تكن لديهم الجرأة على التفوه بمثل ما كتب، بادر إلى إصدار فتوى بإهدار دمه.

وبعد رحيله رأينا الكثير مما يصدر تجاه النبي (ص) من رسوم الكاريكاتير إلى الكتب إلى الحفلات التي تقام فيساء بها لاسم النبي (ص) إلى غير ذلك، لكننا لم نرَ شيئاً من ذلك القبيل، أما عندما أراد أحد فقهاء الطائفة أن يقترب من مفردة تاريخية بسيطة، فقد أصبح ضالاً مضلاً كافراً، فأين هم أصحاب الغيرة على الدين والمذهب؟.      

إنَّ هذه مسيرة متواصلة، وضرائبها ثقيلة، ولا بد أن تُدفع، وإلا لكان بمقدور أحدنا أن يجلس في بيته، ولا يكلف نفسه سوى المجيء للمسجد، ومتابعة الولائم، وأداء بعض المظاهر الشرعية الاجتماعية، كالاستخارة والعقد بين اثنين وأمثال ذلك.

فالنبي (ص) ابتلي بهذه النمرقة، والقرآن الكريم يدعونا للتأسي بالنبي (ص) حيث يقول: ﴿لَقَدْ كانَ لَكُمْ في‏ رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثيراً([10]). ونحن نقول: لبيك يا رسول الله، وألف لبيك. فالقرآن الكريم يشير إلى أن تلك الجماعة التي تأنس بالسواد الأعظم من حولها، بغض النظر عما هو عليه من الحق والحقيقة، من الكثرة بمكان، ولا شك أن المرء يأنس بالمجتمع، ويستوحش من الوحدة، لكن هذه النتيجة ـ وهي الأنس بالمجتمع على حساب الحق ـ ليست صحيحة.

يقول تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ‏ الْمَوْتى‏ وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُون‏﴾([11]). فهل هناك أكثر من هذه الأدلة القاطعة لتكون دافعاً لإيمانهم؟ لكنه العقل الجماعي الذي يلفُّ الكثير من زوايا المجتمع. فهناك من يرى الكأس فارغةً، فيقول: من المؤكد أن فلاناً شربها، فيقول فلان هذا: ما شربتها أنا، فيرد عليه: إذن من شربها غيرك؟ وكأنه لا أحدَ في الدنيا غيره يشرب الكأس.

 

 

 

مثل هذا النموذج لو أتيته بالملائكة تخبره بأن الشارب ليس هذا، فليس لديه استعداد أن يقبل منها.

تقول الزهراء (ع): «فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد صلى الله عليه وآله بعد اللتيا والتي، وبعد أن مني ببهم‏ الرجال‏، وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب» ([12]).

رابعها ـ شخصنة القضايا، حيث تصنف القضايا وتُقيَّم بحسب الأشخاص، والحق والإنصاف يقتضي أن لا تحصر القضايا في الأشخاص، فإن كان هنالك حق أو باطل فهما مطلقان ولا يُقيدان بنوع الأشخاص.

 

يقول تعالى: ﴿وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبيلاَ﴾([13]). والطريف أن القرآن الكريم يعبّر عن أبي سفيان وأبي جهل وأمثالهما من العتاة المردة بأنهم كبراء، ومعنى الكبير هنا واضح، فلا مجال للاعتراض على وصفنا بعض الناس أنه كبير.

خامسها ـ تقليد الآباء دون نظر أو تبصُّر: بأن ينحاز المرء إلى الجهة التي فيها والده، مع أن أباه ليس معصوماً، إذ يمكن أن يكون متأثراً بعلاقة أو مصلحة أو ميل نفسي أو ما إلى ذلك، ونحن اليوم في واقع معروف، فهناك من يحسن إليك فيبقى إحسانه في رقبتك، والإحسان يستعبد الإنسان، لذا يميل البعض باتجاه بعض، وينحاز. لكن الإنسان ـ مع الأسف ـ يميل إلى جهة أبيه، ويتبع الآباء، حتى ولو كان الداعي هو القرآن الكريم والنبي الأكرم (ص).

يقول تعالى: ﴿وَإِذا قيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ‏ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُون‏﴾([14]).

قد يقول قائل: إن هذا الكلام كان في زمن النبي (ص) ولا يمكن تطبيقها علينا اليوم. ولكن هذه قراءة مجزوءة منقوصة محددة، وهي التي تحركت حوزة قم لفك أسرها وتحطيم القيود من حولها.

هذه هي نزعة اتباع الآباء فيما يرون وما يعتقدون، ومن لم يقلها للنبي (ص) بلسانه فإنه ترجمها بعمله، حيث تعامل مع النبي (ص) والمصلحين في الدنيا على هذا الأساس والتوجه.

سادساً ـ العجلة المفرطة في إبداء الرأي والحكم عليه: وهذه واحدة من المشاكل التي واجهها النبي (ص) فكان يدعوهم إلى الخير، لكنهم كانوا يتوقفون فيضعون علامات الاستفهام، فكانت الكثير من الأحكام القاسية قد صدرت تجاه الرسول (ص) وأمير المؤمنين (ع) والمصلحين والمفكرين، سببها العجلة، وهكذا يحصل اليوم، فليس هناك استعداد لدى الكثيرين أن يسأل صاحب الشأن عما يرى.

فمثلاً إذا رأى أحدهم امرأةً خرجت من مكان ودخلت في آخر، سارع إلى الحكم عليها بشتى الأحكام، في حين أنها قد تكون هربت من واقع مرير داخل البيت، أو بسبب آخر لا نعرفه. بل إن بعضهم قد يرتب الأحكام على خبر أو كلام يسمعه من طفل عمره ست سنوات، فتكون الأم ضحية ذلك الخبر.

يقول تعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ‏ تَأْويلُهُ‏ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِيْنَ([15]). فلا هم علموا الحق، ولا هم صبروا حتى يتعلموه، وهذا مع نبي الرحمة، الذي يتعاهده الوحي الأمين بشكل دائم، ولديه اتصال مباشر بالسماء. وبالتالي تحولوا إلى ظلمة. وقد قلت مراراً: إن الظلم ليس معناه أن يصبح المرء كالحجاج بن يوسف أو صدام حسين أو غيرهما، إنما يأخذ نسبة ودرجة من الظلم، وهكذا الكثير من الأمور إنما هي نِسبٌ ودرجات.

دور العقل:

وللعقل قيمة كبيرة، وله روافد عديدة، أترك الحديث عنها إلى محله. لكنني أؤكد أمراً مهماً، وهو أن الحوزة العلمية في قم عندما أطلقت العقل من قيوده، وأبحر علماؤها في ذلك ـ وهم علماء الطائفة، رحم الله من مضى منهم، وحفظ من بقي ـ فإنهم أعادوا غربلة الكثير من المسلَّمات في داخل الوسط الحوزوي، فقد كانت في ذلك الوسط يوماً ما مسلَّمات، تشكل ضرباً من المقدس، وكان ذلك مسيطراً فارضاً لوجوده، لكن علماء قم رأوا أنهم أمام حقبة زمنية لم تعد تسمح لهم أن يتعاطوا الماضي كما هو، ولا بد من تجديد القراءة للنص الديني.

وقد انقسم أصحاب النظر ـ بطبيعة الحال ـ إلى فريقين، حيث تفاعل الفريق الأول مع تلك الفكرة، واندفع معها، وتحرك في ظلها، أما الفريق الآخر فقد بقي يعيش ضمن حدود معطيات مفردة القداسة.

إننا عندما نتحدث عن حالة من التنوير والتفكير، ونبحث عن النقلة في وسط الحوزة أو المجتمع العام، فإنما هو مطلب شرعي واستجابة لله ورسوله، في التفكر والتدبر والتعقل، فنحن لا نستجيب لسارتر ولا هيگل ولا غيرهما، إنما هو نداء السماء.

ثم لننظر، إذا جاءنا أحدٌ بمقولات متشددة، لا يعي ما قد تستوجب من دفع الضرائب بعدها، نرى أن الناس تسكت، ولكن عندما يحاول آخر أن يشذّب بعض الألفاظ، أو يقرب بعض المعاني، أو يصحح بعض المعادلات، نجد أن الدنيا تقوم ولا تقعد.

فالنيل من النبي (ص) يمر على قلوب البعض برداً وسلاماً، لكن أن تطرق أسماعهم مفردة لا تقدم ولا تؤخر، فإنها تقض مضاجعهم، وتبلبل أفكارهم، وتسلب النوم من عيونهم، فيذهبون في هدر الطاقات يميناً وشمالاً.   

أسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.