نص خطبة: حفظ النظام نقاط على الحروف (1)

نص خطبة: حفظ النظام نقاط على الحروف (1)

عدد الزوار: 2683

2015-08-02

ظاهرة الظلم في المجتمع البشري:

وجد قتيل على عهد رسول الله (ص) فخرج مغضباً حتى رقا المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «يُقتلُ رجٌل من المسلمين لا يُدرى من قتله، والذي نفسي بيده، لو أن أهل السماوات والأرض اجتمعوا على قتل مؤمن، أو رضوا به، لأدخلهم الله في النار. والذي نفسي بيده لا يجلد أحدٌ أحداً ظلماً إلا جُلد غداً في نار جهنم مثله. والذي نفسي بيده، لا يُبغضنا أهلُ البيت أحدٌ إلا أكبَّه الله على وجهه في نار جهنم»([2]).

منذ الجريمة الأولى على وجه الأرض عندما قتل الأخ أخاه ـ وكلاهما من صلب الإنسان الأول، الذي يفترض من خلال بعض المعطيات التاريخية والحديثية أنه نبي ـ والدنيا لم تأخذ زخرفها، فقد تربع الشيطان في صدر أحد الأخوين ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيْهِ فَقَتَلَهُ([3]). ثم تعذر عليه أن يواري سوأة أخيه ﴿فَبَعَثَ اللهُ غُرَابَاً يَبْحَثُ فِيْ الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيْهِ([4]).

ومنذ ذلك اليوم، لا زال نهر الدم جارياً، فالظالم لا زال موجوداً، يتقلب تحت عناوين كثيرة، وهنالك دوائر صغيرة ثم تكبر حتى يصبح الظالم طاغوتاً متجبراً في الأرض. وكذلك المظلوم فإن مساحته تتسع أيضاً، وللظلامة مصاديقها التي يتعنون بها المظلوم خارجاً، فربما ظُلم الإنسان في ماله ونفسه وفكره وتوجهه ومقامه، ومراتبَ امتنّ الله بها عليه، كما ورد في الزيارة: «وأزالكم عن مراتبكم التي رتبكم الله فيها»([5])، وهي مقامات الولاية على البشر وذرات الكون، ومن الطبيعي أن يُحدث ذلك صدىً في الاتجاه المعاكس، وتكون الضريبة المدفوعة باهضةً، فقد تكون السجن أو النفي أو التقطيع أو الصلب، كما حصل لميثم، وما أدراك ما ميثم! وكذا الصفوة الذين قطعت أطرافهم، ثم قُطعوا إرباً إرباً، لكن المبدأ والبحث عن جوهره كان سيد الموقف. وإلى يومنا هذا، لا زالت سفينة الظلم والجور تشق طريقها.

حرية الفكر وحدوده:

وبطبيعة الحال أن الناس في يختلفون في قراءتهم للمشهد من حولهم، وهذه حالة طبيعية، ومن يطالب أن تجتمع الآراء على رأي واحد فهو أحمق، ومن يريد أن يجتمع الفكر على منهج واحد فهو ساذج، فالمنهجية والفكر حقٌّ مشروعٌ للإنسان كحقّ الماء والهواء، غاية ما في الأمر أن على الإنسان أن يقف عند بعض المناطق المعينة، خارج دائرة الإملاء من الطرف الآخر.

فمما نعانيه في هذه العُصُر المتأخرة، أن كل من لا يتفق معك يحاول أن يمارس دور الدكتاتور معك دون حق، إنما هو ثوب الظلم والجور والتكبّر.

إننا بسبب ما قرأنا وسمعنا وما تراكم من ثقافة تقلبنا فيها أن الظلم يتمحور حول الحاكم دائماً ولا يخرج من دائرته، وهذا دليل واضح وصريح على أننا لم نكمل القراءة، ولم تكتمل جميع زوايا المشهد من حولنا لنحسن القراءة، وإلا فإن الظلم ليس أسير هذه الجماعة، وإن بلغت ما بلغت، ومارست ما مارست، إلا أن الظلم بحسبه، فنحن لا ننتظر ظلماً من إنسانٍ أعزل كما ننتظر ممن هم مثل الحجاج في القديم، أو هتلر وصدام في العصر الحديث، فكلٌّ بحسبه.

البعض يتصور اليوم أن الظلم ينحصر في أنهر الدماء هنا وهناك، وهدم البيوت، وتهجير الناس وما يترتب عليه من سوء في الأحوال قد يودي بهم إلى القتل، أو انتشار الأوبئة، فهذا مظهر من مظاهر الظلم، ولا يمكن أن نقلل من شأنه وخطورته لأنه يمس حياة الإنسان المكرم من قبل الله تعالى، ولكن ثمة أمر آخر لا يقل عنه سوءاً كما في الحديث الذي ذكرناه، إذ يشقق المشهد إلى ثلاثة مثلثات، لكل مثلث معطى يختص به، ومن الجميل أن يقف الإنسان مع مثلثات يجمع بينها، ليستخلص ما ينطبق هنا وما ينطبق هناك.

إنني ألتمس في الكثير من الأحيان العذر لمن لا يفقه الآخر ولا يحسن القراءة، لكنّ لحسن الظن حدوداً أيضاً، فقد يتقبل الإنسان ويتنازل، ولكن في حدود معينة، لأن ما هو داخل الحدود كفلته له الشريعة الحقة، كأن يكشف عن أفكاره وتوجهاته في حالة من الحرية التي لا تمس طرفاً آخر.

إن التعنت لا يجدي نفعاً، فزمن التعنت وليّ الأذرع قد ولّى، فنحن اليوم في زمن الانفتاح، وأن تقول وأقول، ويستدل كلّ منا على ما عنده، ثم يترك لأصحاب العقول حكمهم، أما أن نصادر العقول ونطمس المعالم ونحرق الأفكار فهذا ما لا يقبل به عاقل.

ولا بد أن ندرك هنا أن حفظ النظام حاجة مهمة للإنسان منذ يومه الأول، فبناء على مسلك أن آدم (ع) كان نبياً، كانت البداية للنبوءات فيما يتماشى مع مجتمع صغير مشاكله قليلة، لكن الرقعة توسعت، ففي زمن آدم وحواء كان الإنسان يظلم نفسه.

ثم جاءت النظم الوضعية، ومغردوها كثر إلى يومنا هذا، فصارت تتماشى إلى جانب النظم الدينية، فالله تعالى عزّز الأنبياء بأولي العزم، في رسالات عامة فيها أحكام تكفل عموميات الحياة، على أن يكون التفصيل للأولياء والصالحين وأهل الذكر من الأمة. وسارت البشرية بين هذين المسارين، إلى أن جاءت عصور الظلمات، وسيطر الفكر الديني على جميع المسارات، وصودرت الحريات، وأقيمت محاكم التفتيش، وقطعت الألسن من أصولها، كي لا يتكلم أحدٌ بفكر لا يتوافق مع دينية ضبابية. وكانت رؤوس بعض المفكرين في أوربا تحفر ثم ينتزع المخ منها، كي لا تخرج إشراقة من رأس إنسان واعٍ مدرك متنوِّر.

ومضت قرون، وحدثت النهضة المادية، وتغير كل شيء إلا بعض العقول المتحجرة في جميع المناطق، وكافة الانتماءات، وبقيت القضية تجرجر أذيالها، ومن حنَّ إلى الماضي بقي يحنّ، وكأن العصمة ليست إلا في الماضي.

لقد غادر النبي (ص) ولم يكن المجتمع معصوماً، بل حتى في حياة النبي (ص) لم يكن المجتمع كذلك، فلو كان المجتمع معصوماً لما نقل لنا التاريخ الكثير من المواقف التي عورض فيها النبي (ص) وهي أكثر من أن تحصى، بل كم هي المؤامرات التي حصلت للتخلص من شخصه، ولم تكن في الأغلب من خارج البيت المسلم، إنما كانت من بيت المسلمين، والعقبة خير شاهد ودليل على ذلك، فقد تآمر مزيج من المهاجرين والأنصار على حياته، ودحرجوا الدِّباب في وجهه، ونزلت سورة كاملة تعري موقفهم، وإن لم تذكر أسماءهم.

الانفتاح على الآخر:

أيها الأحبة، لا سيما من طبقة الشباب النيّر: إن الأمس هو الأمس، ونحن أبناء اليوم، وينبغي أن لا نعكر صفو أيامنا بما كان في الماضي، وعلينا أن نكون قلباً واحداً، وأن ننفتح على الآخر بقدر ما نطمح أن ينفتح الآخر علينا، وأن نرفع الكثير من الحواجز.

قد يقول البعض: إن الحواجز ليست عندنا، إنما هي عند غيرنا، ولو تمَّ هذا الكلام فعلينا أن نساعد الغير كي يتخلص من تلك الحواجز، وإن كان لديّ تحفظ كثير على ذلك، لأنني أرى أن الحواجز لدى الطرفين، بل الأكثر من ذلك أن المشاكل باتت اليوم لدى الطرفين، وهذا يعني أكثر من معطى (حاجز) بين طرف وآخر، وإلا فما عسانا أن نقول في من ينال من الرموز هنا أو هناك؟.

من كان يتصور ونحن في هذا العالم اليوم أن يقف شيخ من الطرف الآخر، ليقلل من مقام علي (ع)؟ فهل كانت هذه النبرة في الزمن السابق بهذه الحدّة لو لم يحصل ما حصل من تجاوز على رموزهم بأسمائهم وفي الهواء الطلق؟ من السبِّ والشتم واللعن وكأنها ثقافة؟

والأعجب من ذلك أن يقول أحدُ المشيخة على أحد المنابر: السب واللعن ثقافتنا التي نستقيها من القرآن وأحاديث أهل البيت! فيا سبحان الله!.

إنني أقطع جازماً أن الكثير يعرف من أعني، وكما أن النبي (ص) أحجم عن الأسماء فلنا فيه أسوة حسنة، إذ نحجم عنهم لا خوفاً منهم، ولكن حفظاً لنسيج معين.

هنالك مبادئ تحتم على الأمة أن يكون لها رأس، ولا بد من أمير برٍّ أو فاجر، وإلا ضاعت المكاسب وأصبحت الدنيا فوضى. وما يشدنا للحاكم هو المبادئ والقيم، فبقدر ما يقترب الحاكم من المبادئ والقيم بقدر ما تسود العدالة، وبقدر ما يتعامل مع المبادئ والقيم قولاً وفعلاً بقدر ما تعيش الأمة حالة من الاستقرار والأمن والدعة.

والأمر الآخر بعد المبادئ هو القوة والتخطيط، فلا بد أن يكون ذلك متوفراً في من يتولى أمور الناس.

حفظ الأمن والنظام:

أيها الأحبة: البيان الأخير الذي أصدرته وزارة الداخلية، يستعرض إنجازاً أمنياً من العيار الثقيل، فهنالك المئات من جرذان (داعش) المتعطشين للدم الطاهر المبارك وقعوا في قبضتهم. وهذا إنجاز كبير يدعونا أن نبارك لهم جهودهم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يشد على أيديهم، وأن يكشف أوراق الآخر. وعلينا أن نهنّئ أنفسنا أولاً بهذا الإنجاز، لأنه دفع الكثير من المخاطر.

وعلينا أن لا نخدع أنفسنا أننا حققنا الأمن لأنفسنا في مواقعنا الدينية من خلال شباب نذروا أنفسهم، مع أن جهودهم جبارة، وعطاؤهم كبير، ووقفتهم مقدسة، ولكن ليس هذا كل شيء.

إن الداخلية مسؤوليتها كبيرة، وهذا أقل ما يمكن أن تقوم به، ونحن نشكر جهودها ولا نزايد بجزء كلمة على ما يقومون به، ولا نشكك في نوايا أصغر جندي منهم، وتبقى العصمة لأهلها، والعدو شرس، فربما يباغتك في مقتل وأنت لا تشعر، وهذا أمر طبيعي، فأعظم دول العالم اليوم اختُرقت، وها هي أمريكا التي ضُربت في مقتل في مركز التجارة العالمي، وقد كانت تحت أيديهم أقوى قوة مخابرات في العالم، ولم يكن التفجير المذكور وليد ساعته، إنما كان ثمرة سنين من التخطيط والدراسة حتى وصلوا لأهدافهم.

إن بيان وزارة الداخلية، بقدر ما أسعدنا وأشعرنا بمساحات كبيرة من الاطمئنان والأمن في كثير من مواطننا، فإنه يحملنا المسؤولية أن نكون أكثر حيطةً وحذراً؛ لأن هؤلاء يناورون ويراهنون على البرود والسكون والتراجع والتسليم بالمطلق.

فيا أيها الأحبة، وأنتم أيها الحماة: حفظكم الله، فدوركم اليوم أشدّ صعوبة، ونحن لا نريد أن ننفّر الناس من المساجد بكثرة التفتيش والتدقيق، إنما يكفينا انتباهكم وملاحظتكم، فعلينا أن لا نربك المشهد، لأن وضعنا الأمني في هذه البلاد لا يزال في أفضل حالاته، وما وقع وقع، ولكن علينا أن ندفع ما قد يقع لا قدر الله، وهذه مسؤولية الجميع.

وقد سبق أن قلت: إن كل واحد من أبناء هذا الشعب الكريم مسؤول بالدرجة الأولى عن الإبلاغ عن كل حركة وسكنةٍ فيها ما فيها من الريبة، سواء كان ذلك في الأشخاص أم المركبات أم غيرها، فهذه مسؤولية شرعية ووطنية لحفظ الأمن والناس والنظام والمكاسب والمقدرات والأجيال القادمة، وهي مسؤولية الجميع، وجهودهم مشكورة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقهم وأن يدفع غائلة السوء عن جميع بلاد المسلمين، فالشعور بالمسؤولية مطلب كبير، وعلينا أن نلتفت لذلك.

هنالك ضربان من النَّظْم: النَّظْم الديني السماوي، وفيه مبادئ وقيم خاصة، والنَّظْم الوضعي الذي تشعبت طرقه. أما المسلك الأول فضيعه أهله، فالمسلمون عندما هجروا إسلامهم آلت الأمور بهم إلى ما آلت إليه، فعندما كانوا يتمسكون بدينهم من خلال المبادئ والقيم، سادوا الدنيا، وأضاؤوا المشرق والمغرب بأنوار هديٍ نزل بهم الأمين جبريل على قلب الحبيب المصطفى محمد (ص).

وأما المسلك الثاني (الوضعي) فله ألوان وتقلبات، فهناك تقدمي في جهة، وآخر رجعي، وثالث براغماتي لا يعرف سوى المنفعة الشخصية أو الحزبية.

أيها الأحبة: إن حاجتنا للنظام حاجة مهمة يفرضها الواقع بكل حيثياته من خلال ما تعانيه الأمة اليوم. فنحن كأبناء أمة خاتمة للأمم نعاني الكثير، وهي الأمة الوسط المصطفاة من بين الأمم، والأمة التي يفاخر بها النبي الأعظم (ص) يوم القيامة. فالفقر المادي يحتاج إلى مسار في النَّظم لتتخطى الأمة هذه المرحلة، وهي الأمة التي تناهز المليارين من حيث العدد، فقد تخطت حاجز المليار ونصف المليار، ولكن، هل الحال بينهم واحد؟ كلا أبداً، فهم ما بين مشرّق ومغرب في الفكر، وما بين جنوب وشمال من حيث الفقر، وعلى هذا فقس ما سواه. أما حمامات الدم التي فتحت أبوابها فإن إغلاقها موكول للأمة إذا ما رجعت إلى رشدها، وإلى القادة إذا ما نهضوا بالمسؤولية الملقاة على عواتقهم.

فثمة فقر فكري، إذ يقف المسلمون في أدنى النسب المئوية من الأمم التي تقرأ، وما إن يخرج مفكر هنا أو هناك، إلا وصارعته الجهلة من أبناء الأمة، لأنه يمس مصالحها، ويغرق سفينتها في قعر بحر لا نجاة بعده، ولو أنهم اطمأنوا للسلامة لما حاربوا الفكر هنا أو هناك.

إن هؤلاء يزعجهم أن يُنال من شخص بعينه، ولا يزعجهم أن يُنال من رمز بمنزلة علي (ع)! ويزعجهم أن تقترب بإشارة ولو من بعيد من فعلٍ مشين أو قول غير لائق، ولا يزعجهم أن يتم المساس بأقدس المقدسات.

وثمة فقر روحي معنوي، وكذلك فقر في الجانب الإنساني، فهناك من الكوارث ما يندى له جبين الإنسان بما هو إنسان، يقول الشاعر:

وليس الذئب يأكل لحم ذئبٍ   ويأكل بعضنا بعضاً عياناً

فالذئاب لا تفترس أمثالها، أما نحن فنأكل بعضنا، ونفترسهم، ونبقى نفترس ونأكل لأننا ابتعدنا عن المبدأ كثيراً، وبتنا لا نعيش مسؤوليةً ولا نلامس واقعنا.

أما أدلتنا على حاجتنا للنظم، فالعقل السليم، والنص الديني القرآني والسنة المطهرة الواصلة إلينا عبر محمد وآل محمد (ع)، وإجماع الأمة الموفَّق، بل قيل: إن حاجتنا إلى النظم من الضروريات التي لا تحتاج إلى دليل.

نسأله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.