نص خطبة: تفاوت الناس في سيرهم العرفي إلى الله (2)

نص خطبة: تفاوت الناس في سيرهم العرفي إلى الله (2)

عدد الزوار: 785

2015-02-24

في الحديث الشريف عن النبي الأعظم (ص): «من صلى عليّ مرة صليت عليه عشراً، ومن صلى عليّ عشراً صليت عليه مائة، فليكثر امرؤ منكم الصلاة أو فليُقِلّ»([2]).

منطلقات العرفان:

العرفان طريق شقّه أولئك الذين يحملون همةً عالية وذهناً وقاداً، رغبة منهم في الوصول إلى الحقيقة، وقد اعترض طريقهم الكثير، إلا أنهم لم يلتفتوا ولم يتوقفوا، إنما رموا ببصرهم أقصى المسار، فاستطاعوا أن يصلوا إلى الغاية، وهذه لا تتأتّى إلا لأصحاب الهمم العالية.

ومراتب السير عند العارف ثلاث، يستطيع من خلالها أن يصل إلى الحقيقة، بل تفرض الحقيقة نفسها عليه:

1 ـ الشريعة:

ومن خلال هذه المرتبة، يلحظ المرء مدى التجني على العرفانيين، فهم يجعلون الشريعة المنطلق والأساس الذي يتحركون على أساسه، ولا ينفكون عنه. صحيح أن لهم قراءاتهم واستنطاقاتهم التي ربما لا تنسجم مع كثير من القراءات المحكومة بالظاهر، إلا أن الأصل والمنطلق هو الشريعة.

2 ـ الطريقة:

وهي عبارة عن مجموعة من الآليات التي تبانى عليها أصحاب هذا الطريق. ومن خلال الطريقة التي عرفوا بها في استكشاف الحقائق يقترب المرء شيئاً فشيئاً من الحقيقة.

وحيث إن الحقيقة تحتاج إلى الكثير من التركيز، لذا نجد حتى أصحاب الطريق العرفاني تختلف آراؤهم من عارف ألى آخر، وما ذلك إلا نتيجة لما وصلت إليه نفس ذلك العارف من القرب إلى الحقيقة المطلقة.

3 ـ الحقيقة:

وهي النتيجة التي تفرض نفسها بعد جهد جهيد، وتتمثل بتجلي نور الحق في قلوب العارفين، لذلك تجد أن المندكّ في هذا المسار لا شغل له فيما حوله إلا تلك الحقيقة التي أشرقت في داخله، فيجعل منها ميزاناً يقبل على أساسه ما يقبل، ويردّ ما يردّ. وخير مثال لذلك من تشرفنا بذكر اسمه الشريف في الأسبوع الماضي، وهو السيد الإمام (رحمه الله) الذي وصل من خلال السير إلى موقع لا يخشى بعده إلا الله تعالى، لأنه عاش الحقيقة في أجلى صورها.

مراتب العرفان:

ثم إن للعارفين محطات يتوقفون عندها، وهي تتطلب منهم الكثير، لذا يجهدون أنفسهم في سبيل تخطيها مرتّبةً واحدة تلو الأخرى، لتحصل الغاية والنتيجة في نهاية المطاف، وهي إشراقة نور الحق في القلوب. وتلك المحطات هي:

 1 ـ التخلية:

فكل إنسان يولد كصحيفة بيضاء ليس فيها نقاط تُغيّب جانباً من معالمها، ولكن مع تقدم الحياة، وكثرة المشاغل هنا وهناك، والدخول في دوائر الصراع في أكثر من موقع، تكتسي تلك الصفحة بلون من الكدورة، وتتكثف عليها النقاط، حتى تصل أحياناً لدرجة الظُّلمة، لكن ذلك لا يعني أن لا شيء وراء ذلك، لأن الظلام تبدده شمعة، فكيف إذا كانت الإشراقة نوراً يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء من عبادة، والغاية من وراء ذلك القذف النوراني عدة وجوه واعتبارات.

إن الطبيعة البشرية تجعل الإنسان عرضة أن تلحقه الكدورات، إذ لا يتمتع بعصمة تصون مسيرته منذ اليوم الأول الذي يخطو فيه في هذه الدنيا. لذلك وضع العرفانيون لأنفسهم تلك المحطات، ومنها هذه المحطة الأولى. فمن يدخل حياض العارفين يحتاج أولاً أن يتخلى عن جميع تلك اللواحق والتبعات والنقاط السوداء التي علقت بنفسه، فيعمد إلى إزالتها وإزاحتها، ومحو جميع ما علق بنفسه من تلك النقاط عبر مسيرته قبل الانصراف إلى مسار العارفين.

فالتخلية تعني: تنظيف النفس مما علق بها من الكدورات عبر مسيرتها.

وليست هذه المرحلة من السهل اليسير، لأن الإنسان قد يحاول تحقيقها وفي ذمته الكثير من الحقوق المادية والمعنوية للآخرين، ولا بد من إرجاعها لمستحقيها، والتخلص من غائلتها. فقد أكل الكثير مما يشوبه لون من عدم الشرعية، بحيث يتصف بصفة الحرمة. وهكذا دخل في الكثير، وخاض في الكثير، مما يشوبه الحرام أو الشبهة، فتعلقت بذمته الكثير من الحقوق التي تعني الخالق تارةً والمخلوق تارة أخرى.

ولكن مع ذلك كله على الإنسان أن لا ييأس، لأنه يرجع إلى القوة الدافعة التي لا تضعف في أي حال من الأحول، وهي القوة الإلهية، فمن رجع إلى ربه استقوى به على كل شيء خلا الله تعالى، ومن ذلك استقواؤه على النفس.

ومن الملاحظ هنا أن هذه المرتبة لا تعني العارفين فحسب، بل تعني أياً منا بدرجة أو أخرى، فعلينا أن نعيشها ولو لفترات معينة كي تصفو النفس.    

2 ـ التحلية:

فبعد تخلية النفس من الكدورات العالقة، تأتي المحطة الثانية، وهي تحلية النفس بما يزينها من الفضائل، ويدفعها باتجاه السمو.

والمحلّيات كثيرة، منها أن يعيش العارف مع كتاب الله تعالى، وأن يكثر من الصلاة، وأن يتعاطى الأوراد الموجَّهة، التي تلقاها الأعاظم عمن سبقهم، بما يتصل أخيراً بمحمد وآل محمد (ص)، وليس الأوراد المخترعة المصطنعة.

3 ـ التجلية:

ربما يتصور البعض أنه إذا حقق المرتبتين، بأن خلى نفسه من الرذائل والكدورات، وحلّاها بالفضائل والكمالات، فقد وصل إلى نهاية المطاف، وحقق النتيجة التي يتوخاها. ولكن هنالك مرحلة أكثر دقة وحساسية، هي مرحلة التجلية.

فكثير هم أولئك الذين يتعاطون ضروب العبادة، ولكن قليل منهم من يفقه الوظيفة التي يقوم بها، وهنا تقع الإشكالية والمفارقة، فينبغي أن تكون العبادة عبادة مخلَصين لا مخلِصين، وهذا المقام لا يصل إليه إلا من التفت إلى ذلك المولود المعبر عنه بالعبادة.

ضوابط عامة في العرفان:

وبطبيعة الحال أن طريقاً بهذه المثابة من الصعوبة والخطورة يحتاج ـ بعد الاتكال على الله تعالى ـ إلى ما يساعد السالك على الوصول لتلك الغاية، ومن ذلك:

1 ـ الالتزام الشرعي التام:

وهذا شرط أساس عند العارفين. ولنا هنا أن نسأل: على أي أساس استند من يحاربون العارفين، ويفتون بكفرهم، ويزجّون بهم في طوامير السجون، ويتخلصون من حياتهم  بأبشع الصور؟ في حين أن العارفين أنفسهم يقولون: المركز الأول الذي على أساسه نحتمي في حفظ المسار، هو الالتزام التام بجميع الضوابط الشرعية، أي أداء الواجبات والابتعاد عن المحرمات. وهل الشريعة في ظاهرها إلا هذا المعنى؟

2 ـ وجود المرشد العارف بالتجربة:

ففي المجتمعات اليوم هنا وهناك يتصور البعض أنه انخرط في سلك العارفين، لذا يحاول أن يتمتم في جلسالته الخاصة ليغري الطرف المقابل، أو يعمّي عليه، فترى أن المسبحة لا تسقط من يده، وإن سجد كانت سجدته من نوع خاص. وقد يتخذ لنفسه لباساً غير متعارف بين أوساط أصحاب السير والسلوك.

إننا لاحظنا بعض العارفين في قم المقدسة، في أيام وجودنا هناك، وهم في قمة السير والوصول، ولكن لم تكن ثيابهم كما يتصورها البعض، بل كانوا يرتدون أفضل العباءات، وأجود الجبب، وأنقى الثياب، وكانت أبدانهم طاهرة نظيفة كما هو داخلهم، فإن طهر الداخل والخارج فأنت أمام ملاك لا إنسان.

فوجود المرشد العارف ضروري جداً، لا من يدّعي أنه من أهل السلوك والعرفان والكشف، فالدعاوى كثيرة، لا تحتاج دفع الضرائب، ولا تكلف شيئاً، كما هو الحال في العناوين المبتذلة اليوم التي لا تكلف شيئاً، سواء في الصف الديني أم الأكاديمي. فليست العبرة بالعنوان، إنما بانطباق العنوان على المعنون.

إننا نحتاج إلى المرشد في مساحة العرفان لأن الغاية بعيدة، والمسار طويل، يحتاج إلى زاد يتناسب مع حاجة المسافر لقطع تلك المسافة. ومن أهم ما يحتاج إليه من يدله على الطريق. فكثيراً ما يواجه المرء قطّاع الطرق في سفره، فكيف به إذا واجه قاطع الطريق في السير والسلوك، فحرفه عن التوحيد والرسالة والرسول والإمامة والإمام والغاية المقصودة؟

إن الوجود الظاهري وعالم الشهود الذي نتنقّل فيه ليس هو الغاية، إنما أسمى وأرفع وأكبر من ذلك بكثير. قال تعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ([3]). فالبعض يتصور أن الغاية في القيامة هي الحور العين والأنهار والقصور والخمور وأمثالها، فهذه وإن كانت صحيحة، إلا أنها لا تتماشى وعقلية العارفين، فالعارف يرى أن تلك الأمور ما هي إلا صور مقربة لبعض الحقائق التي أنس بها الإنسان في عالم الشهود، فالعقول قاصرة أن تتصور معطيات ذلك المشهد، إلا بتلك العبارات التي تتناسب وذهنية الإنسان العربي المخاطب بالنص القرآني بالدرجة الأولى في زمن الرسول (ص)، وإن كان القرآن عاماً. فالعقلية العربية آنذاك لا يمكنها إدراك المشهد إلا بضرب المثل المقرّب.     

3 ـ سلامة العقل الفاعل:

فكما أن الإنسان تطرأ عليه بعض الملوثات في الجوانب المادية، من المحرمات المحظورة التي تخطاها، فقد تعلق في نفسه بعض الأمور في الجوانب المعنوية. فالأفكار الضالة الشاذة المنحرفة إذا استقرت في نفسه، ثم رتب عليها الأثر الفاسد، فمما لا شك فيه أن ذلك الترتيب ينعكس على نفسه، فيتخطاه إلى ما هو الأسوأ، لأن الظلمة قد اكتنفته.

قد يتصور البعض أن الظلمة والابتداع عن حالة الصفاء سببه لقمة الحرام فقط، في حين أن هذا يمثل جانباً من السبب، فالفكرة الخاطئة إذا ما علقت في الذهن، ثم رُتب الأثر عليها، فقد تكون المشكلة أخطر من الأولى. لأن رجوع الأول إلى الصواب أسهل من رجوع الآخر.

علاقة العقل بالجسم:

إن العقل السليم، في الجسم السليم، فكما أن الجسم يفسد فكذلك العقل، وكما أن الجسم بحاجة إلى التطهير فكذلك العقل، ومن طهر جسمه ظاهراً وباطناً، طهر عقله، فلا حقوق لأحد عليه لا في الظاهر ولا في الباطن، لا للبشر ولا لله تعالى. ولم يبق إلا الإنسان ونفسه، يتحرك والواقع الذي هو فيه.

لذا تجد أن العلماء العارفين الذين قطعوا المسافات يمتلكون الكثير من بعد النظر. فمثلاً: أن يفقد المرء ولداً عزيزاً على نفسه أمر محزنٌ جداً، لذا تجد أن غير العارف قد يتفوه بكلمات تعبّر عن الخسارة الشديدة، وربما كلمات العتب على الخالق، وقد يصل إلى حدّ الاعتراض على الله تعالى، وهكذا. أما العارف فيقول: في موت ولدي لطف إلهي!. وهذا ما أثر عن الإمام الخميني (قدس سره) يوم استشهد ولده مصطفى (رحمه الله). وهذا ما أثر من قبلُ عن الإمام الحسين (ع) والسيدة زينب (ع) في العاشر من محرم.

فعلينا أن نلاحظ الفرق بين قول السيدة زينب (ع) في الإمام الحسين (ع) وهي تتجه نحو الخلق العظيم فتقول: إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى، وبين من يقول في خروج الإمام الحسين (ع) واستشهاده: إنه قتل بسيف جده.

نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.