نص خطبة: بين العلم والعبادة

نص خطبة: بين العلم والعبادة

عدد الزوار: 1361

2020-07-24

الجمعة 30 / 11 / 1440 31 / 7 / 2019

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وآله الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصةً لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

عظم الله أجورنا وأجوركم في ذكرى شهادة باب المراد، الإمام الجواد (ع) وفقنا الله وإياكم للوصول إلى عتبته الطاهرة، والشفاعة على يديه يوم القيامة.

قال الله الحكيم في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيْرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيْلاً}([2]).

روي عن الإمام الجواد (ع) قوله: «لن يستكمل العبد حقيقة الإيمان حتى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه»([3]).

ألوان العبادة لغير الله:

كان الكلام في الأسبوع الماضي حول مفهوم العبودية، وتم التطرق من خلاله إلى العبودية الحقة التي لا تكون إلا لله سبحانه وتعالى، غير أن ثمة ألواناً من العبادة يمارسها الإنسان في دائرة الانتباه والقصد حيناً، وخارج حدود هذه الدائرة حيناً آخر.

1 ـ العبودية الحدباء:

فمن تلك الألوان العبودية الحدباء، وهي التي تقود الناس من خلال تشريعات غيرهم من الشعوب، ويمكن أن يُتسامح في هذا ويضاف إليه العادات. فلكل مجتمع على وجه الأرض طقوسه وعاداته وتقاليده، وهي عادات تتحول مع مرور الزمن إلى حالة من العبودية والاسترقاق تمارس ثم تتطور بحسب ما لتلك الشعوب من ثقافة، وفي الكثير من الأحايين تتحول إلى تشريع مقدس، وقد تسلل من هذا الصنف إلى واقعنا الإسلامي الكثير مع شديد الأسف.

هذه العبودية إذا استشرت فإنها تقضي على مكامن العزة لدى الشعوب، لأنها لا تمارس الواقع إلا من خلال ما تلقته في دائرة من التعمية. بل إن قسماً من الحضارات التي سادت ثم بادت، بنت أصولها بناءً على هذه الأرضية، لذلك نقول: إنها بادت، فمكامن القوة والأسس التي تدفع بالحضارة إلى الأمام، تضمر مع مرور الأيام إذا ما كانت محكومة بهذا اللون من العبودية الحدباء، وهو ما نخشاه اليوم على الكثير من واقعنا. لأننا متى ما استسلمنا إلى هذا اللون من العبودية، فإنها ستفتك بنا كما فتكت بغيرنا، فحكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد. فنحن والآخر على قدم سواء، ولذلك يجب أن يأخذ الإنسان الواعي المسلم الفطن الحيطة والحذر، ولينظر في أي مربعات العبودية هو قابع؟ ومن أيها يريد أن يتفلّت؟.

2 ـ العبودية الصمّاء:

ثمة عبودية أخرى هي العبودية الصماء، ولمفهوم الصمم قراءات عدة، لكن الذي يعنينا فيما نحن فيه، تلك التي تُكره الأفراد على اتّباع مشارب المحيط من حولهم، بسبب الاصطباغ بألوانه، سواء كان بالتوارث ـ كما هو الأعم الأغلب ـ أم بسبب التلقين، وهو ما أصبح اليوم يحقق المكاسب على الأرض. ففي الزمن السابق كانت الوسائط قليلة، فالعمدة في هذا المسار العبودي الصّممي تبنى على أساس التوريث، من الأجداد للآباء ثم للأبناء. ولكن اليوم بسبب هذه الوسائط التي تقرب البعيد وتحول العالم إلى قرية صغيرة، أصبح التلقين هو الأداة الأساس في هذا المسار في تأمين العبودية الصماء. لذلك تجد الدول التي تبحث عن نفوذ لها على الخارطة في هذا الكوكب، تنفق الأموال الطائلة على الجانب الإعلامي، لأنه اليوم السلاح الأسرع مضاءً في المكون الإنساني، قرب أم بعد، أما الدول التي لا طموح لها، لا في دائرتها الإقليمية ولا العالمية الأممية، لا تولي هذا الجانب اهتماماً، على العكس من ذلك الأمم الراقية والدول المتقدمة التي ترمي ببصرها إلى أبعد الآفاق فيما يعود بالنفع والمصلحة في أقل التقادير على دائرتها الضيقة ناهيك عما إذا كانت تصبو إلى ما هو أكثر بعداً من ذلك، كما هو واضح وبيّن.

والناس عادة ينساقون خلف هذه العبودية الصماء. وبمثال بسيط، أننا نتعاطى شراباً معيناً في رمضان، لا تكاد مأدبة تخلو منه في رمضان، وهو شراب «فيمتو» الذي يغيب عن موائدنا سنة كاملة، ثم يعود في رمضان بقوة، كل ذلك بسبب الدعاية المصاحبة والإعلام المسخّر، بحيث حتى لو لم يكن في قائمة المشتريات عندما تذهب للمركز التجاري، تجد نفسك متعلقة به فتشتريه.

أما في الأمور المعنوية فالحال أشدّ، والأثر أكثر مضاءً، والأمثلة كثيرة لا داعي لوضع اليد عليها.

3 ـ العبودية العرجاء:

ثمة لونٌ آخر من العبودية هو العبودية العرجاء. فتجد في ثقافتنا أننا قد نسير بشكل أعرج، وهكذا في تديننا وفي انتمائنا القبلي وتفكيرنا وممارستنا لبعض الفنون الجميلة وغير ذلك.

وإذا ما أصيب الإنسان بالعرج، استثني من الكثير من الأحكام، وقد أشرت إلى هذا المطلب عندما تحدثت عن أصحاب الهمم في شهر رمضان المبارك، وذكرت ضرباً من أسماء الصحابة الذين كانوا مصابين بالعرج في الخلقة والتكوين، لكنهم كانوا أصحاب عقول راقية، ولذلك امتدحهم النبي (ص) واختصهم بالمواقع، ووعدهم الجنة.

فالعبودية ذات بعد معنوي، وإذا ما عاشها الإنسان بصفة العرج ستقع الكارثة على رأسه ومن يدور في فلكه، وقد يكون من يدور في الفلك جماعة أو فرد.

وهذا اللون من العبودية هو الذي يضع رقاب الأشداء، ممن يدعون الفكر والقوة والفتوة تحت سيطرة المحتالين بجميع تشكلاتهم، وهذا هو الواقع الذي نعيشه اليوم، فهنالك أقوياء أشدّاء في تكوينهم، ولكن ثمة ثغرة يلج منها المحتالون والنصّابون والقراصنة وقطاع الطرق وينفذون من خلال هذه الثغرة ويحققون مآربهم ومطالبهم.

ثم إن هذه العبودية تنقسم على نفسها أيضاً، وتشكل مولوداً جديداً هو عبارة عما يتولد من الخوف جرّاء ما تنالهم به ألسنة القوم، بحيث يشعر من يعيش هذا اللون من العبودية بحالة من الاستسلام غير المرغوب فيه. وهذا ما يمارسه في كثير من الأحايين من لهم النفوذ على من لا نفوذ لهم، فهم يملكون العقول الناهضة والأجسام المتماسكة، ولكنهم يغيَّبون عن المشهد، وفي الكثير من الأحايين مع الانتباه والالتفات، لذلك تصل الأمور إلى ما تصل إليه.

4 ـ عبودية الاسترقاق:

ثمة عبودية أخرى، هي الأسوأ على الإطلاق، وهي العبودية         للعبودية، أي أن يبحث العبد عن الاسترقاق والخضوع والخنوع والتسليم، وهو من يبيع دينه بدنيا غيره، لمنصب أو مصلحة أو موقف أو مال أو صداقة أو غير ذلك. فهو يذلّ نفسه ويمتهنها، بحيث يدار ولا يدير، ويتأثر ولا يؤثر، وهذا الأمر قد ينتقل من سواد الناس الأعظم إلى النخبة، فيكونون ضمن ما تُمسك به أيادي ذلك الأخطبوط القاتل الذي سرعان ما يتحول إلى سرطان نافذ ينخر في داخله، حتى يتلاشى تماماً، فلا تبقى له قيمة، لا في دائرة أهله، ولا في محيط مجتمعه، ولا في الأمة من حوله، فإذا سقط في الأدنى سقط فيما هو فوق ذلك.

هذه الحالة من العبودية هي عبارة عن قوة الاستمرار وفق النمطية المرادة للإنسان من الغير، وهذا اللون من العبودية قد يقود الإنسان إلى ما لم يكن بالحسبان، فالعبودية تمنح الراحة أحياناً، لكنها في قادم الأيام تجعلك تدفع الأقسى والأغلى ثمناً، والحوادث واضحة وكثيرة.

فمن أمثلة ذلك أن المجتمع الكوفي عندما لم يشأ أن يضحي بالقليل أمام عبيد الله بن زياد وهو في قصر الإمارة، اضطر بعد ذلك أن يدفع الكثير، بل إلى يومنا هذا لا زالت الأمة تدفع ضريبة ذلك الموقف، لأنها رضيت الاستعباد والذل والخنوع، حال أن المقدرات كانت بيدها، إلا أنها لم تستطع أن تخرج من تلك الدائرة التي اختطتها من حولها. وفي الكثير من الأحايين تكون الخطوط المرسومة وهمية لا صحة لها، لكنها تبقى خطوطاً مانعة ومعرقلة، ومن يتابع مجريات الأمور يجد أن الإنسان أحياناً يدخل في دائرة الترهيب بسبب خط وهمي لا أساس له، ويستسلم ويتراجع.

يقول أحد الطلاب: في يوم من الأيام أردنا أن لا ندرس، فاجتمعت كلمتنا على أن نوهم الأستاذ أنه مريض، وهكذا عندما دخل الأستاذ إلى محل الدرس بادره أحد الطلبة بعد أن قدم التحية قائلاً: أرى في جلوسك شيئاً من الثقل، فكأنك تميل إلى اليسار قليلاً. ثم بادره طالب آخر فقال: الصفرة في وجهك بادية بوضوح، فما الخبر؟ ثم قال له ثالث: العرق بادٍ على وجهك. وهكذا توالت الملاحظات، حتى أقنعوا الأستاذ أنه مريض، وعلى أثر ذلك ترك الدرس، وذهب إلى بيته فبقي ثلاثة أيام يتوهم أنه مريض. فالكثير من الناس يعيش هذه الحالة في بيته ومحيطه الاجتماعي ومحيط العمل.          

الاستعباد:  

هذه الحالة من العبودية تولد حالة أخرى أخطر تسمى «الاستعباد» وهي إعطاء سلطة ما للنفس للغير، وهو غير العبودية، أي أن تبحث عمّن يستعبدك ومن يذهب بك ذات اليمين وذات الشمال، لأنك هيأت الأرضية وأصّلت لها.

وينقسم هذا اللون من الاستعباد إلى قسمين:

أ ـ الاستعباد البدني:

وهو واضح بيّن، وقد ابتليت به بشكل كبير الشعوب السوداء البشرة، لا سيما في أفريقيا، فمذ وجد الإنسان على سطح الأرض وسكان أفريقيا عبيد أرقّاء، لأنهم منحوا الطرف الآخر القدرة  على استعبادهم، حتى بات الوهم حقيقة. وكذلك الشعوب المغلوب على أمرها، حتى من البيض، فالحضارة الرومانية لم تترك جنساً من البشر إلا وضعت على كتفه ختم العبودية والاسترقاق. وهكذا الكثير من الحضارات، بل أصبح من المرتكزات لدينا أن أية حضارة تناطح السماء لا بد أن يكون وراءها ظلم، فهنالك مستعبِد ظالم، وهنالك مستعبَد. والله تعالى أراد أن تكون عبادة الإنسان له تعالى وحده، أما الإنسان فأراد لنفسه أن يعيش عبداً ذليلاً خانعاً، بل لا يرضى أن يعيش حتى بارقة الأمل والضوء من بعيد الذي يمكن أن يمزق الظلمة، لذلك حورب الأنبياء.

كنت اليوم أقرأ عن حياة نبي الله عزير (ع)، الذي عاش في أيام بختنصر، ولكن لم يسلط عليه التاريخ الضوء كثيراً، بل لا نعرف عنه سوى قصة موته وحماره ثم بعثته، حال أنه نبي عظيم، ومن أشد الأنبياء معاناة للواقع المرير الذي كان يعيشه اليهود، وأشدهم ثورة على ذلك الواقع، حتى انتهى به الأمر أن أحرقوه حياً، إذ حفروا بئراً، وألقوه فيه ثم أحرقوه.

هذه هي الضريبة التي يدفعها الكثير من الناس عندما يبينوا لغيرهم الطريق الصحيح، وإلا فعليهم أن يختاروا الصمت المطبق المذلّ.

ب ـ الاستعباد الفكري:

وهو ما نشاهده اليوم بشكل واسع، فالاستعباد البدني انحسر كثيراً اليوم، ويكاد يختفي تماماً بسبب الكثير من التطورات، ومنها القوانين التي حدّت من سعة انتشاره واستشرائه، غير أنه لم يُلغَ تماماً، فلا زال الاسترقاق يطارد البشر لا سيما في أفريقيا، حال أن هذه القارة تمتلك من الموارد الاقتصادية والمواد الخام ما يجعلها قادرة على أن تعصف بواقع العالم كله اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، لكن العبودية المولدة للاستعباد في يد الغير جعلتها في هذا الوضع، وربما يكون القادم أسوأ.

تصوروا أن حرباً أهلية تشتعل في بلد صغير، يقتل فيها 800 ألف إنسان خلال شهرين فقط.

هذا الاستعباد الفكري أخطر من سابقه، فبعضنا يتصور أن العبد هو الأفريقي فقط، إلا أن غيره قد يكون أسوأ حالاً منه، حتى وإن عاش الأفريقي حالة اللاوعي أو سلبت منه، لأن غيره يفترض أن يكون في وضع أفضل، فلماذا لا يحرك عقله ووعيه في التخلص من هذا القيد؟

وهنالك دائرة أوسع في هذا المجال، ففي عالم اليوم هنالك دور إعلامي كبير للقنوات ووسائل التواصل والتقنيات العالية في هذا المجال، في بث روح الاستعباد الفكري، لذلك تجد الكثير من الناس اليوم تذهب يميناً وشمالاً دون أن تعي ما لها وما عليها، بل لا تتاح لها الفرصة لمعرفة ما لها وما عليها، سواء كان ذلك بسبب النزاعات السياسية أم العسكرية أم الاقتصادية، وتبقى قوة الإعلام والوسائل المذكورة هي الآليات التي تُرسم من خلالها معالم المشهد، فتفتح الأبواب هنا وتغلق هناك.

ألوان من الاستعباد:   

والسؤال الآن: أين يكمن الخلل والخطورة في كل ما تقدم من الكلام؟ الجواب: إنه يكمن في أمور ثلاثة:

1 ـ وقوع الإنسان في فخ العبودية شاء أم أبى، بسبب عدم الالتفات لما يراد به، من خلال الضخ الإعلامي: وهذا الحال في الأعم الأغلب يكون أسير حالة اللاوعي، لأن حالة الوعي تم استلابها من حيث يشعر الفرد أو لا يشعر. فمن النادر أن تجد اليوم من يقول: أنا أرى، أو هذا رأيي بعد البحث والجهد، إنما يقول: سمعت، وقيل لي، ورأي الجماعة، وهذا ما نتج بعد تحقيق المحققين في محله، وهكذا. دون إعطاء أي مساحة ولو يسيرة لرأيه الخاص وشخصيته.

ومن هنا نجد أن أي صوت يبرز يميناً أو شمالاً، تقوم عليه قائمة البعض، وتثور ثائرتهم، لأنهم يعيشون حالة العبودية للعبودية، ويضاف لها أحياناً البحث عن الاستعباد للآخر، سواء كان المسار دينياً ـ كما هو واضح وينبسط على جميع المذاهب دون استثناء ـ أم كان سياسياً، فلا يمكنك أن تقدم قراءة خارجة عن حدود ما تنتمي ومن تنتمي إليه، سواء كان انتماء ظاهرياً أم واقعياً، فأنت تدور في فلك معيَّن قد تخلص إليه ولكن لا يمكنك أن تفصح عنه.

2 ـ الوقوع في فلك الآخرين: وهذا الوقوع قد يكون رُسمت له الخطة، ولكنك لم تنتبه إليها منذ اليوم الأول، لذلك وقعت في شراكه، وهذا الأمر له مساحته، وهي ليست بالهينة وإن كانت خاصة ومحدودة.

3 ـ الوقوع لا شعورياً في أيدي الدوائر الكبرى: وهذا الأمر تسوسه واحدة من قوتين: الأولى قوة دولية تمتلك اليوم عصب الحياة في هذا الكوكب، من خلال البنك الدولي، وهيئة الأمم المتحدة ممثلة في مجلس الأمن خاصة، ولوبي صهيوني يدير العالم من وراء الستار، والجميع بعد ذلك يدفع الضريبة، وأوراقك تستقر بقدر ما تُحسن التعامل، وتُخلط أوراقك عندما لا تدرك ما يراد بك. كما أن الاستسلام للعبودية له أنماطه وآثاره الكبيرة والخطيرة في الوقت نفسه. 

والقوة الثانية هي القوة الدينية متمثلة في مؤسساتها تحت أي عنوان كان، وفي جميع المذاهب الإسلامية وغير الإسلامية، فهذه كلها تعيش حالة من سلب حركة العقل والفكر  حتى عند المريدين. لذلك تجد أنك في الدائرة التنظيمية الحزبية، ما لم تكن في سقف القيادة، فما أنت إلا ذلك الكادر المستهلَك الذي ليس له قرار في أي شيء مهما صغر، وهو واحد من الأمراض التي يترتب عليها تجهيل المجتمع، وأن يبقى في دائرة اللاوعي، فلا يدرك ما له وما عليه، لكي يقاد إلى حيث المصالح التي رسم معالمها وحددها أولئك النفعيون، وهم من بيدهم الحل والعقد في هذا الكوكب بشرقه وغربه.                 

 4 ـ الظلم والاضطهاد: وهو ما نراه بلا حدود ولا حساب، فقد أصبحت الأمم المتحدة اليوم تقاد كما يقاد الجمل المخشوش، لا تبحث عن مصالح الشعوب على وجه الأرض، إنما تبحث عن مصالح أربابها ومؤسسيها، فالأمم المتحدة اليوم لا تستطيع أن تُمضي قراراً ما لم يكن للسلطة في البيت الأبيض قرارها قبل ذلك. ولا توجد دولة على وجه الأرض لديها القدرة على أن تقول في داخل الأمم المتحدة: لا، إلا وقذف بها خارج السرب، حتى الدول العظمى من أمثال روسيا.

قد يقول قائل: ما الذي يعنينا في هذا الموضوع؟ الجواب: بل يعنينا كثيراً، فإن كنا ندّعي أننا ننتظر الإمام المهدي (عج) فعلى الأقل علينا أن نرتقي في ثقافتنا بما يتناسب وروح الانتظار، بحيث نعي ما يجري من حولنا. فأن تموت وأنت على وعي خير من أن تموت وأنت في غير هذه الحالة.

وبإمكاننا تجاوز هذه الألوان من العبودية والاستعباد من خلال معرفة ما لنا وما علينا، ولا عذر لأحد أن يقول: لا أستطيع، لأن وسائل التعلم اليوم متيسّرة وكثيرة.

علينا أيضاً أن نعلم أن كل منتَج فكريٍّ بين أيدينا اليوم يبقى في حدود مكوّنه البشري، محكوماً بالصواب والخطأ، حتى الرسالة العملية يحتمل أن يكون فيها خطأ وصواب، لأنها نتاج بشري. وكذلك كتب الحديث والتفسير وغيرها. لذا نجد أن علماءنا ومراجعنا وعلماء الأمة يذيّلون ما توصلوا إليه من نتاج بقولهم: والله أعلم. فلماذا يتركون هذه المساحة من الاحتمال فيما توصلوا إليه؟

أخيراً أقول: هنالك ثلاثة أبعاد لا بد من الالتفات إليها، وأخاطب بها الشباب الذين يُناط بهم رسم المعالم، وهي:

1 ـ أن التفكير شأن شخصي: بل قدرة شخصية، فبقدر ما تقرأ وتدرس وتلتحم في المناقشات، وبقدر ما تخلص إلى نتائج، بقدر ما تعيش وضعك الفكري.

2 ـ أن هنالك قناعات تسوس المنتج: فكما أن لك قناعة، كذلك غيرك له قناعة، ولي قناعة أيضاً. فلك أن تسمع كلامي وتناقشه، ولك أن تقبل أو ترفض أو تردّ، وتؤسس لفكر تراه أنت.

3 ـ أن أيّاً من الناس له انتماء: وانتماؤه يفرض نفسه عليه، سواء كان الانتماء مذهبياً أم حزبياً أم غيره، وهذا أمر طبيعي.

والإمام الجواد (ع) أحدث ثورة في وسط الأمة للخروج من دائرة الاستعباد الفكري، فبدلاً من أن نكرر دراسة حركة الإمام الفقهية ونستغرق فيها ـ وهي مهمة جداً بلا شك ـ علينا أن ندرس جهات أخرى في حياته (ع) فقد طرق الإمام (ع) هذا الباب، وأراد لك أن تخرج من هذا الأسر، وتتحرر من العبودية وطلب الاستعباد، لا سيما الاستعباد الفكري.

نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.