نص خطبة بعنوان: لمحة تاريخية من حياة محمد بن  أبي بكر

نص خطبة بعنوان: لمحة تاريخية من حياة محمد بن أبي بكر

عدد الزوار: 462

2013-12-23

ربيب الإمامة:

جاء عن مولى المتقين علي بن أبي طالب (ع) في محمد بن أبي بكر: «محمد ابني من صُلب أبي بكر»([2]).

نحن أمام قامة سامية رفيعة المقام، تلك هي قامة محمد بن أبي بكر، الشهيد المظلوم، رضوان الله تعالى على نفسه الزكية، الطاهرة المطهرة، الصافية المصفاة. فقد مرت بنا ذكرى شهادة هذا الرجل العظيم، والأمة في معظمها في غفلة عن شخصيته، رغم أنه يفترض أن يمثل نقطة الارتكاز بين الأطراف المتشعبة في أكثر من اتجاه، لأنه ابن الخليفة الأول عند المسلمين، وربيب عليٍّ (ع) خليفة الله في أرضه.

رجل جمع بين أسباب الكمال، في جانبيها الاعتباري والحقيقي. أبوه أبو بكر، الخليفة الأول عند المسلمين، وهو غني عن التعريف. وأمه أسماء بنت عميس الخثعمية رضوان الله تعالى عليها، وهي من تيم، كما أن الخليفة الأول من تيم، ولم يعيِّر أحدٌ الخليفة الأول بهذه النسبة إلا من يدعى بجدّ المؤمنين أبو سفيان، عندما دخل على علي (ع) والعباس وقال لهما قولته المشهورة، التي وردت في الكامل لابن الأثير([3]) وغيره، حيث قال: فيم أبو بكر من أموركم؟ ... ما بال هذا الأمر في أقل حيٍّ من قريش؟.

أسماء بنت عميس:  

إن هذه السيدة الجليلة الفاضلة لم تعطَ أيضاً ما تستحق من تسليط الضوء على شخصيتها، وهذا إما بسبب قلة المعرفة، أو عدم تحمل المسؤولية، أو عدم الرغبة الجادة في قراءة ما وراء السطور. ففي سجلِّها الشخصي أنها من الأوائل اللواتي أعلنَّ إسلامهنَّ، وأقررن لله تعالى بالربوبية، ولمحمد (ص) بالرسالة، وهذا بحد ذاته يعدُّ منقبة كبرى، فمما لا شك فيه أن المبادرة لقبول الحق تدلل على ما عليه نفسية المبادر لذلك من العلو والمعرفة.

كما أنها مجاهدة ومهاجرة سابقة، فقد هاجرت إلى الحبشة ووقفت إلى جانب زوجها جعفر الطيار (ع) فكانت من الثلة المصطفاة. فالذين هاجروا للحبشة كانوا على قسمين: أحدهما من تسلح بالعلم والمعرفة، لا سيما في الجانب العقدي، وعلى رأسهم جعفر الطيار، والآخر ممن لم يستقر الإيمان في قلوبهم. وإن دلّ هذا على شيء فإنما يدل على أن الإنسان يسير في الأرض وفي داخله صراع، يجذبه للأمام تارة، ويعيده للوراء تارةً أخرى. لذا فإن من يقرأ سيرة الهجرة للحبشة، التي عرفت بالهجرة الأولى، وهي فتح الفتوح للإسلام في بُعدها الجغرافي والتاريخي والعقدي، يجد أن جعفر الطيار الشهيد، استطاع أن يوصل الإسلام إلى أبعد المناطق قبل أن يأخذ الإسلام مساحته في أقرب المناطق له. ويبرز هنا ما للداعية والمبلغ من قيمة في نشر الدعوة في وسط الأمة.          

لقد هاجرت أسماء بنت عميس، وبذلت جهوداً مضنية في تهيئة الأسباب للصفوة التي هاجرت معها، وقطعت الفيافي والبحار لتستقر في الحبشة، حيث كانت المسيحية تضرب بأطنابها، مع وثنية متفرقة. ويبدو أن الحال لم يتغير كثيراً حتى يومنا هذا. فقد كانت هذه المرأة الجليلة على معرفة متقدمة بالأحكام الشرعية، فهي عالمة باصطلاحنا اليوم، بل يمكن للمرء أن يدعي أكثر من ذلك، بأنها كانت قادرة على تلبية متطلبات الساحة النسوية من حولها في جانب التشريع، وهذا يدل على أنها أمسكت بالأصول ولم تكتف بالفروع.

ومنشأ هذا الرصيد العلمي والمقام، كان من روافد التقت فانتهت بها إلى ما انتهت إليه.

لقد عرف عنها الإلحاح في السؤال، والإفادة قدر الإمكان من محضر النبي محمد (ص). فلم يكن قربها من النبي (ص) قرباً موضعياً، إنما كان قرباً روحياً، إذ شخّصت في النبي الأعظم (ص) أنه للرجل والمرأة على حدٍّ سواء، لذا أرادت أن تثبت للمرأة قدم صدق عند رسول الله (ص) وقد تأتّى لها ذلك. فإذا كان السائل بهذا الحجم، امرأة من المبادرات للإسلام، ممن بصمت على إسلامها بصمة خلود في هجرتها، في الاستفادة من رئيس الوفد المهاجر كزوج، فكان إصرارها وإلحاحها على إيجاد حالة الربط بين الجانب النسوي ورسول السماء (ص) قد بوَّأها هذا المقام.

والأمر الآخر أن هذه المرأة الجليلة تشرفت أن تكون زوجةً لمولى المتقين علي (ع) بعد وفاة زوجها أبي بكر، فبعد استشهاد زوجها الأول جعفر في مؤته، بنى بها الخليفة الأول، ثم توفي عنها بعد أن أنجبت له ابنه محمداً، فتزوجت أمير المؤمنين علياً (ع) وتربّت هي وولدها في بيته (ع). وبطبيعة الحال أن المرأة التي تتربى في بيت علي (ع) يكون لها من الخصوصية الشيء الكثير.

وقد يقول قائل: لقد تربت جعدة بنت الأشعث في بيت الإمام الحسن (ع) إلا أنها تسببت في قتله، فلمَ لم تستفد من هذا الكنف السامي والمقام الرفيع؟

الجواب على ذلك أن اللطف الإلهي كرامة للإنسان، ولكن هناك من يستحق اللطف في بدء الطريق، فيُفاض عليه، ثم يُحافظ عليه فيستمرّ معه، ويموت وهو عليه. وهناك من يضيّع وهو في وسط الطريق. فالشيطان ينزغ ويوسوس في صدور الناس، وكل من لا يتصف بصفة المعصوم يكون معرضاً لتلك الحالة، غاية ما في الأمر أن وعي الإنسان ومراقبته نفسه ومحافظته على مجموعة من الأمور تؤمِّن له الإصرار والمحافظة على المبدأ.

ولا بد هنا أن أهمس همسة قصيرة فأقول: من المثبتّات على المبدأ والولاء لعلي وآل علي (ع) المحافظة على تسبيح الزهراء (ع) فهو تحفة السماء لفاطمة (ع).

ثم إن أسماء بنت عميس كانت قريبة من أمير المؤمنين (ع) بعد زواجها منه، وهو القائل: سلوني قبل أن تفقدوني، فكانت تسأل علياً (ع) فيجيبها. إلا أن المشكلة أن هذه المرأة الجليلة لم يصل إلينا من موروثها إلا ما لا يكاد يذكر، وهناك أسباب كثيرة، منها أن موروثها مما طالته يد الشطب عند منع تدوين السنة، فذهب تراثها ضحية ذلك القانون الذي صدر بعد وفاة النبي (ص) فراح في أدراج ما ذهب من السنة، وكثيرة هي النصوص التي ذهبت أدراج الرياح.

ومنها أن المرأة عموماً لم تك لتؤمِّن لها موقعاً بما يتناسب وقيمتها في المجتمع كأم أو زوجة أو بنت أو أخت، أو كونها امرأة بشكل عام، لها ما للرجل من الحقوق.

فمحمد بن أبي بكر هو ابن هذه المرأة، بتلك القياسات والحسابات، وهو أخ لعبد الله بن جعفر من الأم، فأمهما واحدة هي أسماء بنت عميس.

المولود المبارك:

ولد محمد سنة حجة الوداع، وقد كانت أسماء بنت عميس في ركب زوجها في الطريق بين مكة والمدينة، فضربها الطلق، ووضعت محمد بن أبي بكر، وكان ذلك بمثابة البشارة. فوضع بين يدي النبي (ص) وأجرى عليه مراسيم الولادة، ومنها أنه دعا له، وما أدراك ما دعوة النبي (ص).

تميز محمد بن أبي بكر بمجموعة من الصفات، منها كثرة العبادة، حتى عرف بالعابد لكثرة عبادته، كما عرف عنه الزهد والنسك، فهناك من هو زاهد، إلا أنه ليس بناسك، فيجعل من الزهد فخاً لاصطياد الدنيا، أما من يجمع بين الزهد والنسك فهو الذي يستطيع أن يتخطى المراتب الواحدة تلو الأخرى حتى يصل إلى مرتبة الكمال، وكان الشهيد محمد بن أبي بكر واحداً من تلك الأسماء، إذ كان زاهداً في الدنيا، مع أنه ابن خليفة.

كما أن واحدة من الصفات المميزة له هي المعرفة بإمام زمانه، لذا لم تتقاطع عنده الطرق، إنما سار على المحجة البيضاء والصراط المستقيم، فكان لديه هدف تعلق به وسار للوصول إليه وتمكن من الوصول والثبات والاستقرار.

المحارب الفارس:

أضف إلى ذلك أنه كان من المجاهدين الذين حملوا أرواحهم على أكفهم، وجابوا بها سوح الوغى، ولم يكن ذلك تحت كل راية، إنما كان دقيقاً في اختياراته، فكانت أولى المعارك التي خاضها في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وهي معركة ذات الصواري مع الروم، فعندما لمس الروم أن ثمة خللاً وتصدعاً في الصفِّ الإسلامي أيام خلافة الثالث، أرادوا أن يفاجئوا الإسلام، فجيَّشوا الجيوش، وتصدى لهم المسلمون للحفاظ على الموقع الإسلامي، وكان محمد بن أبي بكر من المتقدمين، وكان له دور كبير في تلك المعركة.

وقد كان قبل ذلك عنصراً فاعلاً وقوياً في مجريات معركة الجمل، التي خاضتها أخته عائشة في مقابل إمام زمانها علي (ع). وليس هذا أمراً سهلاً، إذ كيف يمكن لشاب من بيت الخلافة، في ريعان شبابه وفتوته وفطنته، أن يرى أخته في خندق، فيتخندق هو في خندق آخر، وينأى بنفسه عن حساب المجاملات؟ لا شك أن هذا الرجل كان على درجة عالية من الوعي والصدق مع الله والنفس.

وعندما خسرت أم المؤمنين ومن وقف إلى جانبها المعركة، بفضل ضربات علي (ع) ولّى محمداً أمر أخته، وأمره أن يدخل الهودج عليها، ليرى ما إذا كانت قد أصيبت بمكروه! فما أكبرك يا علي! وما أقل قدر الأمة التي لا تعرف قدرك! فتولى محمد أمر أخته، وأعادها إلى المدينة معززة مكرمة.

أما في معركة صفين فكانت له يدٌ طولى، وقدم راسخة، وكان مع أويس القرني على الميمنة، وقيل أن علياً (ع) جعله على الرجالة، وقد أبلى في تلك المعركة بلاءً حسناً، بحيث أوغر صدر خليفة الشام، فصار يسأل: من على الرجالة؟ فيجاب: إنه محمد بن أبي بكر، فامتلأ صدره غيظاً عليه. فكان محمد بن أبي بكر من أهم العوامل في حسم المعركة، إلى جانب علي (ع) وأويس ومالك وغيرهم.

وبعد انتهاء معركة صفين ولّى عليٌّ (ع) محمد بن أبي بكر مصر، وكانت آنذاك من أهم الأقاليم الإسلامية، ولم يطل به المقام في مصر إلا شهراً واحداً في تسيير أمور تلك البلاد المترامية الأطراف، فتحركت حسيكة النفاق في نفوس بعض المصريين، ووجد خليفة الشام ضالته في تلك الثغرة، فأرسل جيشاً لمقاتلة الوالي الشرعي على مصر من قبل الخلافة الراشدة الحقة، بعد أن حرك عمرو بن العاص الأمور. فتوجه الجيش نحو مصر، وتخاذل الكثير ممن كان مع محمد، فاختبأ مع جمع من المخلصين ممن كانوا معه في بيت أحد المصريين الذين يعيشون الحب والولاء الصادق لمحمد وآل محمد (ص).

وضيق معاوية الحصار عليهم، وانتهت الأمور بتصفية هذا البطل وهو في ريعان شبابه، فقد كان عمره حين استشهاده ثمانية وعشرين عاماً.

لقد استطاع هذا الرجل أن يستفيد بجهوده الخاصة من المحيط الذي كان يعيش فيه، وهو بيت علي (ع)، إذ كان يعيش بين الحسن والحسين (ع). تعذى من صدر الإيمان، واستظل بنوره. فلم يُخلق معصوماً، إنما استطاع أن يوجد لنفسه حالة من الكمال، فهو حجة كبيرة علينا، وقدوة لمن كان يبحث عن قدوة أو رمز.

الفقيد الشهيد:

وقد حزن عليه أمير المؤمنين (ع) حزناً شديداً عندما بلغه خبر مقتله، حتى داخله الوجد على فراقه، ولم تكن المسألة تتعلق بمقتله فحسب، إنما هي الْمُثلة التي قام بها الأمويون بعد قتله، فلم يراعوا فيه حتى حق الخليفة الأول عليهم، وهذا إنما يدل على أمر طالما كنت أؤكده وأكرره، وهو أن الكمال في الوجود يعري الناقصين، فبقاء محمد بن أبي بكر ثمانية وعشرين عاماً على قيد الحياة يعني تعرية الكثير من الوجوه، لأنه ابن خليفة، وربيب الخليفة بالحق، ومجاهد من الطراز الأول، وعابد لا يزايَد على عبادته، وناسك وعارف، وهذه الورقة تبعثر الكثير من الأوراق.

فابن الأثير صاحب الكامل، أحد كتّاب التاريخ، وبظني أنه كان على درجة جيدة من القراءة للوضع التاريخي المستبطَن في النص، غير أنه ـ مع شديد الأسف ـ لم يذهب بعيداً مع قراءة النص (فلسفة التاريخ التي أصلت لها في خطب سابقة) وإلا لاستطاع أن يثري المشهد، ويخرج الأمة من الكثير من بؤر التوتر والتأزيم.

يقول ابن الأثير: فقال لهم محمد: اسقوني ماءً، فقال له معاوية بن حُدَيج: لا سقاني الله إن سقيتك قطرةً أبداً، إنكم منعتم عثمان شرب الماء، والله لأقتلنَّك حتى يسقيك الله من الحميم والغساق. فقال له محمد: يا بن اليهودية، ليس ذلك إليك، إنما ذلك إلى الله يسقي أولياءه، ويظمئ أعداءه أنت وأمثالك. أما والله لو كان سيفي بيدي ما بلغتم مني هذا([4]). ثم قال له: أتدري ما أصنع بك؟ أُدخلك جوف حمار، ثم أُحرقه عليك بالنار. فقال محمد: إن فعلت بي ذلك فلطالما فعلتم ذلك بأولياء الله، وإني لأرجو أن يجعلها عليك وعلى أوليائك معاوية وعمرو ناراً تلظى، كلما خبت زادها الله سعيراً. فعضب منه وقتله، ثم ألقاه في جيفة حمار، ثم أحرقه بالنار([5]).

فلما وصل الخبر إلى أمير المؤمنين (ع) حزن عليه حزناً شديداً، وكتب إلى عبد الله بن عباس، وكان والياً على البصرة: أما بعد فإن مصر قد افتتحت، ومحمد بن أبي بكر رحمه الله قد استشهد، فعند الله نحتسبه ولداً ناصحاً، وعاملاً كادحاً، وسيفاً قاطعاً، وركناً دافعاً، وقد كنت حثثت الناس على لحاقه، وأمرتهم بغياثه قبل الوقعة، ودعوتهم سراً وجهراً وعوداً وبدءاً، فمنهم الآتي كارهاً ومنهم المعتل كاذباً، ومنهم القاعد خاذلاً، أسأل الله تعالى أن يجعل لي منهم فرجاً عاجلاً([6]).

أسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.