نص خطبة بعنوان: قراءة في فلسفة تاريخ الطف (2)

نص خطبة بعنوان: قراءة في فلسفة تاريخ الطف (2)

عدد الزوار: 486

2014-01-12

مرحلة الإصلاح في أوربا:

كان الحديث في الأسبوع الماضي حول ما شهده العالم، خصوصاً في جانبه الغربي، من تحولات كبرى ترتب عليها الكثير من التغيرات، في الكثير من المواطن. وقد تحدثنا عن المرحلة الأولى، وهي النهضة التي قام بها أرباب الفكر وأعلام الثقافة وأساتذة الأدب والنقد في وجه الحق الإلهي المجيَّر لصالح الرهبنة في الكنائس.

أما المرحلة الثانية فكانت الإصلاح، وقد ذكرت في إحدى المناسبات أن نظرية المرحلية في أي حراك كان يفترض أن تأخذ هذا المسار المرحلي، لأنها تعطي مجالاً لالتقاط الأنفاس، وترتيب الأوراق، وتصحيح الخلل، على العكس من ذلك فيما لو حصلت الأمور دفعة واحدة. وليس هذا حصراً في البعد السياسي، إنما في جميع الأبعاد، حتى النقلة الحضارية، فهي تستوجب المرحلية، وإلا أحدثت ردود أفعال، وعندما تصدر ردود الأفعال فإنها لا تصدر عن وعي أو عقل مسيس لذلك الفعل، لذلك تكون النتائج في منتهى السلبية والخطر والارتداد على أصل الحركة. وبظني أن من تأثر بمسارات التغيير في الدول الغربية، من أتباع الدول الشرقية، لم يقرأ المشهد على نحو الصورة المكتملة، لذلك نجد أن الإخفاقات والفراغات تتسع يوماً بعد يوم.

لقد كان لحركة الإصلاح ظرفها الزمني، وهو القرن السادس عشر، بينما كان ظرف مرحلة النهضة هو القرن الخامس عشر، أي أن هناك مرحلة من الزمن امتدت لقرن كامل، انتظر فيها المغيرون المصلحون المجددون جيلاً بعد جيل، ممن يحمل الراية ويصحح ثم يندفع ثم يحدث التغيير. وهذه الحركة إنما تنتج عن العقل الواعي المدرك الذي قُوِّمت أساساته على أساس من القوة والاستحكام.

وكان منطلق هذه المرحلة عين المنطلق الأول في النهضة، ولكن بلحاظ القيد المضاف في تمظهر آخر. فهي ثورة ضد الحق الإلهي أيضاً، لكنه الحق الإلهي الممنوح للعوائل والنظم الحاكمة لنفسها بنفسها. وهذا أمر مهم، بمعنى أن سلطة السماء تُشخَّص من خلال الحاكم، فكأنما هو وجه الله في الأرض، ويده التي يبطش بها، وهي التي تُمَدُّ للعطاء إذا ما شاءت، وهي التي تغل إذا ما أرادت أن توقع في الطرف الآخر ما تريد أن توقعه.

لقد وجد أصحاب الحركة الأولى (النهضة) أن النهضة بما هي نهضة، التي تعني التمرد على الحق اللاهوتي في جانبه الديني الكنسي فقط، لا توصل إلى نتيجة، ولا بد من متمم، وهذا المتمم هو إصلاح ما أحدثته النهضة، أي أنهم أمضوا مئة عام في التفكير والتنظير والترتيب ليصححوا الخلل، أو بمعنى آخر أنهم في مرحلة النهضة حققوا نجاحاً، وكسروا تلك العبودية والتبعية العمياء للكرسي الكنسي الذي كان يستفزّهم في كل شيء، لكنهم لم يلحظوا ما قد يترتب على ذلك من الآثار.

ولنأخذ مثالاً توضيحياً من واقعنا الذي نعيشه اليوم، وهو أن الشعوب اليوم عندما تنهض في وجه الدكتاتور الذي يصادر أبسط الحريات، ثم يُسقَط، ولكن دون إعداد السيناريو المتناسب مع ما وراء إسقاطه، فستكون النتيجة ما نراه في ليبيا وغيرها من الدول. ذلك لأن الأمة لم تصل بعد إلى درجة من الكمال والرشد والوعي بحيث يدفع بها من موقعها الأول إلى موقع جديد، لذلك تفرز الأمة بمرور الأيام دكتاتوراً بثوب جديد، قد يرتدي عباءة الدين أو عباءة المدنية، والنتيجة واحدة.

فلما غابت الكنيسة عن المشهد في أوربا جاءت العوائل لتملأ الفراغ، كما جاء بعض النفعيين الذين تحركوا ضمن الحراك الأول النهضوي، فكانوا يشكلون طابوراً بعد طابور. فقد أنتجت الحركة الأولى النظم الملكية، وكانت تعم أوربا من شرقها إلى غربها، وكانت العوائل من القياصرة وأمثالهم، وإلى جانب هذا كانت جمهوريات خجولة هي أشبه بالمقاطعات المضافة إلى تلك الممالك المترامية في الجانب الغربي من الكرة الأرضية.

ورغم أن هؤلاء وضعوا مجموعة من النُّظُم، إلا أنها ضمن ما يمكن أن يؤمِّن لهم الحق الإلهي الممنوح (بالسرقة) فأصبح الحاكم آنذاك، يلبس عباءة السماء، ويجاري اللاهوت الكنسي، وإن كان في داخله لا ينتمي إلى عالم ذلك اللاهوت، فكان يتحرك من خلال كرسي المدنية. وهكذا سادت العديد من العوائل، ونما المجتمع الأوربي في تلك الأحوال.

نتائج مرحلة الإصلاح:

ورب سائل يسأل: هل هنالك ثمرة ترتبت على المرحلة الثانية (مرحلة الإصلاح) بحيث ترتَّبَ عليها ما يمكن أن يعتدَّ به في مقابل ما تمت التضحية به؟ باعتبار أن أوربا دخلت في جحيم لثلاثة قرون من الزمن، وكانت هناك طاحونة حرب، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم. فمن الخطأ التصور أن ما حصل في أوربا كان صناعة جاهزة، فقد كانت الحروب طاحنة بين الدولة والدولة، والإقليم ومثيله، والقرية والأخرى، وتشكلت مجموعة من المنظمات السرية التي تصفّي على الهوية أو العرق أو غير ذلك. بل حتى لو قرأنا أوربا في جانبها المادي بشكل صحيح لرأينا فيها الكثير مما لا يطفو على السطح، فحالها حال من يسرق من مزرعة جاره ليعيش على ما يسرقه، فهم يعيشون على دماء غيرهم بعد أن نقلوا اللعبة من مساحتهم إلى مساحة غيرهم. لكن الأمة التي لا تريد لنفسها إلا هذا الحال فهذا جزاؤها.

وللجواب عن سؤالنا نقول: لقد أحدث هؤلاء تغييراً كبيراً، وجعلوا الحكم للأمة، لكنهم أساؤوا الاستفادة من ذلك، فجاءت المرحلة الثالثة، وهي مرحلة التنوير.

مرحلة التنوير:

إن هذه المرحلة التي أعقبت مرحلة الإصلاح، انتهت بنهاية القرن السابع عشر، وهو الظرف الذي احتضنها، وقد مرّ عليها ما يربو على ثلاثة قرون، إلا أن الكثير من أتباع مدرسة الشرق لا زالوا إلى يومنا هذا لا يدركون مؤدَّى كلمة (التنوير)!

لقد شغل التنوير مساحة القرن السابع عشر، لأنه وجد أن الخطوة الأولى (النهضة) لم تؤت ثمارها، وكذلك الخطوة الثانية (الإصلاح والتصحيح) حيث بسطت العوائل نفوذها ودخلت في عباءة الإله، وصارت تسير الأمور بالفتوى. فراجعت جماعة التنوير الحسابات، فرأت أن تعيد الغربلة من جديد، ورفعت شعار (التنوير).

وملخص معنى التنوير أن الأمة كثيراً ما تركن إلى شيءٍ ما، هو من الثقل بمكان، بحيث يكون أقرب شبهاً بالقيد المادي، منه إلى القيد المعنوي. فهو وإن كان في حقيقته قيداً مادياً، إلا أنه لا يقل خطراً عن القيد المادي، بل هو أكثر خطراً من ذلك. فرأوا أن حركة التصحيح السابقة لا يمكن أن تؤتي ثمارها، ما لم يصاحبها تنوير الأمة فكرياً، أما حشد الناس في الشارع، وإسقاط سلطة الدين، ثم إسقاط السلطة المدنية فلا توصل إلى نتيجة، ولا بد من بناء الأمة من الداخل أولاً.

وهذا في الحقيقة نفس المعطى الأول لحركة النبي محمد (ص) فعندما بُعث للأمة من الله سبحانه وتعالى، كان شعاره الأول: «قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» فالفلاح المنشود من قبل النبي (ص) كنتيجة، لا بد أن يتكئ أولاً على التوحيد، كما أن له مساحاته وأبعاده، فهو ليس محصوراً جغرافياً في حدود ضيقة في مكة، ولا زمانياً في زمن البعثة، إنما يأخذ سعته من خلال المنطلق الذي على أساس منه انطلق النبي (ص)، وهو طلب الفلاح للبشرية، لا للقرابة، ولا لأهل البلد الذي يعيش فيه، ولا أصحاب اللغة التي ينتمي لها. فالخطاب عام للجميع، لكن الأمة شحَّت على النبي (ص) حتى في هذه الكلمة، والأحداث معلومة مسجلة، فكان أبو لهب مثلاً قد رفع الحجر ورمى به النبي (ص). وقال له حين جمعهم وطلب منهم المؤازرة: تبّاً لك يا محمد، ولما جمعتنا من أجله.

وربما يظن البعض أننا نقسو على أولئك الذين عاشوا في ذلك الزمن، إلا أننا نرى اليوم أمثالهم بأم أعيننا، ممن يقال له: النور خير من الظلمة، فلا يرضى إلا بالظلمة، أو يقال له: الغنى خير من الفقر، فلا يرضى إلا بالفقر، وبقاء الحال على ما هو عليه.

لقد ثار دعاة التنوير في أوربا من أجل هدف محدد، وهو أن يتجاوزوا بالمجتمع دائرة القطب الضيق، سواء كانوا أسرة حاكمة، أم جماعة، تنظيماً كان أو تحزباً أو تشكيلاً، حال أنهم يلبسون عباءة السماء، وأرادوا بذلك أن ينوِّروا الأمة، فبدأت حركتهم لحفظ الحق المدني.

ونحن عندما نقرأ مثل هذه الأمور، فإننا نجد أنفسنا أمام إشكالية كبيرة جداً، فالعقد الاجتماعي من أهم الأسس التي تحرك على أساسها أتباع نظرية التنوير، ولكن حتى هؤلاء عندما تسألهم: أين أنتم من العقد الاجتماعي؟ تجد أن الفاصل بينهم وبينه كما بين السماء والأرض، ولا أريد أن أطيل في ذلك، لأنه يحتاج الكثير من الشرح والتوضيح، لذا أعتمد على قراءاتكم ومعرفتكم.

ضرورة الوعي في أوساط الأمة:

إن هذه الفكرة كان يُفترض فيها أن تبنى على أساس الوعي، لأنه الجوهر المحرك لكل عملية تغيير، أما الغوغاء فلا يوصلون إلى نتيجة. فقد يقول البعض مثلاً: إننا لا نستطيع استيعاب أن ثمانية عشر ألفاً من أهل الكوفة بايعوا مسلماً ثم تخلَّوا عنه، فهؤلاء لم يكونوا يمتلكون من الوعي شروى نقير([3])، فلا غرابة في ذلك، لأن الإشكالية ليست في العدد والكمّ، إنما هي في النوع.

والمنشأ لعدم الوعي هو عدم وضوح الفكرة عند المتلقي، وهناك عوامل عديدة تشترك في عدم وضوح الفكرة، منها:

1 ـ الإطناب: الذي يستوجب الإخلال بأصل الفكرة، إذ لا يستطيع المتلقي الاستمرار مع المتحدث أو الكاتب إلى النهاية.

2 ـ المتلقي: بأن لا تكون له من الأساس قناعة في الفكرة، لأنه يجتر موروثه، ولا يقبل بأدنى شيء مما يستوجب النقلة، أو على الأقل لفت النظر. ومن هنا نُعت النبي (ص) بأنه مجنون، لأن العقول لم تكن تتحمل ما يطرحه، كما نُعت بأنه ساحر، لأن ما كان يطرحه أذهلهم، على الرغم من أنه من داخل وجدانهم، وقد أرادهم أن يعودوا إلى الفطرة التي فطرهم الله عليها، ولكن لبعدهم عن الفطرة، بسبب ما اكتسبت أيديهم من الإثم أصبحت الصورة معماة عليهم.

3 ـ تداخل المفاهيم المطروحة: حيث يوصِل إلى عدم القبول بالقضية أو النظرية أو الأطروحة. وقد يكون صاحب الفكرة قاصداً ذلك منذ أول وهلة، وقد يكون الهدف خلاف ذلك، أي أنه يريد إيصال الفكرة، لكن الآلية التي أراد الوصول من خلالها إلى الهدف ليست لديها الصلاحية أن توصل الإنسان مع فكرته فتكبو به، فيقع وتسقط الفكرة، ويبقى المجتمع يراوح مكانه.

وقد يكون ذلك لفرض الواقع على المجتمع كي لا يخرج من دائرته، لأغراض وأهداف ومطامع ومكاسب ومصالح يريدها صاحب الفكرة، لذلك تراهم يحسبون كل صيحة عليهم، كما يصفهم القرآن الكريم. فلا تلبث أن تقترب من مساحة أحدهم دون قصد، بل لم يكن القصد الاقتراب من مساحته، تراه ينتفض، في حين أن الكلمة بعيدة ليس لها مساس إلا ما يرتبط بالأنا الداخلية. لذا أصبحوا لا يحاكمون على أساس أرض الواقع في الخارج، إنما على أساس النوايا، فتقول لأحدهم: إنني أردت هذا المعنى، فلا يرضى بذلك، ويجعل من نفسه متحكماً بالنوايا.

وقد حدث هذا الأمر مع الأنبياء والأئمة (ع)، ومنهم نبينا محمد (ص) والإمام علي  والحسنان (ع) حتى وصل الأمر بمن قاتلوا الحسين (ع) أنهم قالوا له: نقاتلك بغضاً لأبيك، فجعلوا ذلك مبرراً لمقاتلته، وأغلقوا الطريق وانتهى الأمر.

إن البعض لا يروق له أن تأخذ بيد الجيل الصاعد نحو آفاق لم تكن مطروقة بالأمس.

4 ـ عدم ترتيب الأولويات في مقام الترتيب بين المهم والأهم: فمن يعيش مرحلة ترتيب الأهم على المهم سوف يدفع الضريبة، وإن كانت باهضة التكليف. فكان بمقدور الإمام الحسين (ع) أن يقبل بأنصاف الحلول، وأن لا يدخل في تلك المعركة، ليحقن الدماء، فلمَ قام بهذا الجهد المضني المكلف إلى حدّ التضحية بالنفس، وتعريض العائلة إلى ما تعرضت إليه؟ كل ذلك لأنه كان يدرك الهدف الأهم، وهو أن تبقى كلمة التوحيد عالية، واسم النبي (ص) مرتفعاً. وهذا لا يتأتى إلا من خلال تنوير عقول الأمة. وإلا فإن الحر بن يزيد الرياحي كان قائداً كبيراً لفيلق من الجيش، وقد جعجع بالحسين (ع) ولم يترك له الحرية في التحرك، لكنه لما رجع إلى الأنا الداخلي، وعاد إلى نفسه، استطاع أن يصحح المسار، فعاش مرحلة التنوير، وتجاوز جميع العقبات والمكاسب الوهمية التي وقع تحت طائلتها آمر الجيش عمر بن سعد، عليه من الله ما يستحق.

وعدم ترتيب الأولويات يعتبر مشكلة كبيرة حتى في حياتنا اليومية، فمن الأمثلة على ذلك أن يكون لدى بعضنا مقدار من المال، ولديه ولد أعزب تقدم به العمر، لكنه يسافر في الصيف، فيقدم السفر، ويؤجّل تزويج الولد. وعلى هذه فقس ما سواها.

5 ـ الخوف من المجهول: فالبعض يحارب الفكر النير المتقدم القابل للتصحيح في واقع الأمة إنما يخاف من المجهول، كأن يخاف من تقدم فلان وفلان في وسط الأمة في الآتي من الأيام، فيقع تحت مطرقة الحسد.

يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): «لله در الحسد ما أعدله، بدأ بصاحبه فقتله»([4]).

إن بعض المرويات التي تشير إلى أن تسعة أعشار الحسد عند الفقهاء ليست بعيدة عن الواقع، إنما لها العديد من المصاديق، بل قد يشارك بعضهم الناس في العشر العاشر.

6 ـ الركون إلى الموروث القديم: وهو أشد المراحل التي عانى منها النبي (ص) والقرآن صريح في ذلك حيث يقول: ﴿بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى‏ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى‏ آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ ~ وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ في‏ قَرْيَةٍ مِنْ نَذيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى‏ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى‏ آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ([5]).

وقد مكث النبي (ص) في مكة ثلاثة عشر عاماً لتفكيك هذه القاعدة في نفوسهم، ويصلح الأرضية، فلم يخرج معه منها سوى أفراد معدودين، ولم تدخل مكة الإسلام إلا بعد الفتح، حيث دخل الناس في دين الله أفواجاً. وهكذا نحن اليوم، فالبعض منا قد يحتجّ بأن العلماء السابقين لم يقولوا ما تقولون. ولكن، لو قُدِّر لعالم من علماء الماضي أن يُبعث اليوم ليعمل في وسط الأمة، فهل يتعامل مع الأمور بعقليته السابقة في تلك القرون؟ إن الدنيا تغيرت، وتحولت فيها الكثير من الأمور.

كنت أحد الأيام أمزح مع أحد الإخوان، وكان يحمل دفتراً أصفر اللون، ومحبرة فيها حرير كي لا ينسكب الحبر، وقلم من القصب، فكنت أظن أنه يتعلم فنّ الخط، لأن هذه المستلزمات ضرورية في هذا المجال، إلا أنني اكتشفت أنه يؤلف ويكتب! فلما سألته عن السر في ذلك قال: أتذكّر بهذا أيام المجلسي! فقلت له: وهل كنت تعيش معه لتتذكر أيامه بهذا؟

ودخل أحدهم على آخر فسأله: هل طبعتم الكتاب؟ قال: نعم، قال: أين؟ قال: في بيروت. قال: لكننا نسمع أن لبنان أفضل في الطباعة!.

رحم الله روح الإمام الخميني، تلك الروح المطهرة المتنورة والمنيرة في الوقت نفسه، فقد غير من واقع الأمة لأنه أحدث تغييراً في أساسات التفكير.

الإمام السجاد (ع) دمعة للتغيير العام:

من الخطأ أن يتصور البعض أن الإمام السجاد (ع) كان يستدر دموع الناس من أجل الدمع فحسب، إنما كان يستدرها من أجل التغيير، إنما هي صرخة في وجه العرش الأموي، لذا استطاعت أن تحدث تغييراً. فهو أول من وضع حجر الأساس، وفتح الأبواب على مصاريعها للمؤسسات الخيرية في كيان الأمة الإسلامية.

إننا قد ننسب لأئمتنا أموراً نتصور أننا من خلالها نجعلهم كباراً، وهذا وهم في العقول، لأنهم هم الذين يمنحون الكبرياء ويهبونها لمن أرادوا، لذلك فإن الإمام زين العابدين طرق هذا الباب، فكان يعول خمسمئة عائلة من خلال مؤسسته الخيرية في بيته، لأن التركة كانت ثقيلة بعد واقعة الحرة.  

   هذا من جهة. ومن الجهة الأخرى كانت ظاهرة الرق متفشية ومنشرة، لأن المجتمع المدني مجتمع طبقي، فهناك ثراء فاحش، وفقر مدقع ساحق، فتجد في البيت الواحد العديد من الأرقَّاء قد يصلون إلى العشرين أو أكثر، ففتح الإمام زين العابدين الباب لهؤلاء لإخراجهم من الرق. لذلك خطا عدة خطوات، أهمها:

1 ـ أكثرَ من شراء العبيد: فكان هذا الشراء مقدمة لحركة التحرير، فكان يشتري العبد ثم يحرره.

2 ـ أعاد إلى نفوس العبيد روح الإنسانية التي سُلبت منهم من قبل الأحرار، وفي الحقيقة ليس هنالك من هو حر أو عبد بناء على اللون، فقد يكون الحر عبداً والعبد حراًن إلا أنه القدر الذي آل بهم إلى هذا المآل.

3 ـ غرس روح الحب للعلم والمعرفة في من وقع تحت يده من العبيد الأرقاء، ثم قام بتحريرهم، وهذا مكسب كبير.

4 ـ تشجيع العمل والكسب عند المحررين: فقد التزم بنداً مهماً، هو أنه لم يترك العبد المحرر كَلاً على المجتمع، إنما أحدث له طريقاً لتحصيل الرزق والعيش الكريم، فكان يعتقه، ثم يضع في يده بدرة فينها خمسمئة درهم، ويدفعه باتجاه ممارسة حياته الطبيعية، ليعيش عيشاً كريماً.

فلا ينبغي أن نختزل حياة الإمام السجاد (ع) بكونه رجع من كربلاء فجلس في بيته يبكي على الحسين (ع) ويستدر الدموع، إنما كان ثروة وثورة، فهو ثروة في رسالة الحقوق والصحيفة السجادية وغيرهما، وثورة في التغيير الاجتماعي.

فمن منا رجع إلى رسالة الحقوق أو الصحيفة السجادية ليقرأهما في هذه المناسبة؟ وكم منا من تبتل بالصحيفة خلال هذا اليوم المسمى باسم الإمام السجاد (ع)؟ أليس هذا من تعظيم شعائر الله؟ إن التعظيم لا بد أن يكون من خلال ما أراده محمد وآل محمد (ص). ومن ذلك أن نحببهم إلى الناس، بنشر محاسن كلامهم، لا أن نضع الطين على أجسادنا، أو نُسيل الدماء، فأهل البيت (ع) قرآن ناطق، ووحي السماء المجسد على الأرض، والطهارة والنقاء والصفاء والعلم والمعرفة والخلاص والنجاة، ولا مجال لأحد أن يزايد على الآخر في حبه لهم، والقافلة تسير، شاء من شاء وأبى من أبى، وجمهورنا سائر نحو التنوير الذي أراده الإمام الحسين (ع) للأمة أن تسيره وفق معطياته.

وليس الأمس كاليوم، صحيح أن هناك ضريبة تُدفع، ومن ليس لديه استعداد أن يدفع ضريبة ما يقدم فعليه أن يجلس في بيته.

إننا لم نعرض دور الإمام زين العابدين (ع) الذي قام به حتى في كربلاء، وهو دور التشريع، إذ لا مشروعية لحركة كبرت أو صغرت، أو قول يصدر من امرأة أو رجل أو طفل في كربلاء إلا من خلال شرعية الإمام زين العابدين التي يمنحها لهم، سواء في كربلاء أم الكوفة أم الشام، ثم المدينة، حيث يقف على بابها قبل أن يدخل، ويلتفت إلى بشر بن حذلم فيقول له: رحم الله أباك لقد كان شاعراً، فهل تقدر على شيء منه؟ فقال: نعم، قال (ع): ادخل المدينة وانعَ أبا عبد الله (ع). وهو بهذا الفعل لم يكن يريد من أهل المدينة البكاء على الحسين (ع) إنما فعل ذلك لأنهم لم يكونوا أحسن حالاً من أهل الكوفة، ولو كانوا كذلك لركبوا خيولهم، ودكوا حصون الكوفة على ابن زياد، فقد كانوا أسوأ حالاً من أهل الكوفة، وقد ورد عنهم (ع): «ما بمكة ولا بالمدينة عشرون رجلاً يحبنا».

لذا بعث بشر بن حذلم، فوصل إلى مسجد النبي (ص) وأمسك بعضادة الباب، وهو يقول:

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها       قتل الحسين فأدمعي مدرارُ

فضجت المدينة بالصياح، ولكن ما الذي حصل بعد ذلك؟ دخل الإمام (ع) داره، ودخلت النسوة والأطفال، وانتهى الأمر.

جعلنا الله وإياكم ممن يستنير بهدي محمد وآل محمد (ص).

وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.