نص خطبة بعنوان :في رحاب النبي (ص) بين التأسيس و التفريع

نص خطبة بعنوان :في رحاب النبي (ص) بين التأسيس و التفريع

عدد الزوار: 1658

2016-12-06

الجمعة 1438/3/2

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

عظم الله أجورنا وأجوركم في نبي الرحمة، وبارك الله لنا ولكم ذكرى ميلاده وميلاد حفيده الإمام الصادق (ع) القادم علينا إن شاء الله باليمن والبركات.

طبيب البشرية ومنقذها:

وخير من يقدم لنا محمداً (ص) رب محمد حيث يقول: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ﴾([2]). وخير من يبين لنا الخطاب السماوي في الذات المقدسة لمحمد (ص) هو المولى علي (ع) حيث يقول واصفاً حاله مع آحاد الأمة من حوله: «طبيبٌ دَوَّارٌ بطبِّه، قد أحكم مراهمه، وأحمى‏ مواسمه،‏ يضع ذلك حيث الحاجةُ إليه، من قلوبٍ عُمي وآذانٍ صُمّ، وألسنة بكم، متتبعٌ بدوائه مواضع الغفلة، ومواطن الحيرة»([3]).

لم تكن النبوة لتحدث فاصلاً بينه وبين المسلمين، بينه وبين الصغير أو الكبير أو الذكر أو الأنثى أو القوي أو الضعيف أو القريب منه في المدينة أو الآتي من فيافي البيداء، بل كان صدره يستوعب الجميع، وعلمه يفرغه على الجميع، وأخلاقه بمساحة السماء والأرض، استوعبهم وأفرغ عليهم وأخذ بأيديهم فضحَّوا من أجل الدين، وسافروا بالرسالة إلى أصقاع الأرض، فما كانت الشمس في يوم من الأيام إلا لتشرق على حدود الدولة الإسلامية شرقاً، لتغيب على الطرف الآخر غرباً.

لم يكن ذلك بسبب سيف صارم يفصل الرؤوس عن الأجساد، إنما كانت حركة تتبع واقعاً تجسد في ذات النبي محمد (ص).

كان النبي الأعظم (ص) طبيباً دوّاراً بطبه، يتحرك في جميع الاتجاهات، حتى في مواقع الحرب الفاصلة، وكان يقدم الطرح بعد الطرح، والتوجيه بعد التوجيه ليثبت من خلال ذلك الحكم. لذلك سار الجنود المسلمون سيراً سُجُحاً يجمعهم الإخلاص والتوجه لله سبحانه وتعالى، لم يجهزوا على جريح، ولم يتعقبوا شريداً، ولم يروّعوا امرأة في خدرها، بل على العكس من ذلك، جرت تلك الأمور جراء صياغة دقيقة أحكمها النبي الأعظم محمد (ص).

إنه طبيب دوّار بطبه يتنقل من مكان إلى مكان، يثبت القواعد على أساس من العلم والمعرفة، بعد أن هيأ الأرضية هدياً وسلوكاً. وقد أحكم مراهمه، لأن العصمة هي العصمة. وأحمى مواسمه، فهنالك مواقع لا بد من استئصالها أو إجراء عملية الكيّ لها، لذا تحرك النبي (ص) في بعض المساحات والمواقع، فضحى بالجزء لكي يحفظ الكل.

وكان يضع ذلك حيث الحاجة إليه، فلم يكن عمله عبثياً، وحاشا أن يصدر منه ذلك، ولم يكن ذلك الأمر بعيداً عن حال الحسابات وتوخي المحذورات، بل كان كل ذلك في عين النبي (ص).

كان عندما يضع تلك المواسم في مواضعها يعلم ما يترتب على ذلك في ذات الموضوع، وما قد يتداعى له هنا أو هناك، لكنها الصنعة التي لا تتفق إلا مع المعصوم ومن تمثل خطاه، لأن النبي (ص) لا يصانع وجوه جماعة من حوله قربوا أو بعدوا، إنما كان يصانع وجهاً كفاه سائر الوجوه، وهو الله سبحانه وتعالى، ولو أنه بنى سير الرسالة على أن يكسب فلاناً أو فلاناً الآخر، لضاعت الرسالة وما استقر لها قرار، لأنها عندئذٍ تضاف إلى المصالح، ومتى ما أضيفت إلى المصالح ذهبت أدراج الرياح.

إن تلك المواسم التي يضعها النبي (ص) قيد الحاجة كان يضعها من قلوب عمي، فهنالك أناس عاشوا على قرب من النبي (ص) وتحركوا بحركته، ووضعوا أقدامهم حيث رفع النبي (ص) قدمه، لكنهم لم يمتكلوا القلوب الواعية المنفتحة القابلة لحركة التنوير من النبي الأعظم محمد (ص) لذلك أخفقوا، وما استطاعوا أن يتقدموا في مسير حياتهم، وقد ترتب على ذلك من الضياع والشتات والدمار ما أنتم أعلم به، ولا داعي للدخول في مفرداته.

ثم يقول علي (ع): وآذان صم. فهنالك من هو أقرب ما يكون للنبي (ص) في مجلسه، وربما صلى خلفه في الصف الأول، لكنه في نهاية المطاف سمع من النبي (ص) الكثير ولم يروِ عنه شيئاً، وهذا مدعاة للتساؤل، فكيف يأتي صحابي للمدينة لمدة شهرين فقط فيروي عن النبي (ص) الآلاف من الأحاديث، بينما قضى بعضهم مع النبي (ص) أكثر من عشرين عاماً ولم يرو عنه عشر معشار ما رواه الأول؟ ألا يستدعي هذا الأمر التساؤل والتوقف والتأمل؟ وهل يصدق عليه إلا قول الإمام علي (ع): وآذان صمّ؟

ثم يقول (ع): وألسنة بكم، فبعضهم يرى الحق ولكنه لا يصدع ولا ينطق به، لأنه يدرك أن الحق يستلزم دفع الضرائب، وهذا أمر حتمي واقعي، ولكن أي مكاسب تلك التي يفقدها الإنسان عندما يصدع بالحق؟ إنها مكاسب دنيوية وربما تكون دراهم معدودة  أو وجبات محسوبة، أو زيارات أو هدايا زهيدة، ثم ماذا بعد ذلك؟. هل تنطبق السماوات على الأرض؟ أبداً. إن الأمور ستكون على وتيرتها، وربما تكون في وتيرة أسرع  مما كانت عليه مع بعضهم.

ثم يقول أمير المؤمنين (ع) واصفاً النبي الأعظم (ص): متتبع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة. فأنت تجد أحياناً أن البعض يشخص أن فلاناً صدر منه الخطأ مثلاً، لكنه لا يقترب من مساحته كي لا يفقد العلاقة معه، إذن أين العمل مع الله ولله؟

لو أن السيد الإمام (قدس سره) بنى على أن يراعي زيداً من الناس لما حقق ما تحقق على يديه من الفتح الكبير، ولما أرجع الأمة إلى محورها ومركزها. وعلى المتنكرين لما له من الفضل عليهم أن ينصفوا أنفسهم قبل يوم الحساب، ويراجعوا قليلاً ما كانت عليه الأوضاع قبل ذلك. فلما قيض الله تعالى للأمة رجلاً من نسل محمد (ص) أراد لها الخير والنجاة والتقدم في الحياة ظهرت حسيكة النفاق.

أسس الدولة النبوية:

لقد وضع النبي (ص) في المدينة نواة أول دستور للمسلمين، ورسم له الخطوط العامة، وكان المجتمع يتشكل من تيارين قويين، المهاجرون الذين هاجروا مع النبي (ص) والأنصار الذين استقبلوا النبي (ص). فالطبقة الأولى تحملت العناء، والطبقة الثانية بذلت الكثير. وأمضى النبي (ص) عشر سنوات بينهم، وكانت المدينة في أحسن حالاتها عاصمة الدولة الإسلامية، والقواعد والأسس تصلح أن تكون اليوم هي المحور لكل دولة تنشد العدالة والسلم الأهلي والتطور في جميع جوانب الحياة. وأبرز تلك الأسس:

1 ـ إبراز الهوية للمجتمع المسلم: فقد سعى النبي (ص) لإبراز الهوية والوجود الصريح الواضح للمجتمع المسلم. فاليوم هنالك هجمة شرسة على الإسلام، لم تميز بعدُ بين الإسلام وبين المسلمين. فالإسلام قادر على استيعاب جميع مجالات الحياة، أما المسلمون فعلى العكس من ذلك تماماً، بل أحياناً يضيق أحدهم حتى بنفسه.

من هنا تجد أن الخلط بين الإسلام والمسلمين يشكل موضوعاً للنقد عند بقية المدارس التي لا تتفق مع الإسلام في دين، والسبب في ذلك هم المسلمون، لأنهم لا يجسدون الإسلام الواقعي المحمدي الذي لم تتدخل فيه عناصر العبث. فعندما يوصف الإسلام بالشريعة السمحاء، فهذا يعني الشريعة المرنة التي تتقلب مع جميع مفردات الحياة وجميع بني البشر بغض النظر عن انتماءاتهم ودياناتهم وتمحورهم.

فالإشكالية فينا نحن الذين لا نقدم الإسلام الذي قدمه النبي محمد (ص) للبشرية، إنما نقدم إسلاماً مشلولاً في جميع مكوناته، لذلك ينبغي أن تكون هنالك مراجعة صريحة واضحة بينة، لأن الأمانة ثقيلة: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾([4]). لكن الإنسان أخفق وفشل في أول امتحان، لذلك تقول الزهراء (ع): «والرسول لما يُقبر». وهذه إحدى مفردات الفشل السريع في حمل الأمانة.

إن إبراز الهوية للمجتمع المسلم لا تتم عبر ممارسات وطقوس فقط، فهذا ليس الإسلام الذي جاء به النبي (ص) لأن الإسلام جاء بالمعرفة والعلم والسمو في الأخلاق والترفع عن الصغائر ورسم خطوط التواصل مع الآخرين وإبراز روح المحبة لجميع عناصر المكون البشري، لكننا اختصرنا الإسلام واختصرناه حتى صار ملك طائفة بعينها، بل ملك مرجعية بعينها، بحيث إنك إن لم تتفق معي في مرجعٍ ما أحسبك من أهل النار! فأين هي الرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء كما جاء بذلك الدين الحنيف؟

إن القادم أسوأ، فربما يكون الإسلام ملكاً لمن هم دون المرجع بكثير، ويصبح الأمر في حدود أضيق من حدود المرجعية، فيحصر الإسلام في جماعة صغيرة أو في مسجد معين أو منتدى أو غيره، ونحن ذاهبون للأسوأ، ولا بد لأحاديث أهل البيت (ع) أن تتحقق في آخر الزمان. فقد ورد عن الإمام الحسن (ع): «لا يكون هذا الأمر الذي تنتظرون حتّى يتبرّأ بعضكم من بعض، ويلعن بعضُكم بعضاً، وحتّى‏ يبصق‏ بعضكم في وجه بعض، وحتّى يشهد بعضكم بالكفر على بعض»([5]). فما دمنا بلا كبير علينا أن ننتظر الأسوأ، فالبيت الذي لا كبير فيه يضيع.   

2 ـ المحافظة على النسيج القبلي في بناء الدولة الإسلامية: فالبعض ينعتني مثلاً بالقبلية، ولكن هل لدى هذا البعض نص شرعي يُسقط القبيلة من نسيج المجتمع الإسلامي؟ بل إن النبي (ص) بنفسه يقول:

أنا النبي لا كذب   أنا ابن عبد المطلب

وهذا ما قاله في المدينة لا في مكة، وهكذا الإمام الحسين (ع) والإمام زين العابدين (ع) وسائر الأئمة (ع). فالمنظومة القبلية إذا كانت مؤطّرة بأُطر الإسلام المحمدي الأصيل الذي لم تداخله يد العبث تعتبر عاملاً ومكسباً إيجابياً مقبولاً، بل إن حساب التوازنات في الدولة الإسلامية بادئ ذي بدء كانت قائمةً على هذا الأمر. بل إن القرآن الكريم ـ وهو أصدق القول ـ يقول: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى‏ وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَليمٌ خَبيرٌ﴾([6]). فلم يطلب القرآن الكريم منا أن نغلق باب القبيلة. ومن يتصور أنني أفخر بذكر نسبي وقبيلتي واهم، فهنالك فرق بين بيان ما لك من الحق، وبين الافتخار على الآخرين وإسقاط ما لهم من القيمة، وحاشا لي أن أنهج المسلك الثاني.

3 ـ حرية الاعتقاد: فالنبي (ص) عندما دخل المدينة كان فيها خليط من الاعتقادات، ومنها اليهودية، وهم قوة ضاربة، وكذلك لم يدخل في الإسلام الكثير من النسيج المدني الآخر، فتعامل النبي (ص) مع الجميع، ومنهم اليهود، كما تعامل مع سائر المسلمين، إلا أن اليهود ارتكبوا خطيئتهم الكبرى عندما خانوا العهود، فجرت الأحكام الجديدة بحقهم.

4 ـ تأصيل قواعد الأمن داخل المجتمع المدني: وذلك من خلال جعل المدينة حرماً آمناً، مسلماً كان أم غير مسلم، أما اليوم فأصبحت القراءة مقلوبة. فالقراءة الصحيحة على أساس معطى مدرسة القرآن الكريم أن البيت في مكة أمنٌ وأمان، وكذلك المدينة المنورة.

5 ـ تثبيت السيادة المطلقة للدولة الإسلامية: من حيث إجراء الأحكام على يدي النبي الأعظم محمد (ص) لذلك كانت السلطة المركزية، وحُفظ كيان الدولة في بداياتها.

6 ـ إعطاء الملف السياسي أهمية وأولوية: وهذا أمر مهم جداً، فالملف السياسي يأخذنا تارةً للأمام، وتارةً أخرى يعيدنا للوراء، بحسب من يمسك بالملف، وما لديه من إدراك ووعي وقراءة وغير ذلك. فالنبي (ص) أعطى هذا الملف أبعاداً أوسع مما كان يتصور أبناء ذلك المجتمع، فشمل جميع أبناء الطيف آنذاك، ثم زرع (ص) واحدة من أهم اللبنات ووضع حجر الأساس لها، وهي مبادئ التعاون الاجتماعي، من خلال لملمة النسيج في بوتقة واحدة، الذي تمثل بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، فسقطت على أساسها جميع الفوارق، وصار الجميع إخوةً في الله سبحانه وتعالى.

وهذا الأمر الأخير أمّن للنبي (ص) قوة البناء الداخلي والتماسك، فلم يعد أحد من هؤلاء ينعت الآخر بأنه مهاجر أو أنصاري، إذ أصبح لكل مهاجر أخ في الله من الأنصار، إلا ما كان من رسول الله (ص) وعلي (ع) فكلاهما مهاجر.

ولما قوي البناء الداخلي كانت الحروب تحسم لصالح النبي (ص) آنذاك، وأصبح صدّ الاعتداءات على المدينة من أسهل الأمور للمسلمين.    

الطائفية في الميزان:  

ولنا اليوم أن نسأل: أين أنت يا رسول الله من طائفية أكلت الأخضر واليابس فينا؟ وأين ما بذلته من جهد خلال ثلاث وعشرين سنة؟ أين أولئك الذين كانوا يرفعون شعار الإسلام ويضافون إلى الدين؟ أين كنا وكيف أصبحنا؟

إن الطائفة في اللغة هي عبارة عن الجزء. وفي لسان العرب: والطائفة من الشيء جزء منه. وفي المعجم الوسيط: الطائفة الجماعة والفرقة. وفي القرآن الكريم: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِيْنَ اقْتَتَلُوْا فَأَصْلِحُوْا بَيْنَهُمَا﴾([7]). وما أكثر الاقتتال والحروب الطاحنة التي وقعت بين المسلمين على مدى التاريخ، ولو أن الإسلام كان هو الحاكم لما حدثت تلك الفتن.

أما الطائفة في الاصطلاح فهي مذهب ديني مقصورٌ على فئة بعينها، وقد تكون تلك الفئة حزباً أو جماعةً أو منظمةً أو تكتلاً، والعناوين كثيرة. وهي تعطي علاقة انتماء لطائفة بعينها، ويرتب عليها الكثير من الآثار كما هو واضح.

أما الطائفية فهي وليدة الطائفة مع دخول بعض العناصر في مكونها، وهي بحد ذاتها لا تشكل مشكلة، فالطائفية بما هي هي لا تشكل مشكلة، فقد تتشكل الطائفية بناء على الموقع الجغرافي، أو بناء على وصول رمز من أبنائها إلى مراتب قيادية في دولة أو مجتمع أو ما إلى ذلك. فهذا بحد ذاته لا يشكل مشكلة، بل بالعكس، ربما يكون الشعور بالانتماء لطائفة عاملاً مهماً في تقديم الكثير. وهذه هي الطائفية النظيفة الشريفة، ولكن هناك طائفية سياسية، فهذه عندما دخلت في المجتمع خلطت الأوراق، وذهبت بها إلى البعيد.

ومن النماذج على الطائفية السياسية العراق، فهذا البلد عاش المشاكل قبل الإسلام وليس في عهد الإسلام فحسب، فكانت هناك طائفية عربية في هذا البلد، وإلى جانبها شعوبية ضاربة بأطنابها، فانحلّت إلى حروب طائفية في نهاية المطاف.

ولنأخذ الحقبة الإسلامية أيام الإمام علي (ع) الذي اتخذ الكوفة عاصمة له. والكوفة ذات مكوّن عجيب غريب، فهي سريعة الرضا سريعة الغضب، وبينا هي تقاتل مع علي (ع) إذ بها تقاتله وتقتله.

فقد قاتلت الكوفة مع علي (ع) في الجمل، ثم قاتلت معه في صفين، وطارت هنالك الرؤوس وقطعت الأيدي، وحصل ما حصل من الصلح، فشهروا السيوف في وجه علي (ع) واتهموه بالكفر!.

وانتهى عصر أمير المؤمنين (ع) وجاء العصر الأموي ودار بهم دوران الرحى، وأخذهم من يمين إلى يسار، ورأوا ما رأوا من بني أمية، لأنهم تخلوا عن علي (ع)، فتوالت ثوراتهم على الأموييين حتى أطاحوا بهم، فجاء عصر العباسيين، فقال شاعرهم:

يا ليت ملك بني مروان دام لنا   وليت عدل بني العباس في النارِ

لقد دخل العباسيون الموصل ـ والتاريخ يعيد نفسه ـ فأعلنوا حظر التجوال الليلي، فإذا عدت قطةٌ عدا خلفها سبعة من الجند العباسيين.

ثم جاءت الدولة العثمانية فكان عصرها أسوأ ما عرفه المسلمون في تاريخهم من دمار وخراب، وإلى اليوم نجد أن من يعبث بالأوراق عبثاً عجيباً هم العثمانيون الجدد.

علاج الطائفية السلبية:  

أما علاج ذلك فيتلخص بما يلي:

1 ـ نشر الوعي الاجتماعي: أيها الشباب: أنتم كبار، ولا بد أن نكون أكبر، لأن القادم أصعب، فما كنا عليه يتناسب مع تلك المرحلة، أما القادم فيحتاج إلى جهوزية واستعداد أكثر، وصبر وتحمل أكبر.

2 ـ تصحيح المسار الديني والرجوع إلى الأصول المثبتة: فقد صارت الأمور اليوم خبط عشواء، وأصبح البعض اليوم يدخل الحوزة العلمية ليومين أو ثلاثة فيعتمر العمامة ويتصور أنه أصبح السيد أبا الحسن الإصفهاني، أو السيد الإمام، أو من هم على شاكلتهما. في حين أن الحوزة ليست كذلك، والعلماء المحترمون ليسوا على هذه الشاكلة.

قد يسأل سائل: ما دخل المثقفين في أحوالنا؟ أقول: لما تخلى رجل الدين عن مسؤوليته نهض بها المثقف مشكوراً. وأنا متأكد أن البعض لا يروق له هذا الكلام، ولكن هذا ليس مهماً، إنما المهم أن يرضى رب العالمين.

لقد بعث الله النبي محمداً (ص) ليرفع الأقفال من عقولنا، ويفتح قلوبنا وعقولنا، لكي نوازن بين الأمور.

نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.