نص خطبة بعنوان:فلسفة التشريع بين الأمس واليوم (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾([2]). وقال عز من قائل: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيراً﴾([3]).
الهدف من التشريع:
إن فلسفة التشريع الإسلامي بين الأمس واليوم حاجة ملحة، فمما لا شك فيه أن تقادم الليالي والأيام يعطي انعكاساً مباشراً على حركة التشريع، وهو ما يحتم على المشرعين ـ وهم الفقهاء من أبناء الأمة ـ أن يعدوا عدتهم في سبيل أن يتماهوا مع الوضع المستجد.
وثمة مفهوم يطرق الأبواب ويبحث عن مواقع، ألا وهو (فلسفة التشريع). ففي الزمن السابق ربما كان عنوان (علل الشرائع) قريباً من هذا العنوان الذي نعيشه اليوم تحت مسمى (فلسفة التشريع الإسلامي) أو فلسفة التشريع في الأديان السماوية.
إن فلسفة التشريع تعني البحث عن كنه الموجب لذلك التشريع، فالمكلف لا يتقبل التشريع عندما يقال له: صلِّ، أو صُم، أو افعل، أو لا تفعل، ما لم يقف على العلة الدافعة وراء الطلب الجاد في جهة طلب الشيء أو الدفع عنه. أي في جانب الأمر والنهي.
كثير منا من يدّعي التأمل في حقائق الأمور، والتفكير في كنه الأشياء، وأنه من أرقى المتفكرين، لكنه لا يلتفت إلى حيثية هامة، ألا وهي (التفكير في أصل التفكير) أي ما هو الدافع وراء هذه الحركة التي تعنونت بعد ذلك بعنوان (الفكر).
إن محاولة الإجابة عن تلك الأسئلة الأساسية التي يطرحها الوجوديون كانت الباعث المحرك لهذا المفهوم، الثقيل في عنوانه، السهل بعد تفكيكه، والبحث عن المعرفة للحصول على إجابات شافية، وهذه مهمة الفيلسوف الذي يطرق أبواب المعرفة من حيث ابتدأ، وهي الباعث لحركة التفكير عنده. فإذا وجدنا أنفسنا في يوم من الأيام نفكر ونتأمل ونقرأ ونستنطق، ولكن لا نلتفت إلى الباعث لتلك الحركة، فعلينا أن نراجع تلك الحسابات، لأن النتيجة ستكون سوداوية، ولا تكون مثمرة ولا منتجة، لأنها لم تبنَ على أساس متين، فلا يلتفت المفكر للسبب الكامن وراء التفكير والتأمل. ولماذا يكون ذلك التفكير في اتجاه معين دون بقية الاتجاهات الأخرى.
إن الالتفات لهذه الحيثية مهم جداً، لذلك نجد أن الكثير من المفكرين السابقين والحاضرين الذين لم يلتفتوا لهذه الحيثية ذهبت بهم المذاهب إلى طرق شتى، بل ضلّ بعضهم الطريق، ولما حاول أن يعود إلى نقطة المنطلق لم يستطع أن يمسك بالأسباب التي على أساسها يعود إلى ذلك.
وفي فضائنا المفتوح اليوم ما يساعد على ذلك، وما يأخذ الإنسان إلى مساحات بعيدة دون أن يلتفت لما له وما عليه، وما يترتب على ذلك من حوله.
وبالنتيجة أن مصطلح (فلسفة التشريع الإسلامي) مصطلح مهم، أي أن نقرأ فلسفة التشريع الإسلامي، والهدف منه.
ضرورة فلسفة التشريع:
كان سماحة الشيخ الأستاذ، آية الله العظمى ناصر مكارم الشيرازي (حفظه الله تعالى) ينتدبنا في أحد بحوثه لقضية مهمة، وهي تاريخ الفتوى، متى صدرت؟ وكيف صدرت؟ وممن صدرت؟ ولماذا؟ وجميع الظروف المحيطة بها تاريخياً. يقول: لأن لتلك الأمور إسقاطاً مباشراً، وربما أوجبت حالة من الضغط على الفقيه بحيث يتخذ هذا الرأي دون سواه.
وفلسفة التشريع اليوم لا يمكن أيضاً أن ننطلق من خلالها إلا على أساس واحد، ألا وهو قراءة تاريخ الفتوى في وسط الفقاهة الإسلامية بعنوان عام، وفي مدرسة أهل البيت (ع) بشكل خاص، لأن مدرسة أهل البيت (ع) تنفرد عن سائر المدارس الإسلامية بحيثية معينة، وهي الخوف، وارتداء لباس التقية الذي كان يفرض نفسه على مسيرة الاستنباط، منذ اليوم الأول إلى يومنا هذا، ولا ندري إلى متى يبقى الأمر هكذا.
فمسألة فلسفة التشريع من القضايا الملحة اليوم، ولن نستطيع أن نتناغم مع الأصوات المرتفعة هنا وهناك، إلا من خلال الوقوف على فلسفة تلك الأحكام، أما أن نقول للناس: صلّوا، ثم يسأل السائل ممن جاءنا من الشرق أو الغرب، بعد أن انفتح على الثقافات من حوله: لماذا أصلي؟ ولماذا أصوم؟ ولماذا أحج؟ ولماذا أتصدق؟ فيطرح مثل هذه الأسئلة، وأنا لا أمتلك الإجابة الشافية. فالمعين على الإجابة الشافية ليس الرسالة العملية، ولا دعوى التسليم بالمطلق وسلب الإرادة والاختيار، إنما أن نقف على كنه التشريع قدر المستطاع. صحيح أننا لا نمتلك القدرة على فكّ الشفرات لجميع حدود المكوّن للمسألة الشرعية التي نتعاطاها، ولكن نستطيع أن نقترب من مساحة الكثير منها، فإذا كان ذلك الأمر بمستطاعنا وبين أيدينا فمن خلاله ينبغي أن نتحرك لنفتح صدورنا لهذا النشء القادم. ولنسأل أنفسنا: ما الذي أعددناه لهم؟ هل هو الإقصاء، أو التضليل، أو الطرد من رحمة الله، أو فتح أبواب جهنم في وجوههم؟ كل ذلك لا يوصلنا إلى نتيجة، بل يبعدنا عن النتيجة التي نتوخاها. فمن سافر إلى الغرب أو الشرق من شبابنا نتأمل فيهم أن يكونوا صنّاع مجتمع راقٍ ووطنٍ كريم، وأن يكونوا حماة الدين على أساس الوعي والمعرفة والمزج بين ما هو دنيوي وما هو ديني.
فإذا رجعنا إلى أصل العنوان، وحاولنا أن نفعّله في داخل حوزاتنا ومنتدياتنا وملتقياتنا ومن خلال منابرنا الحسينية الشريفة، وكتاباتنا الهادفة، استطعنا أن نستوعب هذا الزحف القادم. وإلا علينا أن ننتظر الكثير من الصور المأساوية، ووقتها لا ينفع أحداً منا ندم.
الوسطية هي المنطلق:
إن فلسفة التشريع تنطلق من خلال التفكير في طبيعة التشريع وأصله الذي على أساسه امتلك قلوب مئات الملايين من البشر، فمن ينتمي لمدرسة الإسلام اليوم يقرب من مليار ونصف المليار إنسان، ومن ينتمي للمسيحية يقرب من هذا العدد، وكذلك الديانات السماوية الأخرى. فما هي العوامل المساعدة على بقاء التشريع في إطار هذه الديانات، بحيث تتقبل الشعوب والأمم والنحل تلك التشريعات في أوساطها؟ هل هو الانغلاق، أو الانفتاح، أو الوسطية التي أصّلتُ لها وأسست منذ شهرين من الزمن؟ فالإسلام دين الوسطية، ولا يقبل الجموح إلى اليمين وعدم الالتفات لليسار، ولا العكس، إنما وجّه بوصلته بالاتجاه الصحيح، يبحث عن كرامة الإنسان وسعادته ورشده، لذلك ادخر له الذخيرة من آل محمد (عج).
وبناء على هذا ينفتح الباب أمامنا على مصراعيه، وتأتي قائمة طويلة من الأسئلة، فلا بد أن يجند من انتسب للمؤسسة العلمية نفسه لها، وأن يتقبلها بسعة صدر. فقد نُسأل عن الصانع وواجب الوجود، في جزئيات دقيقة، فلا نلجأ مباشرةً للتكفير أو الاتهام، لأن هذا طرد من رحمة الله. إنما علينا أن ننحو منحىً معاكساً، بأن نتشبث بمن نرى أنه خارج الدائرة ليكون في وسطها.
فالنبي (ص) عندما يقدم تلك الأرواح الزكية من أهل بيته، كحمزة وعبيدة بن الحارث وغيرهما من أصحابه البررة الأكرمين على مذبح الشهادة الخالد، إنما أراد أن يكرس تلك المفاهيم، بناءً على الانفتاح على الدائرة من حوله.
مساندة أهل الحق:
فالإسلام بدأ منفتحاً، وينبغي أن يستمر منفتحاً، وهذه مسؤولية علماء الدين أن ينهضوا بهذا الدور، وعلى المجتمع أن يوجد حالة من الدفع والحماية لهم، فليس من الصحيح أن يبقى رجل الدين أعزل في المجتمع، لا يجد سنداً يستند إليه، إنما مسؤولية المجتمع أن يقف وراء رجال الدين المخلصين، فهم الذين حملوا الأمانة وضحوا من أجلها. ومن يقرأ كتاب شهداء الفضيلة للشيخ الأميني يجد أنه يسطر لحياة علماء كانوا أصحاب درجة عالية من الاجتهاد، بل تسنم بعضهم مقام المرجيعة، وقد ذُبحوا صبراً ونُكِّل بهم. لكننا لم نقرأ شيئاً عن حياتهم.
من هنا يرى البعض أن رجال الدين يعيشون حالة من الترف والرخاء بأموال الناس، فيما يشقى غيرهم ويتعب من أجلهم. فهم في نظره لا يقدمون للأمة شيئاً.
فمتى تخلف العلماء عن التضحية في سبيل بقاء الأمة وحفظ المعتقد؟ ومتى كانوا في الصف الأخير؟ لنكن منصفين في تقييماتنا.
فلا ينبغي أن يكون رجل الدين أعزل يواجه الأمور لوحده لا يجد سنداً ولا معيناً ، بل على العكس من ذلك أحياناً، إذ تتكالب الجهات على إقصائه وتشتيت جهوده.
أيها الأحبة: إننا في سفينة في بحر لجّي، متلاطم الأمواج، فما لم يمسك الواحد منا بيد الآخر، سوف نغرق جميعاً كأمة إسلامية. أما إذا تكاتفنا ووضعنا اليد باليد فسوف نصل حتماً إلى الهدف.
حاجة البشرية للتشريع:
فالسؤال الأول الذي يطرح: هل تحتاج المجتمعات والأمم والبشرية إلى التشريعات والقوانين؟ فمن يقرأ قصة الحضارة يجد أن الإنسان منذ العصور الجليدية وما قبلها وما بعدها يبحث عن تقنين وتشريع يربطهم مع المطلق ومع المجتمع من حولهم.
والسؤال الثاني: من هو المشرِّع الذي تناط به مسؤولية التشريع؟ فهل يحق لأي كان أن يشرّع؟ اليوم نجد أن من يدّعون الاجتهاد كُثر، لكن هل أنهم يحملون حقاً شهادة اجتهاد معتبرة من الحاضنة الطبيعية والرحم الطبيعي، والحوزات العلمية المعتمدة المعتبرة أو لا؟
إن الفقهاء ملاذنا، والمراجع عصمتنا، ومن يدين بغير هذا فلينهج المنهج الذي يرتضيه، ولكن ليس هنالك موجب للصراع والقطيعة أبداً، فلنتعاون لتسود روح المحبة بيننا، ولست أنا ولا أنت من يحاسب فيدخل الناس الجنة أو النار، فهذا شأن رب العالمين: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرَاً يَرَهُ ~ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهْ﴾([4]).
هذه العناوين: هل تحتاج المجتمعات إلى التشريع؟ ومن هو المشرع؟ ولمن يشرع؟ كلها تندك بعد ذلك لتقذف بنا في دائرة الشريعة وحدودها.
وفي هذا الشهر الكريم ينبغي أن نستغل طرفاً منه للقراءة، فقراءة القرآن مهمة جداً، لا سيما إذا كان فيها تدبر وتأمل، ولكن علينا أيضاً أن ننفتح ونقرأ في المفاهيم الجديدة.
نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.