نص خطبة بعنوان: رمضان ضيافة الله وربيع القرآن

نص خطبة بعنوان: رمضان ضيافة الله وربيع القرآن

عدد الزوار: 2093

2016-06-13

الجمعة 26 / 8 / 1437 هـ 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾([2]).

امتثال التكاليف الإلهية:

أيام قليلة تفصلنا عن سيد الشهور وأفضلها وأجملها. شهرٌ هو ربيع للقرآن، ومعراج لأرواح المؤمنين في ملكوت الأنس والقرب حيث المطلق جلت قدرته.

وهنالك أحكام شرعية تلقي بظلّها علينا خلال أيام الشهر الفضيل، يتقدمها أحكام تتعلق بالقضاء، وأخرى بالأداء، وربما أحكام تتعقب ذلك جراء المرض والسفر وغيرها من  الأحكام المرتبطة بنهار شهر رمضان.

والتكاليف الشرعية من قبل الله سبحانه وتعالى إنما جاءت من أجلنا، وهي عبارة عن مجموعة من الأوامر والنواهي جاءت لنظم حياة البشر. وحيث إنها من الوحي فلا يداخلها شكٌّ ولا تأمل ولا تردد، وإنما المفترض بمن أعطى لنفسه الانقيادة والإقرار والتبعية للإسلام، أن يكون مسلّماً تسليماً.

ومصدرنا في التكاليف الشرعية عبارة عن موردين ثرين:

 أولهما: القرآن الكريم، وشهر رمضان ربيعه، ومساحة أن نعيش القرآن في هذا الشهر مهيأة، لعدة أسباب:

1 ـ صفاء النفس عند الصيام، والتجرد من الكثير من العوالق المادية، فنهيئ أنفسنا بالقرب والأنس بالمنطق القرآني.

2 ـ الرغبة في التزود من العبادة، وسيد العبادة تلاوة القرآن.

3 ـ الرغبة في تحصيل الثواب والأجر، وهذا أمر مرغوب طيلة أيام السنة، ولكن تضاعف الأعمال في هذا الشهر، ومنها ما يتعلق بقراءة القرآن.

4 ـ أن الذين سبقونا إلى عالم الآخرة كانت لهم علاقة خاصة مع القرآن الكريم، وواسطة الوصل بين العالمين نحن الذين خلفونا وراءهم، فلنكثر من قراءة القرآن، ونهدي ثوابه لتلك الأرواح القرآنية التي تميزت بعلاقتها وتقلبها مع نصوصه ومعطيات آياته، إما تيمناً وتبركاً أو تدبراً وتأملاً، فالباب مفتوح ينتظر رواده وعلينا أن لا نقصر في هذا الجانب.

ثانيهما: السنة المطهرة، وهي رديف القرآن الكريم، تجاريه في المسار، وتفتح الكثير من مغلقاته، على فرض أنها تستعصي، وإلا فإن القرآن الكريم يفهمه كل قارئ، وكل إنسانٍ قرآني، وإن كان انطباق هذه الصفة (أي كونه قرآنياً) قد تشتد وتضعف من شخص لآخر، لكن هذا القرآن الذي أنزل في جزيرة العرب، والتي كان معظم من فيها من البداة آنذاك، إلا أنهم كانوا يعيشون القرآن في منطوقه، ويتعاملون مع ما يستفاد من ذلك النص استدلالاً، فانفتحوا على النص، وانفتح النص عليهم، فسافروا بالقرآن إلى أقاصي الدنيا.

ومن هنا يأتي السؤال: بعد هذه الفترة من القرون المتعاقبة، وتطور وسائل العلم والمعرفة، كيف باتت المغلقات في وجوهنا أكثر مما كنا عليه في السابق؟.

الجواب: أن هذه الروح التي بين جنباتنا أسلمت وسلّمت في ذلك اليوم، أما اليوم فقد أسلمت، ولكن هل سلّمت؟ وما هي الأسباب التي تقف عائقاً دون التسليم لمعطى الكتاب والسنة المطهرة الواردة عن محمد وآل محمد؟

وبالنتيجة أن النُّظُم والتشريعات تؤمّن لنا حياة سعيدة ملؤها الدفء والمحبة والسلام، وتترشح أيضاً على الأطراف من حولها جراء ما نسير به. فالإسلام جاء ليجعل مني ومنك ومن كل فرد من أفراده، ذكوراً كانوا أم إناثاً، مجسِّداً صغيراً يتحرك بالإسلام في مبادئه وقيمه، وحتى في أهدافه.

فماذا لو تمت مخالفة تلكم النظم السماوية التي هبط بها الأمين جبريل على قلب الحبيب المصطفى (ص) وقام ببيان معطياتها، ثم جاء الأئمة (ع) ليوسِّعوا من دائرة المعارف وفتح الطرق الموصلة إلى تلك الآيات الشريفة.

يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾([3])، فعندما يتمرد المسلم على أحكام الدين الإسلامي تكون النتيجة واضحة، فليس إلا الدمار والضياع والشتات والقتل وما إلى ذلك. فالامتثال للأحكام الشرعية يترتب عليه أثر تكويني مباشر في الخارج وهو السعادة والخير والاطمئنان والصحة وما إلى ذلك.

فالذين كذبوا ولم يتقبلوا تطبيق الأحكام الشرعية، ومارسوا الحياة على خلاف ذلك، فإن نتيجة تخلفهم عن التعاطي والتعامل مع الأحكام الشرعية أن الله يأخذهم بما كانوا يكسبون.

فإن نحن امتثلنا الأحكام الشرعية، وسرنا وفقها، فالخيرات أمامنا، وإن تخلفنا عنها كان العكس.

البلاء والامتحان:

ومن النتائج التي تترتب على مخالفة الأحكام الشرعية البلاء، وهو امتحان له صور، يضعها القرآن الكريم في أربعة مربعات، وهو ما تؤكده روايات أهل البيت (ع) أيضاً. فالذنب إذا صدر من جهة يترتب عليه أمر، وإذا صدر من جهة أخرى يترتب عليه أمر آخر، وهكذا دواليك.

فعن الإمام علي (ع) أنه قال: «إن البلاء للظالم أدب، وللمؤمن امتحان، وللأنبياء درجة، وللأولياء كرامة»([4]).  فالظالم عندما يتعدى الحدود، ويمتهن الكرامات، يحل عليه العقاب من الله تعالى، والسنن التاريخية فيها الكثير من الشواهد، وقد تكفل القرآن الكريم ببيان الكثير من الشواهد التي عاشتها البشرية من ظلم الظالمين، وجور الجائرين. فالبلاء ينزل على الظالم من أجل أن يرتدع، فيلتفت إلى الوراء ويستعرض ما تقدّم ليجعل القادم من الأيام أفضل. فهو أسلوب من الأساليب الإلهية لتأديب الظلمة على وجه الأرض.

لكن البلاء إذا حلّ لا يختص بالظالم فقط، بل حتى المؤمن يكون له نصيب من ذلك البلاء. فمثلاً ترك الأمر بالمعروف والنهي المنكر يحتّم عمومية البلاء وشموليته، قال تعالى: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ﴾([5]). فالبلاء ينزل بالمؤمن كما ينزل بالظالم، لكنه للمؤمن امتحان، فهل يصبر أو يكفر؟ فالبلاء واقع، سواء صبر أم كفر. وأنتم تلاحظون الأمر بأنفسكم، والحال أسوأ على المتفرج الذي لا يُنكر ولو بالإنكار القلبي. فالبعض صمٌّ بكمٌ، لا تتحرك حتى مشاعره وأحاسيسه.

وكذا لا يستثنى الأنبياء من البلاء، فقد قال (ص): «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت». وقد تعرض الأنبياء الذين قبله لمثل ذلك أيضاً، فهل يمكن أن يقال: إن هذا من باب التأديب أو المجازاة، وقد اختارهم الله تعالى لهذا الطريق؟ يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): وللأنبياء درجة. ويقول (ص) للإمام الحسين (ع): وإن لك درجة لن تنالها إلا بالشهادة. فالقتل مرّ، لكن هنالك مقامات لا يمكن الوصول إليها إلا عبر هذا الطريق، لأن القتل وإن اتصف به الطرف المظلوم بالشهادة، إلا أن اللازم في الطرف الآخر أن يكون ظلماً وجوراً وتعدياً وانقلاباً على الثوابت والسنن الدينية.

أما الأولياء من العلماء والصلحاء والسالكين والمتقين، فإن البلاء لهم كرامة من الله عز وجل، وكذا العرفانيون المؤمنون، وليس كل بضاعة عرفانية تروَّج، فالعرفان بيد المؤمنين هو أقصر الطرق المؤدية إلى الله تعالى، وأما بيد العابثين فهو أقرب الطرق الموصلة إلى قعر جهنم، فليس العرفان كثرة التسبيح ولا التصوف والدروشة، وليس الإعراض عن ملذات الدنيا، فالله تعالى يقول: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾([6]). فالعرفان يعني صفاء النفس، والتزام الأحكام في أوامرها ونواهيها والقرب من الله بالتعبد ليفاض على العبد الإشراق.

إن الأولياء عبر مسيرة التاريخ في دائرة البلاء، فمنهم من يواكب مسيرته الإيمان والصلاح والالتزام والثبات إلى آخر خطوة، ثم ينقلب على عقبيه، ولا أريد هنا أن أبعثر أوراق التاريخ، لأنه مليء بالشواهد. لذا على المرء أن يتجنب الخوض في الكثير من مفردات التاريخ جراء ما يترتب عليها من تلويث النفس، فيترفع عنها، سواء في التاريخ الغابر أم المعاصر، لأن كل ما مضى من الزمن يعدّ من التاريخ، فكل ما غربت عليه الشمس أصبح في عداد التاريخ، وفي خبر كان.

والله سبحانه وتعالى، لأنه رحمان رحيم، لا يستعجل العقاب، ولكنه لا يغفل، فلا يحسب المذنب أنه أمّن لنفسه القدرة على التهرب من عقاب الله سبحانه وتعالى، فالله تعالى يمهل ولا يهمل. فإن لم يصحح الإنسان مسيرته ويستبدل الصواب بالخطأ فلينتظر الجزاء.

مسيرة ارتكاب الذنب: 

والقرآن الكريم أيضاً يقدم لنا أنماطاً أربعة في مقابل أربعة:

1 ـ مرحلة الأمر والنهي: وهذه لا يترتب عليها عقاب مباشر إلا عند بسط اليد، وهذا أمر واضح بين، فالأمر من قبيل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبر الوالدين وحسن المعاملة مع الناس والصدق وأداء الأمانة وغيرها. والنهي مثل حرمة الكذب والفجور والسرقة والغيبة وأمثال ذلك.

2 ـ مرحلة المخالفة والفسق: وهي مرحلة أخطر لأنها تترتب على ما قبلها. ففي المرحلة الأولى يرتكب الإنسان الذنب، أما في الثانية فيصرّ عليه. فالإصرار على الذنب وإن كان صغيراً ـ على فرض صدق التقسيم للذنوب الذي أتأمل فيه كثيراً ـ فيه الكثير من المخاطر. فمتى نقول عن فلان: إنه فاسق؟ اليوم أصبح من السهل أن يقال في وسائل التواصل الاجتماعي: فلان فاسق، أو ضال، أو ملحد، أو علماني، وهذا الأسلوب من الخطاب أسلوب ساقط لا قيمة له، فإن كنت تريد من وراء ذلك تصحيح الخطأ فهذا يساعد على ارتكاب الخطأ، لأنه وسيلة تنفير. والنبي (ص) كان يبسط رداءه لليهودي، أو يفترش الأرض ويبادله الحديث. وكان إذا افتقد جاره طرق عليه الباب يتفقده. هذا هو النبي (ص). وكذلك الأئمة (ع).

فقبل أن نطلق الأحكام علينا أن نستحضر المسؤولية أمام الله، ونضع أنفسنا في تلك الدائرة، لأننا سوف نُسأل عن تلك الأحكام، في يوم لا تغادَر فيه صغيرة ولا كبيرة.

3 ـ مرحلة نزول العقاب: وذلك عند شيوع الفساد وكثرة الفُسّاق، لذا يُنزل الله تعالى العقاب ليصحح المسيرة، أي أنه يعطي صدمة للأمة كي تتنتبه.

واستحقاق العقاب إنما يكون من الناس على الناس، فهم الذين أنزلوا العقاب على أنفسهم.

4 ـ مرحلة الهلاك: من قلب الأرض أو إرسال الريح العاصف أو أمثال ذلك مما يحصل. وهذا ما نراه اليوم.

إن شهر رمضان المبارك على الأبواب، وهو ضيافة المطلق جلت قدرته، وربيع القرآن، وهو فرصة لكم أيها الشباب الطيب والأخوات الطيبات، بأن تجلسوا مع أنفسكم تتأملوا وتراجعوا الحسابات لمدة شهر، فتحاسبوا أنفسكم لتنظروا ما لها وما عليها، ونصحح ما كان من الاعوجاج في مسيرتنا. أما أن يكون مجرد الجوع والعطش فالله تعالى غني عن جوعنا وعطشنا.

يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) في القرآن الكريم الذي يتلى في هذا الشهر: «جعله الله رياً لعطش العلماء ومحاجَّ لطرق الصالحين ودواء ليس بعده داء ونوراً ليس بعده ظلمة»([7]).

في الكثير من الأحيان تشاهد التضجر من العبادة لدى البعض، ولا يشكر الله على هذه النعمة، فاليوم شتاؤنا صيف وصيفنا شتاء، نتحكم به كيف نشاء، وأعان الله أولئك الذين صاموا قبل أربعين أو خمسين سنة أو أكثر.

ثم إنه محاج لطرق الصالحين، يضيء الدرب لهم فيها. ودواء ليس بعده داء، ففي هذا الشهر الشريف يكون القرآن دواء الروح وبلسمها من خلال تلاوته وتدبر آياته.

 نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.