نص خطبة بعنوان خديجة بنت خويلد مثال المرأة العربية الرائدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
الكوثر الفاطمي:
﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ~ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ~ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر﴾([2]).
أيام قليلة وتشرق علينا أنوار الشمس الفاطمية، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يكتبنا ممن تناله الشفاعة على يديها.
السورة التي استفتحتُ بها الحديث شكلت محور بحثٍ بين علماء التفسير، ولا إشكال أن للتاريخ دوره ،كما أن للمشهد السياسي إسهامه في توجيه بوصلة البحث في مساحة أسباب التنزيل. لكن هذه السورة ذهب جمعٌ من علماء العامة إلى أنها نزلت في السيدة الزهراء بنت النبي محمد (ص) ومنهم الفخر الرازي والبيضاوي في تفسيريهما، والشيخ زاده في حاشيته على تفسير البيضاوي. وغير هؤلاء كثير.
ومن علماء الإمامية أيضاً ذهب جمع غفير، بل ربما يقارب الإجماع، إلى أنّ هذه السورة نزلت في البضعة الزهراء (ع).
استجلاء التاريخ:
لقد كان للمرأة قبل الإسلام وبعده أدوار خاصة، نتيجة ما كانت تعيش فيه من أجواء تعني الفترة التي عاشت فيها. ولا نستطيع أن نجرد القضايا التي وصلت إلينا عن بعدها وعمقها التاريخي بما يشتمل عليه من عوامل تدفع إلى الأمام، أو أسباب تجذب إلى الوراء. حتى الباحثون الذين يتصدَّون لطرق أبواب البحث في الموروث، إذا ما أرادوا أن يديروا ظهورهم لهذه الحقيقة فإن النتائج لن تكون مرضية، لا لأنفسهم في المدى البعيد، ولا للمجتمعات من حولهم في المدى القريب.
فالتاريخ له أثره، لأنه يؤصل لمرحلة ويثبّت مرحلة هي عبارة عن ظرف لأحداث متعاقبة تقاطعت حيناً وتواصلت في أحايين أخرى. وتاريخ العرب في الجزيرة العربية مليء بالكثير من المشاهد التي تكفّل التاريخ بنقلها إلينا، فوصلت إلينا بما فيها من الغث والسمين، وهذا ما يمكن أن نطرق بابه في الموروث الديني أو الأدبي أو الاجتماعي أو غيرها. ولكن بالنتيجة هو ما قدمه الإنسان للإنسان، أو ما قدمه الإنسان لنفسه.
فالفعل أو القول الذي تقضّى ومضى وشغل حيزاً من الظرفية الزمنية أصبح تاريخاً، ومن حقنا عندئذٍ أن نقرأه ونغربله وننتقده ونضع يدنا على السليم منه، ونجعله طريقاً نسير وفق معطياته. وأما ما كان على العكس من ذلك فعلينا أن نرفع أيدينا عنه، لأن الضرائب جدُّ وخيمة إذا ما أراد الإنسان أن يتشبث بها.
حقيقة وأد البنات:
واحدة من تلك القضايا التي ينبغي التوقف عندها هي وأد البنات في جزيرة العرب، فقد تم التعاطي معها على أنها واحدة من المسلّمات المطلقة، وكأنه ليست هناك قبيلة من قبائل العرب إلا وهي تمارس هذه الطريقة البشعة في التخلص من النصف الآخر من الإنسان.
فمن المسلّم أنها كانت تشكل واقعاً معيناً، وهاجساً عند الآخرين، لا سيما عند الأم التي سوف توأد بنتها، أو الأخت، أو غيرهما ممن يعشن هذا الهاجس، بأن المولود إذا ما قدر له أن يكون أنثى فمصيرها القتل.
يقول تعالى: ﴿وَإِذَا المَوْؤُوْدَةُ سُئِلَتْ ~ بَأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾([3]). وقد ورد في تفسيرها آراء ووجهات نظر متعددة مختلفة، فقيل: إن الموؤودة لم تكن بنتاً في جزيرة العرب، إنما هي الشريعة التي وئدت بعد وفاة النبي (ص). وقيل: هي الولاية والإمامة المعقودة للإمام علي (ع) في الغدير. وقيل: هي فاطمة (ع) لأنها ماتت بسبب ما جرى عليها وراء الباب وذهابها شهيدة. لكن السياق العام يشير إلى ما كان يجري في الأوساط العربية في العهد الجاهلي قبل الإسلام، لا سيما في جزيرة العرب.
والسؤال هنا: هل كانت هذه ظاهرة عامة؟ الجواب: كلا، لم تكن كذلك، أي لم تمارس هذا الفعل جميع القبائل، إنما انفردت بممارسته قبيلة واحدة، ومن ارتبط معها بحلف وتأثر بهذه الظاهرة. وتلك القبيلة هي تميم، وهي قبيلة عربية كبيرة كانت تشغل مساحة وحيزاً في الواقع على الأرض، والواقع التاريخي. تلك القبيلة هي التي كانت تمارس تلك العادة السيئة البشعة التي تدلل على ما كان يحمله رجالها آنذاك في داخلهم من القسوة. وكذا من تحالف معهم أو اتبع طريقتهم في الخلاص من العار، وكأن الأنثى لا تتجاوز هذه المساحة .
فالقتل لم يكن عاماً بل محدداً في مدىً محدود، إلا أن المستشرقين ركزوا عليها وذهبوا بها إلى مديات بعيدة، وجعلوا من العرب أناساً لا يتعدَّون مساحة الوحشية، وواحدة من مظاهر الدلالة على وحشيتهم وأد البنات.
بل حتى الباحثون اليوم في علوم التفسير والتاريخ، وبعض الخطباء على المنابر، يتعرضون لهذه القضية ويرسلونها إرسال المسلَّمات، دون بحث أو متابعة أو تنقيب أو تحقيق أو وقوف على الحقيقة والتماس القرائن هنا وهناك للأخذ بما هو الأصح والأسلم.
المرأة قبل الإسلام:
إن واقع المرأة العربية في جزيرة العرب قبل الإسلام كانت يتمثل في صنفين: أحدهما الحرة، والأخرى الأَمة المملوكة. فالحرة تتمتع بامتيازات عالية جداً، ومنها كونها معززة في قومها، مقابل الأمة التي لا تحظى بتلك الخصوصية. ولكن مع شديد الأسف نجد أن كتّاب التاريخ عندما يتعرضون لهذه المسألة يتمسكون بالألف واللام الاستغراقية، ويرفعون اليد عما ينحل عنها، وهو ما يعني الحرة والأمة.
فالحرة سيدة في قومها وفي بيتها، وتحظى باحترام واهتمام كبير من شيوخ القبائل آنذاك. كما أنها كانت تشارك الرجال دورهم في بناء الحياة من حولها، فالكثير من المهام البيتية والخارجية كانت تنهض بها المرأة العربية آنذاك. بل الأكثر من ذلك أنها كانت تدخل في تدبير شؤون الحرب وتضميد الجراح والآثار، وكان تحظى بنصيبها من الغنائم عند تحقيق الانتصار.
هذه المرأة الحرة التي تحظى بهذا المقام لا بد أيضاً من وجود عوامل في بنائها وتشكلها حتى تصل إلى هذا المقام، وتحظى بعنوان الشرفية فيه، ويكون لها ما للرجال من الحظ والنصيب في هذه الحياة.
خديجة الكبرى نموذجاً:
وباعتبار أننا نعيش قرب ذكرى ميلاد السيدة الزهراء (ع) بنت الحبيب المصطفى محمد (ص) ارتأيت أن أتحدث عنها بشكل غير مباشر، على أن يكون الحديث بالمباشرة في ليلة مولدها إن شاء الله تعالى. وأطرق بابها من شاهد يساعدنا على تقريب المدعى من كون المرأة العربية كانت معززة مكرمة في قومها. وهذا الشاهد هو خديجة بنت خويلد، أم المؤمنين، وأول امرأة أعلنت إسلامها، زوجة النبي (ص) أم الزهراء (ع).
إن تلك المرأة ساعدها على أن تتسنم هذا المقام الرفيع العالي الشامخ عوامل قبل الإسلام، وعوامل بعد الإسلام. أما بعد الإسلام، فلو لم يكن إلا أنها زوجة النبي (ص) لكفى، فهي أول زوجة، والزوجة الأولى التي لم تشاركها امرأة أخرى، أي أنها تفردت بوسام أم المؤمنين قبل أن يلبس هذا العنوان واحدة من نسوة النبي (ص). فنساء النبي (ص) اجتمعن على أنهن أمهات المؤمنين، والقرآن الكريم يؤصّل لهذا، والروايات الشريفة تؤكد هذا المعنى. إلا أن خديجة الكبرى لها امتياز خاص، من حيث كونها عاشت أطول فترة زمنية مع النبي (ص) من ناحية، ومن ناحية أخرى أنها أنجبت له الذرية. صحيح أنهم قضوا في الأيام الأولى من حياة النبي (ص) ولكنها خلّفت من ورائها الشمس المشرقة على البشرية، وأم الأئمة (ع)، والنسمة الطاهرة، والمرأة التي لا تقاس بها امرأة من الأولين والآخرين، ألا وهي البضعة الطاهرة الشهيدة المظلومة الزهراء بنت النبي محمد (ع).
ولخصوصيتها جاءها السلام الخاص من رب العزة والجلال عن طريق جبرئيل، عندما أمر النبي (ص) أن يحمل رسالة السلام من السلام إلى السيدة خديجة، عن طريق نبي السلام محمد (ص).
وأما قبل الإسلام فإننا أيها الأحبة، رغم أننا لا زلنا في القرن الخامس عشر الهجري، الحادي والعشرين الميلادي، ورغم أن العلوم تقدمت، والمعارف توسعت، وآليات النقل وإيصال المعلومة تكثرت، وباتت أكثر إحكاماً وإتقاناً، إلا أننا لا زلنا نعيش التعامل مع قضايانا بالمطلق، على أساس من الفكر الذكوري، والعقلية والنفسية الذكورية، حال أن الكثير من المشاهد صنعت مفاصلها المرأة، وأحياناً على نحو التفرد، لا على نحو المشاركة فقط في جريان الحدث.
فخديجة صنعت مواقف على نحو الانفراد والتفرد، والزهراء (ع) على نحو المشاركة، وزينب (ع) على نحو التعقيب والتكامل. فخديجة كانت تهيئ الأجواء للنبي (ص) قبل أن تقترن به كزوج، وهذه حركة مهمة منها. ولنا أن نتصور إلى أيِّ مدىً أوصلتها حالة الوعي والتقدم الذهني لديها؟ فهي امرأة خطبت لنفسها النبي (ص).
ونحن اليوم أبناء القرن الحادي والعشرين، لو أن امرأة خطبت رجلاً لنفسها، ما عسى أن تكون ردة الفعل لدى الأب والإخوان، ناهيك عن الناس؟ لا بد أن الأقاويل ستكثر، عن سر العلاقة بينهما، وكيف عرفت الرجل؟ وما إلى ذلك. أما خديجة فقد وضعت لبنة صحيحة لذلك.
والأسوأ من ذلك عندنا أن المرأة اليوم تُخطب، فيقف الأب أو الإخوة على حافة الطريق، وكأنهم نقطة تفتيش، وكأن القرار الأول والأخير لهم، لأنهم بذلوا من أجلها في الأيام الخوالي. أما مستقبل الأيام فلا يفكر فيه أحد.
إن حياة الآباء والأولاد تحتاج الكثير من المراجعة أيها الأحبة، خصوصاً مع الأنثى، ولا بد أن نعيد القراءة والجدولة. ولسنا من دعاة الانفلات، إنما من دعاة الانفتاح الواعي المسيج بسياج الدين والشريعة الطاهرة.
عوامل التميز والتفرد:
وبالنتيجة كانت هناك عوامل ساعدت على تفرد السيدة خديجة (ع) وتقدمها وتميزها قبل الإسلام، نذكر منها:
1 ـ شرف البيت: إذ كانت من بيت شريف رفيع، فهي أسدية قرشية، أي أنها من أعلى البيوت وأرفعها سناماً. وكانت تتعبد على ديانة المسيح ولم تكن وثنية، فهي امرأة متدينة ترتبط بالسماء من خلال كتاب منزل على نبي مرسل، هو عيسى عليه وعلى نبينا آلاف التحية والسلام.
2 ـ طيب التربية: إذ تربت في بيت يغمره الإيمان والصلاح والأدب الرفيع. وقد حاول المغرضون من وضّاع التاريخ ونُسَّاخه أن يحرفوا البوصلة في هذه المساحة إلى مساحات أخرى، فاختلقوا لها خالاً، وافترضوا أنه يتحكم بأمورها، وهو الذي بناها البناء التربوي والفكري وغيره. وهو لا وجود له في التاريخ إطلاقاً!. والسبب في ذلك الوضع لكي تكون خديجة (ع) رهينة تتحرك في بيت وثني! وليس في مساحة الدين والالتزام وفق الرسالة المتقدمة على رسالة النبي (ص). وهذا غير صحيح. بل إن الخال لا علاقة له بأصل الأسرة دائماً، وهو ما نراه في حياتنا الاجتماعية، إذ إن الفرد يتزوج من قبيلة أخرى، فيكونون لأولاده خؤولة لا عمومة، والعمومة هم الأصل.
فخديجة لم تكن تحت رحمة خال وثني كما يتصور البعض ويردد ذلك عن غفلة أو جهل أحياناً. ولا وجود لهذا (الخال) إلا في بعض المواليد التي يقيمها الدراويش والصوفيون وأمثالهم.
3 ـ المال: فالسيدة خديجة تحركت في إدارة المال، لترسم معالم الشخصية للمرأة العربية في طرق أبواب التجارة. فكانت أول ربة أعمال في الجزيرة العربية هي خديجة. وكان يعبر عنها بأميرة مكة، لوفرة الثروة التي بين يديها. كما أنها لطيب تربيتها كانت تعرف بالطاهرة عند قريش قاطبة. وهو وسامٌ سامٍ رفيع.
كانت تجارتها عبارة عن رحلتين، إحداهما في الشتاء والأخرى في الصيف، وكانت تؤمّر على رحلة الصيف إلى الشام النبي الأعظم محمداً (ص) وكان له أثره الكبير من حيث البركة في أموالها بحيث اتسعت خلال فترة وجيزة.
وهنا أشير إلى أمر مهم، وهو أن البعض اليوم يقول: ما دخل رجل الدين في التجارة؟ وما شأنه بسوق العقار؟ وهذه قراءة خاطئة، فالنبي (ص) عمل في التجارة، وكان يتاجر بمال خديجة (ع). هذا هو النبي (ص) القدوة للبشرية عامة، فلم لا يكون من باب أولى قدوة لرجال الدين؟
فأن يتاجر رجل الدين ويعيش بعزة وكرامة وشرف، خير من أن يمد يده إلى من يستحق ومن لا يستحق. وليس من الإنصاف أن يعيش سائر الناس حياتهم الطبيعية ولا يعيشها رجل الدين مثلهم.
4 ـ البصيرة: فقد كانت نافذة البصيرة، بحيث إنها كانت تراقب حركات النبي (ص) وتقرأ نفسيته، وتضع يدها على آثاره. وكانت تقرأ فيه صفاء النفس وكمالها، وعمق الروح. فالكمال في النبي (ص) عند خديجة هو الذي تعرفته بعد اقترانها به، بأنه الصادق المصدَّق، فلم تتخلف عنه في كلمة، ولم تقاطعه فيها، إنما كانت تسلم تسليماً بكل شيء. لذلك بذلت ما تملك حتى روحها، يوم حوصرت معه في الشعب، ولم تتخل عنه منذ البدء حتى النهاية.
5 ـ حب المعرفة والإيمان الصادق: وهو ما كان متربعاً في نفسها. لذلك كانت وعاء وحضناً طيباً طاهراً لسيدة النساء. فليس هنالك ظرف لائق قابل لحمل هذه النسمة الطاهرة إلا خديجة. فكما أنه لا كفء لفاطمة (ع) إلا علي (ع)، فلا حضن يستوعب نورانية فاطمة إلا حضن خديجة (ع). ومن يقف أمام الزهراء لا بد أن يحني رأسه، لأنها عبارة عن حلقات متواصلة من عالم الأنوار إلى عوالم الذر إلى عالم الشهود والتشخص الخارجي. فهي نسمة خاصة أوجدها الله إكراماً لحبيبه المصطفى محمد (ص).
المرأة المملوكة في الجاهلية:
كان هذا الكلام في المرأة الحرة قبل الإسلام. أما المملوكة فحالها مختلف، وهي التي يعيَّر العرب بتعاملهم معها، رغم أنه كان بسبب تصرف سيئ من قبائل معينة. ومشكلتنا أن الخطأ عندما يصدر من أحد تعمم الجريرة على الجميع ليدفعوا ضريبتها. فلا يمكن أن توصف قبيلة بكاملها بالسوء مثلاً، لأن أحد أفرادها سيئ. وكذلك أي فئة أو صنف من أبناء المجتمع، كالمدرسين أو رجال الدين أو المقاولين أو غيرهم.
فكان التعامل مع المرأة المملوكة على خلاف التكريم والاحترام والمحافظة، فهي ليست أكثر من خادمة، وهي أحد الضعيفين اللذين أوصى بهما الإسلام. ولكن لنقرأ حال الخدم في بيوتنا اليوم، وهنّ لسن مملوكات لنا، إنما يعملن بأجرة. هل أننا نتعامل معهن بمنطق الإسلام والدين؟
دونكم مراكز الشرطة، ومكاتب العمل، ومراكز التسفير، وانظروا التجاوزات، حتى على أعراضهن. بل إن البعض يتصور أن هذه مسألة ملك يمين! يتصرف بها كيف يشاء. بل الأكثر من ذلك أنه في البيت الواحد يكون الأب والأبناء يتعاملون مع الخادمة كملك يمين!.
ولا أعني بذلك هذا الجمع الشريف، ولا الجمع القريب، إنما أريد أن أشير إلى حالات موجودة ومسجَّلة، وهناك إحصائيات مدونة. وإن لم تكن هناك إحصائيات معلنة هنا خوفاً من خلخلة النسيج الاجتماعي وطبائع الناس وعاداتهم وأخلاقهم وقيمهم، فإن بعض الدول تعلنها على المكشوف، وما عندهم لا يختلف عما عندنا. فمن يخرج من بلده ليمارس الرذيلة خارج حدودها ليس بأتقى وأطهر من ذلك الذي يمارسها في بلده.
فكانت المملوكة إما خادمة ترعى شؤون البيت، أو مغنية، أو تضرب الدفوف، أو راقصة، أو تقدم الخمرة، أو صاحبة راية حمراء، فبعض البيوت في الجزيرة العربية آنذاك كانت تضع رايات حمراء، لتشير إلى أن هذا البيت على تمام الاستعداد لممارسة الرذيلة.
فالنبي (ص) بُعث في مجتمع من هذا القبيل، يعربدون ليلاً، ويغدرون نهاراً، وعمل بنفسه الكريمة وروحه السامية العالية إلى أن وصل إلى ما وصل بهم إليه.
والأكثر من ذلك أن الجواري كانت تباع وتشترى وفقاً لقانون الرق، الذي بقي موجوداً إلى عقود قريبة، بعد أربعة عشر قرناً من الزمن.
ومن الآثار المترتبة على هذا القانون الظالم أن المملوكة لا إرث لها، وتؤخذ حقوقها، وتدال أموالها، أي أن ما كسبته بنفسها يأخذه مولاها، وتُعضل بعد موت زوجها أو طلاقها. وللأسف لا زال عضل البنات يمارس إلى اليوم، أو عضل المطلقات أو الأرامل.
ومن تلك الآثار السيئة للرق أنها تورث كالمتاع، شأنها شأن الدواب! ولا زال هذا الفكر الذكوري والعقلية الجاهلية موجوداً بشكل أو بآخر مع شديد الأسف. وإلا فإن المرأة كرمها الله، وكرمها النبي (ص) الذي كان يقف على باب فاطمة (ع)، فيسلم على أهل البيت بعد أن يطرقه ثلاثاً طرقاً خفيفاً، فيقول: السلام عليكم يا أهل البيت. فتفتح فاطمة الباب، وتنحني على يديه تقبلهما، ويضمها إلى صدره يطبع قبلة على جبينها.
نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.