نص خطبة بعنوان: تطبيق ضوابط الحوار أساس القوة والاقتدار
رسول الله (ص) مجمع الفضائل:
بارك الله لنا ولكم ذكرى المولدين السَّعيدين، ميلاد النبي الأعظم محمد (ص) وميلاد حفيده جعفر بن محمد الصادق (ع) وجعلنا الله ممن ينال حظه الأوفى من محمد وآل محمد (ص).
لقد بُعث النبي (ص) في قريش، ومن ورائهم العرب، ثم سائر الأمم، وهو نبيٌّ تُختصر فيه مسافات الأنبياء والرسل، لذلك كان النبي الخاتم.
ولأنه بعث في هذه الأمة هادياً، فقد مكّنه الله سبحانه وتعالى من جميع الأسباب التي على أساسها يصل بهذه الأمة إلى ما هو المبتغى؛ لأن المجتمع العربي من أصعب المجتمعات البشرية، فلقساوة الصحراء دورٌ في تشكُّل ذهنيته، وللضيق والحرج في دائرة أبواب الرزق آنذاك أثره، وللعصبية التي تجسدت دماً بين القبائل أثرها.
ولا كلام في أن النبي (ص) هو الكمال، وحيث أردت أن تمتدح النبي (ص) فالفضيلة تَستصحب معها مجموع الفضائل، لكن القرآن الكريم ركَّز على واحدة من بينهن، ألا وهي الأخلاق، لعلمه المسبق أن هذا المجتمع، متى ما أخذت الأخلاق نصيبها من ذهنيته، سهل الأخذ به إلى باقي المساحات، على العكس من ذلك فيما لو كان هذا المجال لم يؤمَّن، ليبقى المخاطب بالرسالة مغلقاً من حيث العقل، حيث كانت على القلوب أقفالها. إلا أن النبي (ص) استطاع أن يذلل الصعوبات جميعاً بذلك السلاح الماضي، وهو الأخلاق ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ﴾([3]).
كما أنهم وجدوا في النبي (ص) أنه يتكئ على الجانب الأخلاقي في التعاطي مع الطرف الآخر، لكن بعضهم حاول أن يوجد في ذلك بعض الثغرات، لكن النبي (ص) كان صورة السماء في الأرض، وكان الأمين جبريل هو الرابط بينه وبينها، فما من صغيرة ولا كبيرة ولا شاردة ولا واردة إلا والنبي الأعظم (ص) على اطلاع تام بها، فلم يكن للطرف الآخر منفذٌ يستطيع الولوج منه، كما أن صاحب الخلق يمكنه المناورة في حال علمه بما يجري، خصوصاً إذا ما فُعِّلت الفضيلة. فطيبة النفس مثلاً أمر مطلوب، في البيت ومع الناس، بل حتى مع العدو، ولكن إذا أبحر المرء معها بعيداً فقد تأتيه الدواخل من حيث يشعر أو لا يشعر، وهذا عام في جميع الناس، أما النبي (ص) فلا تشمله القاعدة من جهة أنه يشعر بما يجري، لأن بيده الوسيلة التي مُكِّنَ بها من قبل السماء أن يطَّلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور. صحيح أنه لم يكن مكلَّفاً أن يكشف جميع الأوراق، ويشير إلى الأشخاص والجماعات التي تتربص بالإسلام الدوائر، حيث ترك للزمن أن يأخذ بُعده، فرجع من هؤلاء من رجع إلى الطريق السليم، والصراط المستقيم، ومنهم من أصر وكابر حتى كبت به بطنته، وذهبت به المذاهب إلى أبعد مما يُتصور، بحيث يتساءل المرء أحياناً: هل حقاً أن هذه الجماعة كانت على مقربة من النبي (ص) وسمعت الوحي منه وعاشته ممارسةً في الخارج، أو لا ؟
النبي (ص) رائد الحوار الحضاري:
وانطلاقاً من مبدأ: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِيْ هِيَ أَحْسَنُ﴾([4])، فتح النبي (ص) باب الحوار، بينه وبين مريديه ممن دخلوا الإسلام، وكذلك بينه وبين مبغضيه ممن حاربوا الإسلام، فلم يغلق الأبواب أمام هؤلاء، لأن صدره كان بمساحة الدنيا، والذين دخلوا الإسلام في أيامه الأولى هم من الذين يعدون من الطبقة المسحوقة المعدومة، ابتداء من بلال الحبشي، إلى خبّاب بن الأرتّ وعمار بن ياسر وغيرهم، فهذه هي الطبقات التي دخلت في الإسلام، وهو شأن طبيعي في البشرية، باعتبار أن الظالم دائماً وأبداً يحرك الأفراد عن بعد، وليس لديه الاستعداد أن يدفع الضريبة.
من هنا نلاحظ أن عمرو بن العاص في صفين أراد أن يستخدم دهاءه ليتخلص من أحد رجلين: إما علي أو معاوية، ولم يكن أمر علي (ع) يعنيه بقدر أمر معاوية، الذي كان ينوي التخلص منه، لأنه بمقدوره بعد مقتل معاوية بسيف علي (ع) أن يعلن الشام حكماً ذاتياً مستقلاً، وينفصل عن الحكومة المركزية في الكوفة. لذلك التفت إلى معاوية يوماً وقال له: إن هؤلاء جميعاً خرجوا للإسلام، فهلا ادَّخرت لهم أرواحهم، ونازلت علياً (ع) فإن قتلته أرحت المسلمين منه؟. فعاجله معاوية قائلاً: وإن قتلني انفردت أنت بالشام.
هذا هو تفكير الأبالسة وتخطيطهم، وليس الأبالسة مقتصرة على الشيطان اللعين، إنما هناك أبالسة من الجن والإنس، وهذان الرجلان يمثلان إبليسين يجلسان بعضهما جنب بعض.
فالنبي (ص) فتح الحوار مع الجميع. لذا أخاطب الجميع، لا سيما الشباب منهم فأقول: من لديه القدرة على فتح أبواب الحوار والنقاش والأخذ والرد هو الذي يتحرك على أساس من القوة والاقتدار والدليل والبرهان، على عكس من يتحرك تحت ستار الظلام الدامس والليل البهيم، فهؤلاء يتحركون على أساس الضعف والخوف من مواجهة الحقيقة، وهذا ما يجري في جميع الميادين. فقد تجد أحياناً مجموعةً ما، تعيش في موقع معين، فلا تحرك ساكناً، لكنها ما إن تخرج من ذلك الموقع حتى تغرِّد، لا لشيء إلا لأنها خرجت من دائرة الرقابة من جهة، ومن جهة أخرى لأنها لا تملك في داخلها عناصر القدرة على المواجهة، فتذهب بها المذاهب إلى البعيد حتى تصل إلى مستوى التهريج الذي لا ينبغي لنا أن نقف عنده طويلاً.
فالحوار من ثوابت المدرسة الإسلامية، بل إن أسلوب الحوار الذي اتبعه النبي (ص) مع المشركين كان أمضى أثراً من السيف، وإن كان في ذهنية العرب أنهم بوقوفهم ومعاكستهم للنبي الأعظم (ص) سيصلون إلى نتائج، لكنهم لم يصلوا، صحيح أن السيف استأصل شأفة الكثيرين. أما الحوار فقد آتى أُكُله. يقول تعالى: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِيْ هِيَ أَحْسَنُ﴾([5])، وحيث أن لنا في رسول الله أسوة حسنة، فعلينا أن نسير في مقام الحوار على أساس من الجدال أو الحوار بالدليل المقنع والأسلوب الحسن.
إن ما نراه اليوم في قنواتنا الإسلامية بشكل عام، وكذا في المواقع ووسائل الاتصال الأخرى، إن هو إلا هراء، فهو لا قيمة له، ولا يقدم ولا يؤخر، وذلك لأسباب عديدة سوف أستعرضها لاحقاً.
فالقرآن الكريم يؤكد الجدال بالتي هي أحسن. وأما السنة المطهرة ففيها الكثير من الشواهد على ذات المنهج المذكور. ففي كتاب الاحتجاج للعلامة الطبرسي، مجموعة من الروايات التي يحشدها المصنف، في مجالس الإمام الرضا أو الإمام الجواد عليهما السلام، يعكس من خلالها أسلوب الاحترام للطرف المقابل، فلا تجد كلمة إلا وراءها دليل، عقلي أو نقلي، فإن سار الدليل النقلي في مساره فيها، وإلا تذرع المناظر بالدليل العقلي. وعندما يتأمل المتأمل ليرى الفاصل بين تلك الأدلة المساقة في الاحتجاجات، يجد أن انتهاج الطريق العقلي مع أولئك من قبل الأئمة (ع) كان أسهل، لبعدهم عن دائرة الدليل النقلي، ذلك أنهم لم يصلوا إلى درجة مقنعة لأنفسهم بهذا الدليل، لأن الدليل النقلي يعني الآية المحكمة أو الرواية الصحيحة. والآية المحكمة مع إحكامها تساق أيضاً إلى اليمين أو الشمال، لأن الملاك هو اتّباع الهوى، والشواهد على ذلك كثيرة.
ولا إشكال أن الحوار وسيلة شرعية بدليل أن النبي (ص) انتهجه مع ألدِّ خصومه، وأشد الناس عداوة له. كما أنه ضرورة إنسانية، لا سيما في زماننا هذا، لقرب المسافات بين الناس، ولا عذر لأحد أن يقول: أغلقوا هذا الملف، فهذا ليس أوانه. نعم، هذا أوانه الحقيقي، وإذا لم يكن اليوم فمتى يكون؟ هذا هو قدرنا اليوم، وهو أن نتحاور على أسس سليمة.
ضوابط الحوار وأسسه:
ولكن، مع كون الحوار ثابتاً دينياً مارسه النبي (ص) وحاجة إنسانية ملحة، إلا أن هنالك ضوابط لا بد من الإمساك بها والخضوع لها، ومنها:
1 ـ الفهم عند المحاور: فقد تجلس أحياناً أمام شاشة التلفاز أو غيرها لمدة أربع أو خمس دقائق، لتجد أنها كافية لمعرفة المحاور ومقدار ما لديه من العقل، من خلال فهمه واستنطاقه للنص، أو من خلال فهمه للمحاور الآخر. فلا بد من توفر هذه الحالة من الفهم لدى المحاور، وأن تكون هي سيدة الموقف، كي يصل المرء من خلالها إلى المطلوب.
2 ـ وضوح الرؤية: فلا إشكال أن مجموعة من القضايا والمفاهيم والمسائل والأمور التي نتعاطاها خلال هذه الفترة الزمنية الطويلة البالغة أكثر من أربعة عشر قرناً، أكسبت الأدلة النقلية الكثير من الضبابية. فلا بد أن تكون الرؤية واضحة، علامَ نتحاور؟ ولماذا؟ وإلى أين نريد أن ننتهي بهذه الجدلية التي نراها في أوساطنا؟
إن الغرب تجاوز مرحلة الجدلية، لأنه وجد أن الإنسان المقابل قد فقد أهم العناصر، ألا وهو سلامة الفهم المبطن بوضوح الرؤية، فمن يدخل في الحوار لا بد أن يتوافر على هذا الرافد.
3 ـ احترام الطرف الآخر: فما من نبي في القرآن الكريم إلا ودخل في باب الحوار مع قومه، ولكن بالدليل والبرهان، لا بتسفيه الأحلام، بل على العكس من ذلك، أي أن القرآن ذكر إلى جانب احتجاج الأنبياء، حجة الآخرين عليهم وما قالوا لهم. أما ما ورد في القرآن الكريم من قوله تعالى مثلاً: ﴿كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارَاً﴾([6])، أو قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثُ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثُ﴾([7])، فهي كليات، كما أنها كانت تنطبق على جماعة آنذاك، يمكن أن تنطبق على جماعات أخرى في يومنا هذا، ممن يتحركون في مساحة الحوار الفاقدة للمقومات.
فاحترام الطرف الآخر مهم جداً، وليس لأحد أن يقول: إن الطرف الآخر ليس مسلماً مثلاً، فلا أحترمه، أو أنه ليس من مذهبي.
4 ـ الهدفية: فليس من المجدي أن يتخبط المحاور كما يتخبط الأعمى. وهذا أمر مطَّرِدٌ في كل مجالات الحياة، إذ لا بد من الهدف الواضح البين لمن يتحرك، وإلا فإنه سوف لن يصل لشيء، وإن كان لديه الاستعداد الذهني وسائر المؤهلات.
بل إن الكثير من الناس لم يكتشف القوة الداخلية والمؤهل الذاتي له، الذي يمكّنه من الوصول لهدف معين، فهل أن قدراته الذاتية تعتمد على الحفظ، ليذهب باتجاه الفقه والتاريخ والأدب وأمثالها؟ أو أنها تعتمد على العقل والفهم، لينحو نحو الرياضيات والفلك والهندسة وغيرها؟ فهو لا يدرك نوع قدراته الذاتية، ولم يضع أمامه أي هدف ينوي الوصول إليه. وهذا لون من ألوان الضياع.
5 ـ عدم محاكمة النوايا: فلا يعلم السرائر إلا الله تعالى، لكننا نرى أن البعض بمجرد أن يبدأ الحوار مع الآخر يتهمه في نواياه، وهذا ما يحصل لدى جميع الأطراف دون استثناء، وهؤلاء ممن لا يقيم لهم أحدٌ وزناً، لا من الشيعة ولا من السنة، وهم يغردون خارج السرب.
فليس الملاك في الإسلام المحاكمة على النوايا، إنما على أساس البينة الشرعية. وهذا منهج عام في مختلف الزوايا والقضايا في الدين والمجتمع.
6 ـ رسم الخطوط العريضة لدائرة الحوار: كي لا يذهب المتحاوران يميناً أو شمالاً، فنحن نرى اليوم في بعض الحوارات السياسية، كالاتجاه المعاكس في الجزيرة، أن المتحاورين يصل بهم الحال إلى تبادل التُّهم والسباب والشتم، لأن دائرة الحوار لم تُرسم بشكل خطوط لا يمكن تجاوزها، ولأن أسس الحوار التي ذكرناها سابقاً مفقودة، فلم يحترموا إسلامهم كدين يحتكمون إليه، ولا إنسانيتهم، ولا أي مبدأ آخر، ولا ندري ماذا يحدث في العالم بعد نهاية كل حلقة من البرنامج المذكور وأمثالهم.
فرسم الخطوط العريضة يقيِّد الطرف الآخر عند النقاش، فلا يذهب يميناً أو شمالاً، ليضيع المبدأ الأساس. لذا نرى أن القضية تبدأ عند الدائرة ألف وتنتهي بدائرة أخرى قد تكون الياء؛ لأن الهدف مفقود، والخطوط العريضة غير مرسومة.
7 ـ الكفاءة والتخصص في المادة المبحوثة التي يجرى على أساسها الحوار بين الأطراف، في المؤتمرات وغيرها. والحال أننا عندما نفتش عن عناصر الكفاءة والتخصص، لا نكاد نجدها إلا قليلاً.
فعلى سبيل المثال لو أن أحداً أراد النقاش في مبدأ فلسفي معمق، كأصالة الوجود، فإن هذا المفهوم يحتاج إلى مقدمات، منها دراسة المنطق والفلسفة المتعالية وغيرها، حيث يبذل الطلبة في الجامعات والحوزات العلمية أوقاتاً طويلة في دراسة ذلك، وكذلك في الجامعات الإلهية الكبرى في أوربا. أما أن يسمع السامع بهذا المبدأ الفلسفي، ثم يتعرض لمناقشته فهذا النقاش فاقد لواحدة من دعائمه، هي الكفاءة والتخصص. فلا بد أن يكون التخصص لأصحاب التخصص.
وليس معنى ذلك أننا نحجر على الآخرين فكرياً، بأن لا يتكلموا في فقه ولا تاريخ ولا فلسفة ولا غيرها، فلا بأس بالتعاطي مع ذلك على نحو الثقافة العامة، والاطلاع، والحوار الذي لا تترتب عليه النتائج الفاسدة، أما عند الوصول إلى العمق، فرحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، ولا بد أن يعرف كلٌّ قدره ويقف عند حدوده.
إننا نرى اليوم أن البعض محدود الثقافة، لم يُنهِ مراحل متقدمة في الدراسة، لا يعرف حتى عناوين الكتب الخاصة بالموضوع الذي يطرحه، فضلاً عن مطالعتها، بل لا يعرف شيئاً حتى عن مؤلفيها ومادتها المطروحة، لكنه يدخل إلى ساحات البحث والحوار التي تحتاج إلى مستوى أرقى بكثير، وإلى كفاءة وتخصص يتناسب مع المقام.
وأهم ما يساعدنا على هذا الأمر (أي الكفاءة والتخصص) هو الإمساك بأسباب الحكمة والإبداع، فلا بد أن نهيِّئ أنفسنا لنكون من أهل الحكمة والإبداع أولاً قبل أن نتحرك في خضم هذه الساحات.
قاعدة الشيخ الأوحد:
وليس هذا أمراً جديداً، فالمرحوم شيخ المتألهين أحمد بن زين الأحسائي (قدس سره الشريف) كان قد وضع ضابطةً من ثلاثة أصول، إذا استطعنا أن نجمع بينها أمكننا الولوج في مساحات الحوار، وإن نحن أخفقنا في جمع هذه العناصر فعلينا أن نعطي القوس باريها. وهذه العناصر هي:
1 ـ اجتماع القلب على الاستماع لما هو المقصود، دون الرغبة في الرد: فهل أننا جسدنا هذه الضابطة في واقعنا الحالي؟ وهل رأيت اثنين اجتمعا في محل ما للحوار، دون أن يقاطع أحدهما الآخر قبل أن يتم كلامه؟ فأين اجتماع القلب على الاستماع؟ ولك أن تدخل محفلاً لتلقي فيه سؤالاً، لتنظر كيف يتكلم من عليه أن يستمع، ويسكت من عليه أن يتكلم.
2 ـ عدم ركون النفس للأمر الذي أنست به قبل السماع والتلقي: وقد يغضب البعض عندما نصرح بهذه الحقيقة. وقد أعجبتني كلمة لأحد المشايخ من لبنان قال فيها: صحيح أن الأمة موحِّدة، وترفع شعار لا إله إلا الله، لكنها في جانبها العبادي يضرب فيها الشرك بأطنابه.
وبيان ذلك أن البعض يصل فيه الأمر أن تقول له: إن الله يقول كذا، أو القرآن، أو النبي (ص) أو أهل البيت (ع) فيرد عليك: دعنا من هذا الآن. فهل يمكن أن تتعامل مع مسلم إلا بهذا الأسلوب؟
فمن المسائل في باب البينات، أنه لو حضر خمسون قَسَّاماً يُشهَدُ لهم بالإيمان، وقالوا: إن فلاناً قال كذا، ثم قال فلان: لم أقل، فعليك أن تكذبهم وتصدق قوله. أما أنك لا تستطيع أن تكذبهم، فهذه صنمية وعبادة للذوات من دون الله، وإنكار لسنة الحبيب المصطفى (ص) وإعراض عن كتاب الله تعالى.
فالروايات الشريفة في مثل هذه الحالات تصرح بقولها، فصدقه وكذبهم([8])، وهذا في حال وجود خمسين قسامة، فما بالك بخبر ينقله فاسق معلوم الفسق؟ فلو كان الإيمان مستقراً لقلنا: أحسنوا الظنّ والبساطة اللامحدودة، لكن القرينة قائمة هنا على عدم الإيمان في الناقل، لأنه يكذب، ولكن مع ذلك يصدقه المنقول له، فأين الدين؟
3 ـ عدم الاعتماد على ما هو الموجود عنده من القواعد والضوابط: فالبعض يواجهك بقوله في أمر ما: هذا من المسلَّمات، والحال أن تلك المسلمات والقواعد من وضع الإنسان الضعيف البسيط، وليس من المعلوم أنها مسلَّمة، فكم من مشهور لا أصل له ولا أساس، ومنها بعض القواعد التي تلقيناها بتسليم مطلق حال أنها قابلة للتقييد وغيره. نعم هنالك أمور غير قابلة للمناقشة، وهي الثوابت، فلا مجال للمناقشة في الثابت.
أيها الأحبة: إن الانفتاح على الآخر ليس مطلباً نبحثه لنعثر عليه، إنما هو أساس ورد في القرآن الكريم والروايات الشريفة، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوْبَاً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوْا﴾([9])، والتعارف هنا إنما يكون على أساس الدين والخلق الكريم، والأعراف الاجتماعية التي يقرها أهل العقل.
التحذير من الاختلاف والفرقة:
إن هناك مؤامرة من الغرب على الأمة الإسلامية لتفتيت أوصال هذا المجتمع، وعلى المسلم أن يلتفت، فمن كان مؤمناً بالله تعالى فعليه أن يتكل عليه، وهو يتكفل عبده المؤمن. فإن لم نشدد من عرى العلاقة بيننا وبين الآخر الذي قد لا نتفق معه في الكثير من الأمور، فسوف تذهب الرياح بالكثير من المكاسب عند الجميع.
يقول أحد الباحثين: في أشد حالات الاختلاف بين المذاهب الإسلامية جميعاً لا تتجاوز النسبة الخمسة في المئة.
ولكن من تعاسة هذه الأمة أنها تجتمع على خمسة بالمئة من الفرقة والسقوط والانحطاط، ولا تجتمع على خمس وتسعين بالمئة! إن الله تعالى لا يمكن أن يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فهل ننتظر التغيير ونحن لسنا على استعداد لتغيير واقعنا؟
أيها الأحبة: «المسلم أخو المسلم، هو عينه ومرآته ودليله لا يخونه ولا يخدعه ولا يظلمه ولا يكذبه ولا يغتابه»([10]). وفي رواية أخرى: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يخونه...»([11]). وهذا كلام أهل البيت (ع).
يقول الإمام الصادق (ع): «خَالِقُوْا النَّاسَ بأخلاقِهم، صَلُّوا في مساجدهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، وإن استطعتم أن تكونوا الأئمة والمؤذنين فافعلوا، فإنكم إذا فعلتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، رحم الله جعفراً ما كان أحسن ما يؤدب أصحابه، وإذا تركتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، فعل الله بجعفر، ما كان أسوأ ما يؤدب أصحابه»([12]).
إلا أننا مع الأسف لم نعد نتعامل بالأخلاق حتى مع أبناء مذهبنا، فإن كنا لا نستطيع ترميم واقعنا فيما بيننا، فكيف يمكننا أن نتعامل مع أخينا من المذهب الآخر على أساس من الأخلاق؟ وكيف يمكننا أن نوسع الدائرة مع من لا يشترك معنا في عنصر الإسلام؟
إن من يغلقون هذه الدوائر الثلاث، لو كانوا يدركون حجم النتائج المخيفة والمرعبة فيما لو لو استمرت عملية الانحدار والانشقاق والفرقة لما استطاعوا أن يناموا ليلهم.
فالإمام الصادق (ع) يطلب منا أن نصلي في مساجدهم، لكننا لا نجد من ذلك شيئاً، فمن الغريب عندنا أن يدخل أحد أبناء المذاهب في مسجد المسلم الآخر، والحال أنه لا مسجد الشيعي للشيعي فقط، ولا مسجد السني للسني فقط، فالمساجد بيوت الله في الأرض، وحيث أوقفت مسجداً فقد خرج من ملكيتك.
وكذلك في عيادة مرضاهم، فعندما يكون جارك المسلم مريضاً فلا بد أن تزوره، وترسم خطاً مستقيماً في هذه اللوحة الجميلة، سواء على مستوى محافظة أم على مستوى بلد أم أمة.
ومثل ذلك في تشييع الجنائز لأبناء المذاهب الأخرى، فكم يترك ذلك من الأثر الطيب في النفوس! وإن كان الشيعي مطالباً بهذا فالسني كذلك. ولو رجعنا في الزمن قليلاً إلى الوراء لوجدنا أن الفواتح بين الشيعة والسنة كانت موحدة، بل تجد أن أبناء السنة هم أصحاب المصاب في فواتح الشيعة، والعكس بالعكس. فعلينا أن نحافظ على هذه الصفة التي تمثل جانباً من موروثنا، وكان الجميع يستظل بها، وهي ثمرة جهود آباء وأجداد منا ومنهم.
إننا نقول لأبناء العامة من أبناء الاعتدال، من موقع الاعتدال فنقول: كما أننا نحسن الظن ولا نعتقد فيمن يخرج على قناة وصال وغيرها أنه يمثل التسنن المعتدل، فإن عليكم أن تنصفونا، بأن من يخرج على فدك وأمثالها لا يمثلون التشيع، لأن المرجعية أعطت رأيها صريحاً واضحاً بيناً، فمن أراد أن يسير على نهجها فهذا نهجها وحكمها، ومن لا يرغب في ذلك فالشاذ في النار، ولا علاقة لنا به.
ترانيم في المولد النبوي:
وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.