نص خطبة بعنوان: انتظار الأمة للمهدي بين منتظر إيجابي وأخر سلبي
انتظار الفرج:
عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: «إذا نادى منادٍ من السماء أن الحق في آل محمد فعند ذلك يظهر المهدي على أفواه الناس، ويشربون حبه فلا يكون لهم ذكرٌ غيره»([2]).
إن الأيام التي تُستقطع من أعمارنا تقربنا من دائرة لطفه، ولكن أن نشرَّف بذلك أو لا نشرَّف، في محضر قدسٍ متجسدٍ فذاك ما يحكمه الغيب الإلهي، لكن الذي يعنينا أولاً وبالذات، هو ما أعددناه لذلك اليوم على فرض أن يكون فيه التشريف لنا بشرف النظر إلى محيّا الخلف الباقي من آل محمد (ص).
فالروايات في هذا الجانب كثيرة، بل وضعت الانتظار على قائمة العبادات التي يؤديها الإنسانُ قبل ظهوره، منها قوله (ص): «أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج»([3]).
والمهدي (ع) حقيقة سماوية ثابتة بشر بها الأنبياء والرسل، وأكدها النبي (ص) بما يربو على ألف ومائتي حديث، روى العامة والخاصة الكثير منها، وانفرد الخاصة بما اختصهم به أئمتهم من آل محمد (ع). لذلك جاء الانتظار كمفهوم له حضوره، وها نحن نستمع إلى هذه المفردة المدللة أو الناقلة أو المقربة لنا لمعطى هذا المفهوم، في الكثير من مجالسنا ومنتدياتنا الدينية، أو التي تأخذ طابعاً دنيوياً، لكن هذا المفهوم لا يزال عائماً لم تُحدَّد معالمه، وأحسن ما قُدِّم في هذا المجال هو التقسيم، فجعلوا الانتظار مَقْسَماً، ثم قسموه إلى انتظار صحيح إيجابي، وإلى آخر خاطئٍ سلبيٍّ.
ومنذ ذلك اليوم الذي صدرت فيه الأحاديث الشريفة بقي الناس يترقبون هذا المولود، والحكومات المتعاقبة على رؤوس المسلمين، خصوصاً من عاشوا الفترة المصاحبة لدور العصمة، كانت على درجة عالية من اليقظة والترقب والمتابعة، حتى باتت النسوة من كريمات أهل البيت (ع) تحت دائرة المراقبة اللصيقة، لذا جاءت الكرامة من الله سبحانه وتعالى أن يكون حال الحمل للخلف الباقي (عج) في بطن أمه نرجس (ع) مخفياً حتى ليلة الولادة على أخص الخاصة في البيت، ومنهم عمة الإمام المهدي (ع).
وبالنتيجة فإن الإمام المهدي (ع) أنشودة تدغدغ أحلام البشر وأذهانهم، والناس يقتربون ويبتعدون من هذه الأنشودة، فللمسيحية غناؤها الخاص، وكذلك لليهودية وسائر الشعوب، لا سيما المسحوقة منها التي لامست طرفاً من القراءة والانفتاح. وأما الأمة المسلمة فحدث ولا حرج عليك.
لكن الجماعة المعنية بهذا المفهوم أولاً وبالذات، هم أتباع هذا الدين الحنيف الخاتم، وهم أتباع الدين الإسلامي، فكيف هو حال الأمة وحال المفهوم استحضاراً واستدعاءً ذهنياً، وتجسيداً واقعياً من خلال عيش الإنسان حالة الأنس من ذلك العالم المغيب عنا الذي له حضوره وآثاره البينة.
الانتظار الإيجابي والانتظار السلبي:
إننا ننتظر الإمام المهدي (ع) وقد يكون الانتظار خاطئاً أو صحيحاً، أما على فرض صحته فيفترض أن يكون المجتمع قد تحمل فيه كافة المسؤوليات المناطة به، وهنا نسأل: هل أن المجتمع الإسلامي بعنوانه العام، أو في دائرته الأضيق، في أتباع مدرسة أهل البيت (ع) هم على مستوى تحمل المسؤولية؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل أن التحمل في دائرة التنظير أو في دائرة التجسيد الفعلي الخارجي؟
وبلفت نظرٍ هنا وهناك يتلمس الإنسان بعض جوانب المشهد، فمنذ زمن الغيبة حتى اليوم يسعفنا التاريخ، وفي حاضرنا اليوم يسعفنا الواقع، فهل أن واقع الأمة في عنوانها العام أو الخاص، يشير إلى أنها تعيش حالة الانتظار والترقب الإيجابي، أو أنها في منأى عن هذا المشرب؟
إن المسؤوليات المناطة بالإنسان المسلم تجاه الخلف الباقي (ع) كثيرة، منها إعداد النفس، فهل أعدت الأمة المنتظِرة نفسها لهذا اللطف، أو أنها لا زالت تعيش الثغرات؟.
ثم إن هنالك مسؤوليات ملقاة عاتق الإنسان تجاه الإمام المهدي (ع) عند ظهوره، فالرواية المهمة التي نقرؤها أو نسمعها أو نقرؤها، وهي أن هناك من يوطئ للمهدي سلطانه، لم تحظ بما ينبغي أن تكون عليه في واقع الأمة إلا عند القلة، لذا نستطيع أن نضع يدنا على واحد من أبرز الرموز الذين سعوا جاهدين لإيجاد صورة من التجسم والتجسد الخارجي لمعطى هذا الحديث الشريف، ألا وهو السيد الإمام (قدس سره الطاهر) فهو من رجالات العلم الواصلين عبر الطريقين العقلي والنظري فيما لا يشق له غبار، ولا يستطيع أن يجاريه إلا من خفي عنا من أسماء الرجال، وإلا فلا يجاريه أحد ممن نعرف، لأنه إمام في عرفانه وفلسفته وأصوله وتفسيره وفقاهته ورجاله وحديثه، والأهم عندي أنه (رضوان الله عليه) استطاع أن يجسد جميع الإشارات المنطوية في الحديث المذكور، تجسيداً واقعياً، وهذا أمر في غاية الأهمية، أي إعداد الأرضية للآتي.
إذن علينا مجموعة من الواجبات في هذا الزمن، في إعداد أنفسنا، وما هو أوسع من دائرة أنفسنا، بأن نتقدم بالمجتمع خطىً، سواء كان ذلك على مستوى التنظير أم على مستوى التجسيد، لأن التنظير غائب أيضاً في بعض المساحات من مجتمعاتنا، بل وحتى بعض المساحات من مجتمعاتنا الخاصة التي يفترض أن يكون هذا الملف قد فتح في أوساطها. وبظني أننا إذا ما تجاوزنا هذه الدائرة المعلومة المحسوبة في موقعها الذي أشرت إلى طرف منه، نجد أن هذا المفهوم المقدس لا زال إلى اليوم عائماً، وأعني به مفهوم الانتظار، فما الذي يراد لنا؟ وماذا يراد بنا؟ ثم نسأل: هل نحن اليوم في حالٍ يؤهلنا لنقترب من مساحة هذا المفهوم، وأن نسافر به من عوالم التنظير إلى عوالم التجسد الخارجي، أو أننا لا زلنا لا نمتلك شيئاً من آليات ذلك؟
وإذا كان بين أيدينا هذا الكم الهائل من الروايات التي تعنى بهذه القضية، فهذه دليل على أهميتها، ولولا أنها في غاية الأهمية لما أنفق الأنبياء والرسل والأولياء والأئمة والعلماء جهودهم في بيان معطى هذا الجانب.
فكم هي المراكز الخاصة والمختصة بالمهدي (ع) في وسط الأمة التي تغذيها بالصافي من هذا النمير؟ فالكتابات خجولة، وهي للجمع أقرب منها إلى البحث والتحقيق، والناس في العموم يميلون إلى الموضوعات من الأحاديث، وتقترب من مساحة المغيَّب أكثر من الحاضر، حال أن الذي يعنيها هو الحاضر.
إن من ينتظر الإمام المهدي (عج) ويدعو الله أن يعجل له الفرج، ليعرض نفسه على ما سوف يقوم به المهدي (عج) من العدالة في العالم، ليرى في أي ميزان من الكفتين سوف يوضع؟ كفة الرجحان أو كفة الخسران؟ بمعنى أن يضع له ميزاناً يزن فيه أعماله، يضع عمله الصالح في كفة، وعمله السيِّئ في الكفة الأخرى، ثم يزن الكفتين.
فمن ينتظر على نحو الإيجاب يُفترض أن يكون قد عاش العدالة الصغرى، وينتظر العدالة الكبرى من حوله، فهذا هو الذي يقرأ الانتظار قراءة صحيحة، أما إذا كان في الحسبان أن ينتظر العدالة الكبرى، دون أن يخطو خطوة واحدة في اتجاه العدالة الصغرى، فهو ظالم لأهله، حاقد على مجتمعه، لا أبالي مع دينه، فلا شك أن النتائج ستكون سيئة.
والدين لا يعني (الدروشة) إنما هو العلم والوعي والانفتاح وقراءة الآخر وقبوله، فمن يعتقد أن الإمام المهدي (عج) عندما يؤذن له بالخروج سوف يجرِّد سيفه ويعمل في رقاب البشر، فليس هذا من الإنصاف للمهدي، ولا من العدالة، فهو نور، يخرج بالنور، وهذا النور هو الذي حجبته الأمة عن نفسها، وكان قد تجسد يوماً في قلب الحبيب المصطفى (ص) وشع على الكون. فمن جرب أن يعيش العدالة النسبية في دائرة ضيقة أمكنه أن يستشرف ذلك العالم.
لذا فإن هذه الأمة لو كانت قد أسلمت قيادها لعلي بن أبي طالب (ع) لأكلت من فوقها، ومن تحت أرجلها، وذلك بسبب العدالة التي كانت ستتحقق على يديه، لكن الأمة أدارت ظهرها لمبدأ العدالة ومفهومها، وإلا فإن آلياته وأسبابه وعناصره كانت موجودة منذ زمن النبي (ص) وكما أن النبي (ص) رحمة للعالمين فالمهدي كذلك، وكما أنه نور يستضاء به في الظلم فالمهدي كذلك، وكما أن النبي (ص) جاء ليخرج الأمة من الجهل إلى عوالم العلم والمعرفة فالمهدي كذلك.
إلا أن البعض منا مع الأسف يعرض صورة أخرى للمهدي (عج) بأنه سوف يخرج منتقماً، والحق أنه سوف لا يقوم إلا بتجسيد رسالة السماء على الأرض، أي أنه يحقق العدالة الكبرى، بأن يأخذ الحق من الظالم للمظلوم، ويعيد الأمور إلى نصابها، ويسير في الناس كأحدهم، وتخرج الأرض فلذات كبدها، ويضع المؤمن زكاته في حجره فلا يجد من يأخذها منه، وهي نتائج لتلك العدالة المطلقة التي على أساسها يرشد المجتمع.
لذا نرى أن الرواية عن الإمام الصادق (ع) تقول: «إنَّ قائمنا إذا قام مدَّ الله عز وجل لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم حتى لا يكون بينهم وبين القائم بريد، يكلمهم فيسمعون، وينظرون إليه وهو في مكانه»([4]). وقد يقول قائل: هذا يعود إلى تطور العلم، واختراع وسائل الاتصال الحديثة، ولكن هناك روايات أخرى تنص على أن نسبة ما لدى الإمام من العلوم حين ظهوره، إلى ما عند الناس كنسبة سبع وعشرين إلى اثنين، أو خمس وعشرين إلى اثنين، على اختلاف في الرواية. فكل ما لدى البشرية من تطور في هذه الأيام، وهو نتاج لعصور متراكمة، لا يعدو حرفين مما عند الإمام المهدي (عج). فمتى ما تشكلت حالة التوطئة من قبل المؤمنين، كما حصل مع إمام الأمة (قدس سره) ومتى ما يعي أصحاب النظرة والتطلع إلى الواقع بما هو واقع، عندئذٍ تتحقق تلك الحالة، بحيث لا يكون بينهم وبين القائم بريد. إن ذلك يتحقق عندما تستعد الأمة استعداداً واقعياً، لا بمجرد الكلام.
هذه حقيقة الانتظار، فهناك انتظار يمكن أن يسمى انتظاراً سلبياً، وهناك انتظار إيجابي، ويمكن لنا أن نضع أنفسنا في الأول، ويمكن أن نضعها في الثاني.
ضرورة الثقافة المهدوية:
كما أن للانتظار آداباً وطرقاً، وهي تعني فيما تعنيه الثقافة الكاملة بالحركة المهدوية. فما نراه اليوم من تسلق على هذا المفهوم وهذه الحقيقة من بعض الأشخاص الذين يبرزون في بعض المواقع، لا سيما في المجتمعات التي لا تحسد على واقعها، إنما هو الغياب الواضح البين لمن يفترض أن ينهض بالمسؤوليات، فالكثير من قضايانا التي تربك أوضاعنا اليوم هي في منتهى الصغر والحقارة، لكن عدم قيام من يفترض أن يقوم بالمسؤولية في نزعها من جذورها، يجعلها في القادم من الأيام تشكل قضايا أخرى، يصعب على صاحب القرار الذي يسهل عليه بالأمس أن ينتزعها من واقع الأمة، وأمثلتها في هذا الصدد كثيرة.
فمن حق المكلف مثلاً أن يسأل: هل أن هذه الحوادث الصغيرة في نظر من يقوم بها، والتي لا ترتبط به على نحو الحصر، إنما لها تداعياتها يميناً وشمالاً بمرأىً ومسمع من أصحاب القرار الديني الشرعي الفتوائي أو لا؟ فإن كانت على علم منهم فأين جوابها؟ وإن لم تكن كذلك فما هو المانع؟ فيكون الحال كما قال الشاعر:
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ
إن الكثير منا يبحث عن علامات عصر الظهور، وينتظره متى يخرج، ويحصل على قائمة طويلة عريضة لا تنتهي، وهناك من ألف فيها كتباً، كما صدر عن أحد المؤلفين، حيث ألف سبعة مجلدات، لكنها في النتيجة النهائية علامات، ليس عليها دليل ناهض، حال أنها يرتب عليها الآثار، ويترتب عليها مصيرها وحياتنا وتطورنا، فهي لا تعدو حشواً من الروايات الموضوعة أو المرسلة، والأسانيد التي ليس لبعضها وجود، وبعضها مخترق من حيث رجال السند. ولكنه أصبح الأكثر مبيعاً، لا في بلد مثل الصومال، إنما في قم، بلد الموطئين للمهدي سلطانه، فما بالك بالمجتمعات الأخرى؟. هذا هو حال المطبوعات عندنا، ولك أن تجرب كتاباً في تفسير الأحلام، أو الاستخارة، أو الليالي النحسة والسعيدة لتنظر حجم انتشاره وكثرة مبيعاته. وكأن الله تعالى منح علم الغيب لهذا المؤلف أو ذاك، من رجال الدين أو غيرهم. أما أن تؤلف كتاباً يأخذ بالأمة إلى مدارج الكمال، فلن تجد له إلا القليل من القرّاء.
إن أهم العلامات في ظهوره عليه السلام، هي وجود جذوة إيمانية حقيقية في داخل الإنسان المنتظر، فإن وجدت وإلا فعليه أن يراجع الحسابات، وهذا ليس انتقاداً لأحد، أو قسوة على طرف، إنما ينبغي لنا إذا أردنا أن ننتظر، أن نأخذ مفهوم الانتظار من أهل الانتظار الحقيقي، كالسيد الإمام في كتبه، وكالإمام الشهيد الصدر في نظرته للحركة المهدوية، وقراءات الشهيد المطهري المتقدمة، واستنطاق الإمام المظلوم السيد موسى الصدر، هؤلاء الذين وضعوا علامات على الطريق، وعاشوا الفقاهة ذات الأثر العملي في واقع الأمة، وأحدثوا تغييراً لا تمحوه السنون مهما تعاقبت.
أما أن ننتظر الارتقاء لنرتقي، دون أن ندفع تكاليف وأثماناً، وندعو الله تعالى أن يأذن للمهدي بالظهور، فهذا هو الانتظار السلبي. فعلينا أن نكون مؤهلين للظهور. ولو أن الأمة كانت تستحق أن يأذن للفرج من آل محمد (عج)، لكنها لا تستحق ذلك. فهل أن الأمة المتنابزة بالألقاب، الظالمة لنفسها، الحاقدة على الغير، أو التي بات نهر الدم أكثر تدفقاً في وسطها من أنهر الماء.
نسأل الله تعالى أن يعجل في فرجه، وندعو الله تعالى له بالظهور، وهناك أدعية في هذا الصدد فيها أجر وثواب، ولكن كم تلامس شغافنا الداخلي، وكم تحرك ضمائرنا، وكم تدغدغ الأنا الأعلى، أو تدفعنا إلى القراءة والكتابة والبحث والتحليل والاقتراب من المساحات التي عاشت الاستنطاق الواقعي.
الإمام الحكيم في ذكراه:
لا ننسى أن نذكّر هنا بوفاة الإمام السيد محسن الحكيم، هذا الرجل العظيم القارئ الفقيه المتجدد الواعي المدرك، وهو رمز من رموز الوحدة في وسط الأمة.
أقول: إن أصحاب المسؤوليات إن لم ينهضوا بسؤولياتهم كل بحسبه، فسوف ينحدر واقعنا نحو المستنقعات. فقد نقلت قناة الفرات برنامجاً تأبينياً بهذه المناسبة، كان عنوانه: إمام الوحدة الإسلامية، فقال أحدهم: لقد ضيع البعض أعمارهم في حب هذا السيد، فتبين أخيراً أنه من أصحاب الوحدة الإسلامية!. فهل صارت الرغبة في الوحدة بين المسلمين منكراً؟
لذا لا تستغرب من جماعة عندما طرق أسماعهم خبر في ذلك اليوم المشؤوم، في وفاة الإمام الخميني رحمه الله تعالى، أقاموا وليمة، وتباشروا وتبادلوا التهاني والتبريكات، فإن كان الأمر كذلك مع علمائنا ومراجعنا فنحن نقول لهؤلاء المعترضين: زيدوا من كيلكم لتحملوه على ظهوركم إن شاء الله.
نسأل الله لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.