نص خطبة بعنوان:الإمام الهادي (ع) وفتنة خلق القرآن

نص خطبة بعنوان:الإمام الهادي (ع) وفتنة خلق القرآن

عدد الزوار: 1563

2016-04-24

الجمعة 1437/7/7هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

الإعداد للغيبة:

في الحديث الشريف عن الإمام الجواد (ع): «الإمام بعدي ابني علي أمره أمري وقوله قولي وطاعته طاعتي»([2]).

ضمن أيام هذا الأسبوع عشنا ذكرى ميلاد واستشهاد الإمام الهادي (ع) الكوكب العاشر من كوكبة الإمامة.

عاش الإمام الهادي (ع) في فترة زمنية حرجة جداً، إلا أنه استطاع أن يؤسس لواقع كان ينتظر أتباع مدرسة أهل البيت (ع) فيما يتماشى ومسألة الغيبة. وقد قام بأدوار عدة في سبيل ذلك، ولا زال أتباع مدرسة أهل البيت (ع) إلى اليوم في مسيس الحاجة أن يعودوا إلى حياة هذا الإمام بما دونه التاريخ النظيف، ليقلّبوا الأوراق ويقرأوا ما في السطور وما وراءها. فثمة مقاربة نسبية بين بعض الأمور التي كانت تحكم تلك الفترة وذلك الواقع وما تعيشه الأمة اليوم بعنوانها العام، والأتباع بعنوانهم الخاص من خصوصية المرحلة. ويبقى قبل ذلك وفيه وبعده تحكيم العقل في جميع القضايا، فهو أمر مهم جداً.

العقل الشخصي والنوعي:

وعندما نقول: تحكيم العقل، لا نعني بذلك ما أنفردُ به أنا، وما تنفرد به أنت، أو ينفرد به ذاك، إنما هو خلاصة ما يصل إليه العقل عندي وعندك وعنده بحيث يشكّل نوعية في انتخاب الشيء واختياره، فيكون العقل نوعياً منبسطاً على مساحات عدة يمثل الأفراد أرقامها، وهذا ما نحتاجه في كل حين. أما أن أنفرد بعقلي الشخصي وأرى ما أرى، وينفرد الآخر بعقله الشخصي ويرى ما يرى، دون أن تكون هناك دائرة للمقاربة بين ما قال وما أقول، فالنتيجة لن تكون مقبولة من حركة العقل في عملية الاستنتاج.

وهذا هو الأساس والقاعدة التي يبني عليها الإنسان ثم ينطلق إلى مجموع التفريعات في أكثر من اتجاه واتجاه، وطرق أبواب المسائل المتنوعة. وبحمد الله أن عقول الناس اليوم في حالة من النمو والرشد والوعي والتقدم أفضل مما كانت عليه في السابق، فالعلم يشكل رافداً، وكذلك القراءة، والاختلاط مع الآخر، وسماع الحوارات التي تجري هنا وهناك، وغير ذلك من الروافد، فإذا اجتمعت فيما بينها فإن العقل يتبرمج في وضع خاص، وتحدث حالة الحركة في الداخل، ويترشح عنها ما تصل إليه أنت وأنا والآخر، فينصهر في بوتقة واحدة ونخلص إلى نتيجة.

ولا كلام أن الإمام المعصوم (ع) هو أكمل العقول، فمتى ما وجد بين ظهراني الأمة فهو العقل الأكمل، ولا يقاس به عقل مهما تقدمت عقول الناس، لأن المتاح بين أيدينا هو هذا الممكن الذي نصل إليه من خلال ما يتاح لنا، أما ما في يد المعصوم فهو عناية الغيب، واللطف السماوي الذي يتدخل في كل صغيرة وكبيرة، بحيث يكون الرأي والقول الصادر عن المعصوم لا يخرج عن دائرة الاتصاف بالكمال بما لا زيادة عليه. وحيث إنه ليس من المتسنى لنا اليوم أن ندعي الالتقاء بالمعصوم (ع) ناهيك عن الأخذ عنه والائتمار بأمره على نحو المباشرة، فإننا نبقى في حدود مدركاتنا التي أسسنا وأصّلنا لها وغذيناها وانطلقنا وتركنا المساحة لها في أن تتحرك.

فالإمام الهادي (ع) في وقته كان يشكل عصمةً للعقل البشري باعتبار أن ما استنتجه العقل الجمعي في الخارج لا يعني العصمة له، إنما يعني أنه أقرب ملامسةً للواقع والصواب من العقل الشخصي، وأعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله. أما الإمام المعصوم (ع) فإنه عندما يتدخل في قضية، أو يصدر قولاً أو حكماً فلا مجال للأخذ والرد في النتيجة. لكننا اليوم نعيش الغيبة، ولا طريق لنا للالتقاء بالمعصوم، والادعاءات التي نسمع عنها اليوم ما هي إلا تخرصات، ومن باب مصادرة عقول الناس الذين يتشبثون ببعض الرؤى والأحلام التي ما أنزل الله بها من سلطان.

فالإمام الهادي (ع) وجد أن المسارات بدأت تشذّ بأتباع مدرسة أهل البيت (ع) والأمة الإسلامية جمعاء في أكثر من اتجاه واتجاه، فلا بد من التدخل المباشر ووضع الحلول الناجعة لمجموعة من الأمراض المتسللة لجسد الأمة.

خطوات في طريق الإصلاح:  

وبطبيعة الحال أن الأقرب أولى بالأمر من البعيد في جميع الأمور، فالمرء في بيته يجد أن ما يقدمه لأهل بيته أولى مما يقدمه لغيرهم، وهذا أمر طبيعي. لذا عمل الإمام الهادي (ع) على تفعيل وتأسيس المحاور التالية:

1 ـ التحصين العقدي:

لقد لاحظ الإمام الهادي (ع) أن هناك تشتتاً في المسمى العام لهذه المدرسة، بعد مرور أتباع مدرسة أهل البيت (ع) بالناووسية والفطحية والإسماعيلية والواقفية وفرق ونحل مختلفة. وهو أشبه بما نراه اليوم من محاولات البعض للتفريق على أساس تعدد المرجعيات، في حين أن من المفترض أن من يقلد مرجعاً يكون عمله مبرئاً للذمة، لكن البعض يحلو له أن يسمي الناس بأسماء مراجعهم.

إن تلك المسميات ما دامت في حدود بيان من ترجع إليه فلا بأس بها ولا ضير، ولكن عندما يتحول الأمر من الاسم إلى واقع آخر، فيه إلغاء ومصادرة للآخر واعتداء عليه، فإن الأمر يخرج من إطار العملية التعبدية إلى الصنمية والجاهلية الجهلاء.

فالإمام الهادي (ع) التفت إلى أن تلك الأمور المتسربة من القرون والحقب المتقدمة لا بد أن يضع لها حداً، لأن الأمة ستنتقل إلى واقع آخر، فالمعصوم (ع) ليس بين ظهرانيها، ولا يتنقل في مجالسها في الظاهر والعلن، فلا بد إذن من التأسيس للأطر العامة. وقد بنى هذا التأسيس لتحصين الأمة وأتباع مدرسة أهل البيت (ع).

وقد ابتدأ الإمام (ع) بالتحصين العقدي، إذ عمل على صيانة الأمة وأتباع مدرسة أهل البيت (ع) من غائلة ما يمكن أن يحرف المسار في العنوان العام أو العنوان الخاص.

وقد وجد الخليفة العباسي آنذاك، أن ضبط الواقع في دائرة الدولة العباسية التي بدأ يتسرب إليها شيء من الضعف، يستلزم إلهاء النخبة من أبناء المجتمع الإسلامي، وأن ذلك يتطلب أن يطرح في وسطه قضية تؤمّن مساحة للجدل والخروج عن دائرة المسؤولية إلى دائرة ما لا يعني، في حدود الترف الفكري بأقصى ما يمكن أن يقال.

ونحن اليوم في مقاربة بسيطة نعيش أشبه ما يكون بذلك الواقع، لكن العنوان اختلف، فعندما نلاحظ الحوارات في وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها نجد أنها في إطار الجدل المحض، وليس هناك ما ينتج فكرة ناضجة، وليس هنالك هدف مرسوم.

فتنة خلق القرآن:

فالخليفة العباسي طرح ما يسمى « مسألة خلق القرآن» في أوساط العلماء من الأمة، فعصفت بها بشكل كبير، والهدف من ذلك أن الموقف من خلق القرآن إما أن يكون بالإثبات أو بالنفي، أي أنك إما أن تقول: القرآن مخلوق، أو غير مخلوق، فإن قلت بما هو رغبة السلطة والحاكم فأنت في سلام وأمان، وإن تبنيت الرأي المقابل، أو آثرت السكوت على اختيار رأي بعينه، فمصيرك وحياتك في خطر. فكان المتهم يُقدَّم للقاضي، ويدان بالقول بخلق القرآن، ويفرَّق بين رأسه وجسده، وطويت صفحة الكثير من العلماء الأعلام والقامات الشامخة في علوم الشريعة والفلك والفلسفة والتاريخ والتفسير وغير ذلك ممن كانت لهم قدم راسخة في مدرسة العلوم الإنسانية واللاهوتية ممن استؤصلوا في فتنة (خلق القرآن).

وكان شيعة الإمام يأتونه يسألونه بأن هذا الأمر سوف يعرض علينا، فإما أن نقول به أو لا نقول، فما هو الحل؟ وهذا أشبه بامتحانهم فيما سبق من الأزمنة بالبراءة من علي (ع). وليس من المعقول أن يقف الإمام الهادي (ع) من ذلك وقفة المتفرج على ما يجري، ولا بد من التدخل للتحصين العقدي.

موقف الإمام من خلق القرآن:

يقول الإمام (ع) في فتنة خلق القرآن في جوابه لأحد أصحابه: «نحن نرى([3]) أن الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب، فتعاطى السائل ما ليس له، وتكلف المجيب ما ليس عليه، وليس الخالق إلا الله وما سواه مخلوق، والقرآن كلام الله، لا تجعلْ له اسماً من عندك فتكون من الضالين»([4]). ونحن نرى هذا الأمر واضحاً اليوم في وسائل الإعلام، فلا يقبل المتكلم حتى بيان الرسول (ص) لمعطى الآية، ولا بيان الأئمة (ع)، ولا بيان المفسرين المنصفين، ولا يطرح إلا ما يراه بعقله الشخصي. والحال أن الإنسان المسلم لا بد أن يتهم منتجه العقلي لصالح الأكمل والأتم. فيرى أن تلك قراءة محكومة لقرون غابرة، فيكون كلام النبي (ص) وأهل البيت (ع) عند بعض الناس قد عفا عليه الزمن. بل الأكثر من ذلك، أن بعضهم قال: إن القرآن صنيعة محمد (ص)! وبذلك تجاوزوا الخطوط الحمر.

فكما أن العالم لا يمكن أن يقف متفرجاً في معضلات الأمور ومشكلاتها، فإن الإمام (ع) من باب أولى لا يقف متفرجاً. فهو يرى أن الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب. فالسائل أحياناً يسأل بعض الأسئلة التي لا فائدة من ورائها ولا محل، وأحياناً يسأل من أجل الاستعراض كي لا يقال: إن فلاناً ساكت. والحال أن السكوت في كثير من الأحيان أفضل من الكلام، فإن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، إلا إذا كان الكلام في حق.

أما المجيب فيتكلف ما ليس عليه، فهو لا يعرف الجواب، ولا يردّه لأهل العلم كما يقول تعالى: ﴿فَاسْأَلُوْا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُون﴾([5]). فالقرآن كلام الله، وهو بين ظهرانيكم، دستور خالد لإنقاذ البشرية، وعليكم أن تتعاملوا معه بما هو هو، لأنه يضيء الحياة ويقودنا للسعادة والأمن والمحبة والأخوة. وهذا هو معطى القرآن.

ونحن أيضاً لا بد أن ننتهج القرآن منهجاً شاملاً، لا أن نحصره في مجالات العبادة فقط، كالصلاة والصوم والحج وغيرها، فهذه أركان قرآنية صحيحة، لكن ليس كل الدين العبادة، فهناك ما هو أخطر وأكثر مساساً بحياتنا، ونحن بمسيس الحاجة إليها. فهناك أكثر من خمس وسبعين بالمئة من القرآن معطل مشلول! ولا يتحرك في وسط الأمة إلا الربع منه، وحتى هذا المقدار يتحرك بحذر تارةً، وبقراءة خاطئة تارةً أخرى. فلكي يدرك أحدنا أثر غياب المعصوم عن الساحة لا بد أن يرى الأمة بأي شيء ابتليت؟ وفي أي واقع مستوحلة؟.

فكان الإمام (ع) يجيب السائل بأنه يجب أن يقف عند هذه الحدود، ولا يتعداها، فما وراء ذلك إلا الضلال والعياذ بالله. وبذلك أغلق الباب الأول، وهو باب التحصين في الجانب العقدي في واحدة من أخطر المسائل التي كانت عاملاً رئيساً في دفع الثمن من الأرواح البريئة، فقد قُتل الكثير في فتنة خلق القرآن، وفيهم من خيار الأمة من حيث القدرة على العطاء، وبذلك تعرضت حركة التعليم والثقافة والمعرفة والفكر للكثير من الشلل، لأن المرحلة كانت خصبة، لكنهم أجهزوا عليها بتلك الفتنة وأمثالها.  

2 ـ التحصين العلمي:

فقد حاول الإمام (ع) أن يرتقي بأتباع مدرسة أهل البيت (ع) في هذا المجال. ونحن أيضاً بمسيس الحاجة إلى هذا المطلب اليوم، فليس من الصحيح أن يقنع أحدنا بأدنى مستوى للتعليم.

أيها الشباب المؤمن الواعي: لا ينبغي أن تكون الوظيفة هي نهاية المطاف في هذه الدنيا، وعليك أن تطوِّر من قدراتك العلمية، وأن تتقدم، فإن كنت في الثانوية فلا تقنع بها، فالجامعة أفضل، وإن كنت في الجامعة فلا تقنع بها، فالدراسات العليا أفضل، وإن كنت في الدراسات العليا فالتخصصات العالية أفضل وأفضل، وكلكم قادرون أيها الشباب، فلا تستصغروا أنفسكم، ولا تلغوا عقولكم، ولا تحدِّدوا من الرغبات في دواخلكم، فهذه كلها نعم من الله تعالى، فلا تبددوها، بل عليكم أن تفعِّلوها بالحمد الفعلي، وأن توقدوا جذوتها. ففي الأمم المتقدمة لا يكتفون بالوظائف، إنما يواصلون الدراسة والعمل.

فعلى الشاب أن يتمحل السبل ويدخل الدورات. فالبعض تجده جامداً، تأتيه الترقية في منطقة نائية نسبياً، لكنه يوسط الوسائط الكثيرة كي لا يذهب إلى هناك، لأنه يقنع بالأدنى، ولا يشغل باله سوى جلسة المساء مع الشباب في الاستراحات، التي لا نفع من ورائها إلا ما شذّ وندر.

فالإمام الهادي (ع) كان يدفعهم نحو نيل المقامات العلمية، وكان من صفاته أن يبتدئ بجالسيه قبل أن يسألوه، وكان يرفع لهم في كل يوم علماً، لذلك كثر تلاميذه، وحصل الإثراء في عالم التفسير والفقه والتاريخ وبعض العلوم الإنسانية.

إن دور أئمتنا (ع) لا يختصر في جزئية هنا أو أخرى هناك، ولا في كرامات مفتعلة هنا أو هناك، فكراماتهم الحقيقية محفوظة لهم، وليسوا بحاجة لكرامة يضيفها إلى مقامهم السامي خطيب أو متحدث، فهي تسيء لأئمتنا أكثر مما تحسن إليهم.

إننا كطائفة ندفع أحياناً ضريبة رجل بسيط يرتقي منبراً، لأنه لا يجد أمامه كبيراً يردعه، ولا جهة تضرب على يديه، بل العكس من ذلك يجد من يشجعه، ويحارب من يردعه ويتهمه أنه يريد التقليل من مقامات أهل البيت (ع).

إن مقامات أهل البيت (ع) تجري في كل قطرة من دمائنا، وتحرك كل شعرة في أجسادنا، ووالله لو لم يكن ذلك، لأرقنا القطرة وقطعنا الشعرة. لكن حب أهل البيت (ع) ليس للتجارة أو المزايدات، ولا بد أن نأخذه من أهل البيت (ع) أنفسهم.

نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.