نص خطبة بعنوان: إدارة الخلاف والاختلاف (1)

نص خطبة بعنوان: إدارة الخلاف والاختلاف (1)

عدد الزوار: 772

2015-04-04

وقفات التأمل والمراجعة:

قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُوْنَ مُخْتَلِفِيْنَ ~ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ([2]).

يحتاج الناس في سيرهم للتوقف في محطات، للتزود بالمؤن تارة، وأخرى لمحاسبة ما تقدَّم، وثالثة لاستشراف ما هم في الاتجاه إليه. وهذه حالة طبيعية يشترك فيها عموم الناس. وبقدر ما يتقدم الإنسان في حياته ويرقى، علماً ومعرفةً، بقدر ما يكون في مسيس الحاجة أن يفعِّل حالة التعاطي مع هذه المحطات.

فالأفراد بما هم أفراد، يحتاجون في مسير حياتهم لمثل هذه الوقفة. وكذلك المجتمعات، صغيرةً كانت أم كبيرةً تحتاج لذلك أيضاً. أما القائمون على شؤون الأمة فربما يكون الإلحاح عليهم أكثر من غيرهم في أن يتوقفوا عند هذه المحطات، فبقدر ما يكون الهدف سامياً كبيراً بقدر ما يحتاج للرهان على عامل الزمن في محطات التوقف، كي تكتمل الرؤى وتتضح معالم المشهد.

من السهل أن يرمي الإنسان ببصره من خلال زاوية واحدة، قد تكون مستقيمة أو حادّةً أو منفرجة، ولكنها في أحسن التقادير لا تعطينا الصورة كاملةً، لأن الصورة لا تكتمل حتى ينظر المرء من العلوّ.

وبقدر ما تزدحم الأفكار بين الناس وتتقاطع المصالح، بقدر ما تبرز على السطح المشاكل والفتن، وإذا ما غابت الحكمة ذهبت الأمة تبعاً لذلك أدراج الرياح، وأصبحت نسياً منسياً، وكم يحدثنا التاريخ عن أمم سادت ثم بادت.

الخلاف والاختلاف:

إن الاختلاف أمر مرحَّبٌ به، بمعنى أنني أختلف معك في وجهة نظر أو مبنىً معيَّن أو نظرية محددة، فلولا الاختلاف في مجالات البحث والعلم لما ارتقى العلماء بعلومهم، ولما وصلوا بمنتجاتهم إلى ما وصلت إليه البشرية اليوم من تقدُّم. فالاختلاف إذا بقي في حدود دائرته مرحبٌ به، بل ليس لأحدٍ أن يصادر هذه الخصوصية للناس، ويضعهم خارج هذه الدائرة، فالله تعالى وهبنا العقول لنستخدمها ونفعّلها، بعد التغذية المركّزة. فما آخذ به أنا لا تأخذ به أنت، وهكذا الآخر، لأن الأمزجة تختلف، والمصالح تتباين، وهي عاملٌ ضاغط، فقد تكون المصلحة مصلحة فردٍ، أو مصلحة أمة أو دولة أو مجتمع، فيكون لها الكثير من الأثر.

وأما الخلاف فلا نستطيع أن ندّعي أنه مرحبٌ به على الإطلاق، ولا أنه مردود على إطلاقه، إنما ندخله في دائرة التقسيم، ليصح معنا التعاطي مع هذا المفهوم.

والخلاف والاختلاف واكبا مسيرة الإنسان وأثّرا في سيره وسلوكه ونتاجه، ولكن بقدر ما كانت الأمة تستند إلى رصيد ثقافي وفكري كبير ومركّز بقدر ما استطاعت أن تتجاوز ما يترتب على حالة الخلاف من السلب، آخذةً بما يوصلها من خلال الاختلاف إلى ما فيه المصلحة.

وبناءً على ذلك قد يكون الخلاف ممدوحاً، وتكون ثمة مقاربة بينه وبين الاختلاف، لأن المغايرة والعمدة في التقسيم هي المنفعة، أي ما يترتب على هذين القسمين من المنافع.

فمما هو ممدوح من الاختلاف ما يكون من قبيل التنوع والتجديد في مساحات الفكر والواقع الخارجي، وهذه الحالة من التجديد والتنوع من طبيعة حالها أن تصبّ في المصلحة الخارجية لأنها توجِد حالة من الصلاح والذهاب إلى ما هو الأكمل. فهي إذن حالة مرحَّبٌ بها وغير مدفوعة. قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى([3])، فالاختلاف بين الذكر والأنثى ليس أمراً سلبياً، إنما لما يحمل هذا من الخصائص، وتلك من الخصائص، يُجمع بين تلك الخصائص في مسار الاختلاف لنخلص إلى هذه النماذج التي فرضت نفسها على هامة التاريخ، ودونت أسماءها في صفحاته. وبطبيعة الحال يكون الأنبياء والرسل في المقدمة ثم الأولياء من بعدهم، ثم العلماء، ثم الأمثل فالأمثل، فهذه الطبقات مرتبة بحسب ما لامست الواقع وانطلقت فيه من خلال الإنسان للإنسان، بغية الارتقاء بالإنسان.

إذا تمت هذه الحقيقة وكان الاختلاف بهذا المعنى، أي الاختلاف المنتِج للمنتَج الأصلح الذي يُسهم في تقدم الأمة فإنه اختلاف مُرحَّب به، فقد يكون قراراً، أو نظرية، أو لوحة، أو مشهداً أو غير ذلك.

أما الاختلاف الذي يندرج تحت قائمة المذمومات فهو مرفوض عقلاً ونقلاً، فطبيعة العقل لا تقبله، وإن كان عقلاً شخصياً، بل ربما ندّعي ـ ومن حقنا أن ندّعي ذلك ـ أن العقل النوعي أيضاً لا يخرج من هذه المنظومة، بأن يقرّ هذا النوع من الاختلاف.

لغة القوة:

والاختلاف المعنيّ هنا هو ذلك الاختلاف المبني على أساس التضادّ الملقي في دائرة التناقض، المنتهي إلى حالة عدم قبول الجمع والرفع، فإذا آلت الأمور مع هذا المفهوم إلى هذه النتيجة، عندئذٍ يكون مذموماً، لأن بقاءه سوف يكون محكوماً بالقضاء على الآخر، وهنا تأتي لغة القوي والضعيف، وهذه اللغة هي التي وقعت فيها منذ اليوم أبشعُ الجرائم البشرية، وهي مقتل أحد ابني آدم على يد أخيه، فقد كانت الدنيا كلها عبارة عن آدم وحواء وابنيهما، أي أن عدد سكان الكرة الأرضية كان أربعة أشخاص فقط، وبمقتله ذهب ربع سكان هذا الكوكب.

واستمرت هذه الحالة مع الأمم، وراحت الأمم القوية تأكل الأمم الضعيفة، فلو لم يكن ابن آدم الذي قتل أخاه أقوى منه لما أقدم على القتل، لكنه كان يتمتع بتلك الصفة، فارتكب تلك الجريمة النكراء. ولا زالت نزعة الشر والظلم والتسلط، منذ ذلك اليوم، ترمي بشررها في كل مكان، وبتنا نسترجع بيتاً لحكيم الشعراء المتنبي وهو يقول:

          والظلم من شيم النفوس فإن تجد   ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلمُ

هذا هو الشاعر الحكيم، أبو الطيب، أحمد بن الحسين المتنبي، وتعساً لأمة لا تقرأ فيه إلا جانب المنظوم، ولا تتعمق في معطياته.

أقول: بتنا نستجدي ذلك البيت من الشعر لنسقطه على واقعنا المرير في الأمتين العربية والإسلامية.

لقد مرّت ألف سنة على هذا البيت الشعري، إلا أنه لا زال حياً نابضاً، لأنه ليس شعراً فحسب، إنما هو حكمة مفرغة في قالب، فاختزنتها الذاكرة، وفرضت نفسها على الواقع، فصار يسترجعها بين الفينة والأخرى.

إن واقعنا اليوم يكشف عن تلك الحقيقة التي يعكسها قول الشاعر، فإن وجدت من لا يظلمك فعليك أن تفتش عن العلة الكامنة وراء ذلك.

يقول القرآن الكريم: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى([4])، أي أنه مختلف، وليس معنى ذلك أنه نثار هنا وهناك فحسب، إنما هو شتات يؤسس لمرحلة الضياع، الذي قد يكون ضياع دولة أو أمة أو بشرية بكاملها. فهذا النوع من الاختلاف مرفوض، لأنه يجعلنا ندفع الكثير من الضرائب.

عوامل الاختلاف:

وربما يسأل سائل: ما هي الأسباب الكامنة وراء الاختلاف؟ ولماذا تختلف الأمم والشعوب؟ ولمَ يسود الصراع الكثير من البقاع؟

إنه سؤال مشروع، من حق الجميع أن يسأله بملء فمه. بل إن الإمام الحسين (ع) وهو الإمام المعصوم الذي لا ينطق إلا عن الوحي يقول لأعدائه: علام تقاتلوني؟ فهو يسأل شذّاذ الآفاق، ونبذة الكتاب، عن السبب الذي دفعهم لقتاله.

يجيبنا القرآن الكريم عن ذلك، وهو أصدق القول، ويكشف لنا في مجموعة من الآيات معالم تلك الأسباب الكامنة وراء الاختلاف في وسط الأمة:

1 ـ غياب روح العقل بالمطلق في ذهنية المختلفين: فيصبح العقل مجمَّداً ليست له قابلية القراءة والاسترجاع والاستنطاق مطلقاً، يقول تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ([5]). فما قيمة إنسان بلا عقل؟ صحيح أن الله تعالى كرّم بني آدم، والمؤمن أعظم حرمة عند الله من الكعبة، بل إن هدم الكعبة سبعين مرة أهون عند الله من تجاوز على ذات مؤمن، وهذه معطيات النصوص، لكن الإنسان ينحدر بنفسه أحياناً إلى أدنى من هذا المستوى بكثير. فالبعض قد يتسافل إلى مستويات لا يستحق أن يُعدل فيها بشيء أو يساوي شيئاً، وهو أمر واضح بيّن لا يحتاج إلى دليل، فمن استباح المدينة ثلاثة أيام بلياليها، هتك فيها الأعراض، ودنس مسجد النبي (ص) هل يستحق أن نقول فيه إلا ما قلنا؟

يقول تعالى: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيْعَاً وَقُلُوْبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُوْنَ([6])، فالله تعالى أعطانا عقولاً، وألزمنا بها الحجة. وهذا الأمر لا يستثني أحداً من البشر، فهناك من يفتقر للعقل والحكمة عالماً كان أم جاهلاً، طبيباً، أو مهندساً، أو حاكماً، أو محكوماً، أو غير ذلك.     

2 ـ استحواذ الحسد: وما أدراك ما الحسد! عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: «ويح الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله»([7]).

يقول تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ‏ الْإِسْلامُ‏ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ([8]). فالحسد بين أهل العلم أمر وارد لا يمكن لأحد إنكاره أو استغرابه، ولكنهم العلماء الذين باعوا ضمائرهم للشيطان، وابتعدوا عن دائرة الله تعالى، ولم يتعاملوا مع المنهج والمنطق القرآني، ولم يجعلوا في سيرهم وهديهم علامات استنبطوها من خلال موروث مقدس قدمه للأمة محمد وآل محمد (ص).

إن البضاعة التي أصبحت رائجة بين الناس هي الحسد، فتجد الأخ يحسد أخاه، والزوج زوجته، بعد أن كان ينظر إليها باستعلاء. فصار يحسدها على بضعة ريالات أو امتيازات أو غير ذلك، حتى يصل الأمر إلى الطلاق والمحاكم من أجل ريالات معدودة. فتعساً لمن يطلق زوجته من أجل حافز أو أمر آخر.

وومن تلك البضاعة ما نراه من المرأة مع ضرتها، فهو استجابة للشيطان، وليس منطقاً ربانياً، فرسول الله أشرف البشر، وقد عدّد الزوجات، والمولى علي (ع) أشرف الناس بعد رسول الله (ص) وقد تزوج بعدة زوجات، وكذلك الأئمة (ع) وهذا أمر طبيعي، لكنه الحسد، الذي ينتج عن عوامل عديدة، إما من عدم توازن الرجل في العمل والتعامل بينهما، وهو ظلم واضح بيّن، أو لعدم إحاطة كل من الطرفين بثوابت الشريعة، فلو أن الله تعالى علم أن المصلحة بخلافه لنصّ على ذلك، لكن حكمته اقتضت أن يكون الأمر ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ([9]). هذا هو منطق القرآن الكريم، بغض النظر عن كوني أُعدّدُ أو لا أعدد، فهذا شأن شخصي لا علاقة له بأصل الحكم. ولكن إن وجد من يريد التعدد فليس من حق أحد أن يعترض طريقه، بشرط العدالة، وليس الظلم والميل، حتى يصل الأمر إلى المحاكم من أجل حطام الدنيا من النفقة وغيرها.

أيها المؤمنون: لا بد لي هنا أن أعلّق تعليقاً مهماً، وأرجو من كل منكم أن يستمع لما أقول: إنني لا أعرف عن الناس إلا ما ظهر من حالهم، وليس من حقي أن أتعامل معهم بأكثر من ذلك، وليس من حق أحد أن يسألني عن أحدٍ في أمر زواج، لأنني أجهلُ الناس بهذه القضية، ولا أحب أن أتدخّل في هذا الشأن، بل إنني لم أتدخل لا في زواج بناتي من حيث قرارهن، ولا زواج ولدي السيد عدنان من حيث اختياره. فلا بد من ترك مساحة للولد ليتزوج عن وعي وإدراك ويتحمل مسؤولية قراره سلباً أو إيجاباً. أما أنك تصلي خلفي وتثق بي، ثم تعتمد عليّ في مثل هذه الأمور، فأنا لا أعلم الغيب ولا أسكن الضمائر، وكل ما لدي هو الظاهر، ولست أعرف عن الناس أبعد من ذلك.

والمسألة الأخرى التي أود التنبيه إليها، أن البعض يراني مثلاً أحضر زواج أحد الأقرباء فيقول لي: المعروف أنك لا تحضر مناسبات الزواج، فكيف حضرت هذا الزواج؟ أقول:

أولاً ـ إنني أحترم الجميع وأدعو بالخير والبركة لجميع من تزوج ويتزوج.

ثانياً ـ إذا دُعيت في ليلة واحدة في عشر محافل تزويج أو أكثر، فكيف يمكنني أن أحضرها جميعاً في آن واحد؟

ثم إنه ليس من حق أحد محاسبة الآخر على عمل خير يقوم به، لا سيما إذا كان صلة رحم، وهذا هو الدين. بل لا بد من التماس العذر للناس في حال التقصير الظاهر أو حتى التقصير الفعلي.

هذان سببان للاختلاف، وهنالك أسباب أخرى كثيرة يمكن أن نذكرها في وقت لاحق.

نسأله سبحانه وتعالى أن يحفظ بلاد الإسلام والمسلمين، وأن يدير دائرة السوء على من أراد السوء بأحد من شرعة سيد المرسلين، وأن يردَّ كيد اليهود إلى نحورهم، وأن يحفظ أبناء شيعة أمير المؤمنين (ع) أينما كانوا، وأن يحفظ مقدسات المسلمين في كل مكان، لا سيما العتبات المقدسة، من  كل من يتربّص بها الدوائر. ونسأله تعالى أن يحفظ هذه البلاد وما حولها من البلدان، وأن يجعل الحكمة والعقل والتعقل سيد الأمور في كل مساحاتنا الإسلامية.

والحمد لله رب العالمين.