نص خطبة:الولاية على الناس الوكالة الشرعية نموذجاً (7)

نص خطبة:الولاية على الناس الوكالة الشرعية نموذجاً (7)

عدد الزوار: 1369

2018-10-21

الجمعة 2 / 2 / 1440 هـ - 12 / 10 / 2018 م

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وآله الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصةً لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

تعلم العلم وتعليمه:

في الحديث الشريف عنه (ص) كما قد روي: «من سئل عن علمٍ يعلمه ثم كتمه، ألجمه الله تعالى يوم القيامة بلجام من نار»([2]).

العلم أغنى المكتسبات التي يحصل عليها الإنسان في هذه الدنيا بعد الأخلاق، فإذا سما خلق الإنسان، واكتسب علماً يكون ممن حظي بأعلى درجات الغُنم، وبقدر ما يتحدر في سلوكه وأخلاقه أو ينقص من علمه ومعارفه، بقدر ما يكون قد اقترب أو دخل في دائرة الغُرم.

وقد أراد الله تعالى للإنسان أن يسير الهوينى على هذا الكوكب، والسنّة المقدسة أكدت ذلك، والناس كذلك تبانى فيما بينهم أن من يسير بهدي (الشيوخ) هو ذلك الإنسان المحترم.

والعلم وسيلة وليس غاية، فعندما يصل الإنسان في السلك الحوزوي إلى الاجتهاد، فذلك وسيلة في سبيل إصلاح الأمة، والنهوض بها من عالم الجهل والتخلف إلى عالم المعرفة والتقدم، وليس غاية.

وجميع المكتسبات والمقدرات يتساوى فيها الناس، فمن حقي أن أصل، ومن حق غيري كذلك أن يصل، غاية ما في الأمر أن البعض يرى أن هذه المكتسبات غايات وليست وسائل، لذلك يتجمد ولا يتقدم. ومن هنا انطلق الحديث الشريف الذي ذكرناه آنفاً. فهناك من يسعى لطلب العلم، ثم يعود فيغلق بيته على نفسه، وينقطع عن مجتمعه، فإذا ما حضر وسُئل لا يجيب أو يلتف على الجواب ولا يكون صريحاً وصادقاً، لا مع نفسه ولا مع من حوله، ولا مع المسؤولية الكبرى أمام الله سبحانه وتعالى وهو القائل: ﴿وَقِفُوْهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤوْلُوْنَ﴾([3]). فما يصدر اليوم قد لا يترتب عليه الأثر الكبير، ولكن ما يترتب عليه من أثر لا بد وأن يأتي.

لقد كانت النوازل السماوية في الأمم السابقة دَفعية وليست تدريجية، فتجد أن الله تعالى يجعل عاليها سافلها في لحظة، ويمطرهم بحجارة من سجيل، ومنهم من يخسف به الأرض، ومنهم من يخسف به وبداره الأرض، أما اليوم في أمة النبي الأعظم (ص) فترى أن العقاب تدريجي نسبي، حتى هذه الكوارث التي تحصل اليوم وتجتاح شرق الأرض وغربها وتخلف الدمار الواسع هي أمور نسبية إذا ما قيست بما حصل في الأمم السابقة. فاليوم يعيش على وجه كوكب الأرض حوالي ستة مليارات نسمة أو أكثر، وهو أكبر بكثير مما كان.

إن رجل الدين لا بد أن يتحمل المسؤولية إذا ما رجع بعد طلب العلم إلى مجتمعه، وأن يتحرك على أساس ذلك، بأن ما بين يديه من علم أو اجتهاد أو تأليف أو غيره هو وسيلة وليس غاية.

الوكالة الشرعية في ثلاث مراحل تاريخية:

والبحث الذي تعرضنا له سابقاً ولا زلنا في حدوده، وهو الوكالة الشرعية، ليس من الأمور المستحدثة، إلا إذا ما قيست بزمن النص، فهي اليوم واقع يتحرك وسط المجتمعات.

ويمكن لنا أن نلقي الضوء على الوكالة في مرحلتين تاريخيتين، الأولى ما قبل الدولة الصفوية، والأخرى ما بعد قيامها، باعتبار أن دولة الديالمة وإن كانت شيعية، إلا أنها ليست إمامية التوجه بالمطلق، بل هنالك خلاف طويل في كونهم من الإمامية أو الزيدية أو الإسماعيلية الباطنية، وهي مسارات في البحث التاريخي لكل من الباحثين فيها دليله، ولا يعنينا ذلك كثيراً. أما الدولة الصفوية فهي الدولة الشيعية الإمامية بعد دولة الإمام علي (ع). 

وهذه الدولة كانت نقلة كبيرة، لأنها أحدثت فقه الدولة في وسط البحوث العلمية الحوزوية، وهذا ما سأضع اليد عليه، ولكن قبل ذلك دعونا نقرأ المشهد قبل قيامها، وكيف كان الحال في مشروع الوكالة، الذي يشغل اليوم الكثير من المساحات والمجالس والمنتديات، حتى يخبط فيه الكثير من الكبار والصغار خبط عشواء.

لقد كانت الوكالة قبل الدولة الصفوية، وهي دولة ذات توجه إمامي، وقد بنى الصفويون دولتهم على أساس شعار الرضا من آل محمد، بغض النظر عن سيرتهم وأخطائهم واعتقاداتهم، وما وقع فيما بين سلاطينهم وملوكهم. فهذه الدولة كانت مشبعة بعلامات الاستفهام سواء في ملفها الشخصي أي العائلة المعروفة، أم كدولة منفتحة على مجتمع تريد أن تؤسس فيه واقعاً مدنياً معيناً. وهذا الحديث مزعج لبعض النفسيات الضيقة التي لا تقرأ أكثر من مكون المفردة (الصفوية).

لقد كانت الوكالة في الدولة الصفوية تعيش غياب المركزية وتعدد القرار الديني، فقد كان العلماء في كل مدينة لا يخضع أحدهم للآخر، وكل منطقة فيها عالم من العلماء، فالنجف لا تخضع لكربلاء، وكربلاء لا تخضع لقم، والخليج لا يخضع للنجف، ومشهد لا تخضع لكاشان، وكاشان لا تخضع لجبل عامل، وهكذا. فكانت الوكالة قائمة على أساس وجود عالم مجتهد ظاهره الصلاح، ترجع إليه الناس، فيتحرك بحدود إقليمه أو القطر الذي هو فيه، وأحياناً في قريته، وهذا أشبه من حيث الانتشار الجغرافي بما كان عليه الأنبياء، فليس جميع الأنبياء كالنبي محمد (ص) في عظمته وعالميته. نعم، هنالك بعض العلماء له انتشار أوسع من غيره، وبعضهم شغل مساحات أكبر بكثير مما كان يشغله بعض الأنبياء، ولكن في الأعم الأغلب هو ما قلنا.

فالوكالة في تلك الفترة لم تكن بالتفصيل الذي عليه اليوم، بحيث يكون هنالك وكيل لكل مرجع، بل كان هنالك مرجع ترجع إليه الناس مباشرة، أو وكلاء بشكل محدود. وكان المرجع عبارة عن مفت وراوٍ للحديث، مع حسن الظاهر، أما ما نعيشه اليوم من مرجعيات فكان نتيجة لتطور الفكر الأصولي المستنتج من خلال سير وتنقلات وتقلبات الطائفة عبر المراحل التي جاءت ترتبياً.

1 ـ مرحلة ما قبل الصفويين:

أما قبل الدولة الصفوية، فلنعد إلى زمن الشهيد الأول رحمه الله، الذي قتل ظلماً على يد العثمانيين. وقد كانت هذه الدولة من أقسى الدول وأبشعها في ملفاتها الدموية، وأكثرها ظلماً، وقد قتلت الملايين من البشر في سبيل فرض السلطة، من الخليج، إلى شمال أفريقيا، امتداداً إلى البلقان في شرق أوربا، كل ذلك بالحديد والنار.

وقد كان في جبل عامل حوزة امتازت بكيفيتها لا بكمّها، وقد بقيت بصمتها حاضرة إلى يومنا هذا في مسارات الاستنباط الفقهي، فلا يستطيع الفقيه صاحب الدائرة الواسعة والنظر البعيد أن يستغني عما أصّله أولئك، كالشهيد الأول والشهيد الثاني وابن الشهيد وصاحب المحاسن وصاحب المقاصد والشيخ البهائي وأبوه حسين عبد الصمد والحر العاملي وغيرهم.

وفي جبل عامل آلت أمور الفتيا في وسط الأمة للشهيد الأول، ولم تكن وسائط النقل والتواصل بين منطقته والمركز (جباع) كما هي عليه اليوم، من طرق معبدة ومركبات مريحة ووسائل اتصال وتخاطب وما إلى ذلك، فاعتمد تشكيل منظومة الوكلاء في المناطق التي تخضع لزعامته الدينية، فارتأى أن يضع نظاماً للوكالة.

وقد توفي هذا الشهيد رحمه الله في القرن الثامن، ونحن اليوم في القرن الخامس عشر، لكن نظام الوكالة في أوساطنا الحوزوية لا يرقى إلى ذلك المستوى من التنظير والدقة، فأي انتكاسة نعيشها؟

لقد حاول هذا الرجل العظيم تنظيم الوكالة من خلال توزيع الأدوار، كلٌّ بحسبه، بإمكانياته والمقدرات من حوله، وغرس في كل مكان ما يناسبه من الرؤوس العلمية والفكرية والاجتماعية المنتجة، وشخّص كل حالة في الخارج، وعيّن بعض رجال الدين ممن لديهم القابلية على التناسب مع الجو من حولهم، ووضعهم نواباً ووكلاء عنه.

ومن الجميل في تلك الأيام أنه أعطى الوكالة المطلقة، ولم يجعل أولئك الوكلاء مقيدين بالمركز في جباع، إنما جعل الوكالة مفتوحة بيد الوكيل، فالوكيل يتكلم باسم المرجع، ويعطي إجازة عن المرجع، وهكذا. فهو أشبه بمرجع بديل عن المرجع الذي أخذ عنه الوكالة، أو أنه نافذة مطلة على واقع المرجع.

ولا شك أن المكلف سيجد نفسه في موقف ووضع ميسر، فهو يصلي خلف إمام جماعة له مطلق الصلاحيات في البت في أمور أموال اليتامى، والوقف، والأثلاث، والأخماس، وغيرها، وتنتهي المسألة بشكل يسير.

ويذكر الدكتور علي الوردي رحمه الله في اللمحات، في المجلد الأول، والجابري في فكره يقول: إن الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي في أثناء مرجعيته للإمامية شرع في تعيين وكلاء عنه، في المدن والقصبات، بدءاً من طرابلس إلى آخر كاتيا، أي في حدود ما حوته مرجعيته.

وقبل هذا ليس لدينا ما يؤكد وجود منظومة وكالة تدار من قبل مرجعيات، إنما هو عمل عشوائي وأوراق مبعثرة، وضياع للكثير من الأموال، وقد رأينا أن بعض الفقهاء مثلاً كان يفتي بدفن المال، أو أن يدخره في يده أمانة حتى يخرج المهدي (عج). ومنهم من كان يفتي بإباحته للشيعة، وهذا المسار له أدلته أيضاً، وعليه جمع من العلماء.

ومن الطريف أن بعضهم علّق على هذا الرأي ذات يوم، فأفاد بأن الذين أفتوا بهذا الرأي الأخير هم من المتأخرين، وهم من الخطباء لا من العلماء. أقول: عليه أن يراجع موروثه، وأن يعبئ له زاداً ليعرف ما فيه، ولن أكون له حمالة حطب.

2 ـ الوكالة في عهد الدولة الصفوية:

لما قامت الدولة الصفوية لم تستطع بسط النفوذ حتى أشركت المؤسسة الدينية في منظومتها. وتوظيف الملف الديني مما تعمد إليه الكثير من الدول التي سادت وبادت، أو التي لا زالت. فالدين لدى هذه الدول يمثل ركناً أساسياً في نظامها، بغض النظر عن أن تكون محسوبة على المذهب الشيعي أو غيره.

لقد اعتمدت الدولة الصفوية نظام بيت المال، وهي أموال دولة. ومن هنا أثيرت مسألة علاقة المؤسسة الدينية مالياً بالدولة، فهنالك أخماس وحقوق شرعية وأمور حسبية، وهي خزينة مالية أيضاً، ولا بد من تحديد وجهتها، فهل تخضع أيضاً لنظام بيت المال في الدولة؟ فيكون السلطان متحكماً بخزينة الدولة الرسمية المدنية، وخزينة المال في المؤسسة الدينية؟ أو العكس؟ وهل للفقيه الولاية على الأمور التي تحت يده بنظام الحسبة أو الولاية، وتمتد يده لتشمل أموال الدولة لتكون له اليد عليها؟ 

من هنا دخلت الحوزة العلمية آنذاك في بحوث طويلة عريضة، إلى درجة أن سفّه بعضهم البعض الآخر. فالتسفيه والتسقيط والتضليل ليس وليد اليوم. بل ظهرت الوشاية للحاكم الصفوي في سبيل التخلص من بعض العمائم، فيتم التخلص من الفقيه بفتوى الفقيه. وبقي ذلك الصراع في مسألة حاكمية الفقيه على أموال الدولة قائماً إلى يومنا هذا، ولكن مشكلتنا في اعتقادنا بعدم وجود المشكلة والخلل والنقص، لذلك نتوارث المشاكل قرناً بعد قرن.

وقد استوجب هذا الأمر إيقاد أذهان الفقهاء، وحصل حراك علمي طويل عريض، وكان ذلك الحراك تحت نظر الدولة الصفوية ورقابتها ومتابعتها بكل دقة، فأي منتج حوزوي كان متابعاً منها.

ومما لا شك فيه أن الحراك العلمي نما وتطور واتسع وارتقى، لكن في حدود الممكن المتاح، فكانت هناك حركة التأصيل لقواعد يبنى عليها الكثير من الفروع التي ولدتها حركة وجود دولة لأتباع هذه الطائفة.

ومما يشار إليه أن حركة التوجه الحر في التفكير أيام الدولة الصفوية كان مغيباً، والذي لعب الدور في تغييبه هو الحاكم الصفوي، لذلك غمرت الساحة بسيل عارم من الروايات التي لا يعرف لها منشأ ومصدر! وخلطت الأوراق بشكل كبير، فجعلت الشعائر الحسينية مثلاً واحدة من المطايا التي امتطاها أصحاب الرغبات والنزوات الخاصة، من المقربين للحاكم الصفوي. لذلك تجد أن أي فكر حر يحارب اليوم له مناشئه، وكانت له جذور فيما مضى وكان يحارب منذ قرون، فالكثير من الجهات لا تريد سوى الفكر المتحجر المتخلف الذي يسرق مقدرات الناس المالية والفكرية والاجتماعية وغيرها. أما الفكر الحر الذي ينطلق بهم، ويفك القيود عنهم، ويرفع الإصر، ويحرر عقولهم، ويضع يده على أموالهم، ويرسل العنان لأفكارهم كي يفكروا، ويفتح الأبواب كي يحلقوا في المسارات من حولهم، فلا يتفاعلون معه ولا يريدوه. إنما يريدون تجهيل المجتمع وتخديره، ومصادرة حيثيته.

وحاصل الأمر، أن الحوزة العلمية آنئذٍ كان فيها تياران، تيار فكري متحرر تأصيلي، وآخر على العكس من ذلك. أضف إلى ذلك هنالك تيار ثالث هو التوجه الرسمي في الدولة الصفوية، فمن أراد أن يكون رقماً مهماً أو واجهة، ما عليه إلا أن يرتدي اللباس الديني، ويتقرب من الحاكم الصفوي، عندها يكون المبرَّز المقدم الذي تذلل له الصعاب ويمد له البساط، لتطبع كتبه وتروج أفكاره لأنها لا تتعارض مع سلط الحاكم. ثم آلت الأمور بعد ذلك إلى انتهاء الدولة وانتهاء علمائها، وحل محلهم جيل آخر، وهذا أمر متوقع، لأنك مهما حاولت أن توقف حركة الفكر لن تستطيع، فالفكر يتحرك، والفكر يتطور منذ أن وجد آدم إلى يومنا هذا، والقادم أفضل.

لذا أقول: إن أبناءنا اليوم لديهم الكثير الكثير من القدرة والإمكانيات مما لم يكن بين أيدينا، فهم في مربع أفضل وأكثر تقدماً، ونحن نغبطهم على ذلك ونتمنى أن ننتفع بجهودهم وأن يسهل الله أمورهم في تطوير بنائهم الذاتي علماً وفكراً وثقافة وأدباً وفناً، وهذه مسؤوليتكم أيها الشباب.

3 ـ ما بعد الدولة الصفوية:  

بعد ذهاب الدولة الصفوية حدث الخمول والركود والتراجع، واستمر في عهد القاجاريين والفهلويين. أما في عصرنا الراهن فتعددت المرجعيات الكبرى، وتوزعت بين الثابت والمتحرك في المسارات الفقهية، فهنالك من يتمتع بمستوى كبير من العطاء الفقهي، لكنه جامد، وهنالك بالمقابل فقيه يقظ متحرك صاحب فطنة لما يجري، ومشاركة وشعور بالمسؤولية.

فنحن اليوم أمام مرجعيات كثيرة لا مرجعية واحدة، وسوف يستمر هذا الحال حتى تقر الأعين بالنظر للخلف الباقي من آل محمد، ورحم الله من مضى من أولئك المراجع العلماء، وحفظ الله من بقي، وأيد الله من يأتي.

نظام المرجعية والتوكيل، رؤية جديدة:

وهذا التعدد والتقلب بين الثبات والحراك يترتب عليه الكثير من نظم الأوراق، ولا بد أن نلتفت إليه، لا أن نخافه ونخشاه، فإن خفت من شيء فقع فيه. ولا بد أن نتوقف عند النقاط التالية:

1 ـ مع تعدد هذه المرجعيات المبرئة ـ إن شاء الله ـ لذمم المكلفين، لأنها تؤمّن الفتوى الشرعية لهم على كثرتهم وتنوعهم، تكون المؤسسة المالية في الوسط الحوزوي بحاجة إلى إعادة النظر. فقد كانت الأمور بالأمس تمشي بيسر وسهولة، أما اليوم فلا، فهذا الحال لا يعبد الطرق، ولا يوفر الماء الصالح للشرب، ولا يفتح المستشفيات ولا مبرات الأيتام، فنحن بحاجة إلى هذه الأمور في وسط الأمة، بأن تشرب ماء نقياً، لا أن تموت من الظمأ كما يحصل في البصرة مثلاً، وإذا استمر الحال فسوف تكون الكارثة أعظم.

إن العمل الأساس للمؤسسة المقترحة بالدرجة الأولى ينبغي أن يكون المراقبة، صحيح أن المرجع يراقب الوضع ويتابع، لكنه لا يستطيع بمفرده أن يفعل كل شيء، فالمرجع اليوم ليس شخصاً بمفرده، إنما هو مؤسسة بحد ذاته، بدليل تعدد الوكلاء، وتعدد مقرات الفتيا، فهناك مكاتب متعددة للمرجع الواحد، منتشرة في المدن الكبيرة والصغيرة.

ومن دعائم مشروع هذه المؤسسة المقترحة، إنشاء لجنة المحاسبة، فلا بد من متابعة الأموال التي تدخل والأموال التي تنفق، وكيفية صرفها وإنفاقها، وكل ذلك تحت نظر هيئة محاسبة ورقابة ومتابعة. وهذا أمر ضروري جداً.

وعلى أقل تقدير إنشاء هيئة نزاهة، شرط أن تحرز نزاهتها أولاً، وأن تكون بالفعل متصفة بصفة النزاهة. وتكون وظيفتها وضع النقاط على الحروف بعد المتابعة والكشف، وتقديم توصياتها للمرجع.

قد يقول قائل: إن هؤلاء علماء أجلاء ولا يمكن أن نسيء الظن بالعالم، ولا أن نحاسبه لأنه رمز النزاهة. أقول: جواب ذلك في كلام للإمام الخميني رحمه الله، ورد في صحيفة النور، يقول فيه: إذا رأيتم معمماً سرقكم، فاعلموا أنه سرقنا قبلكم، فهو لم يسرق مالكم، إلا بعد أن سرق من الحوزة عمامتها.

هذا هو كلام الإمام الخميني رحمه الله تعالى، ومن كان له رد فليرد عليه لا عليّ.

والحديث طويل ذو شجون، له بداية، ولا نهاية له، وفيه غصة ومرارة وحرقة، ولكن ما دام ذلك في سبيل النهوض بواقع المجتمع فهو أحلى من الشهد. فالمجتمع اليوم يتحرك وينبذ التخلف، واليوم أصبحت الأمور واضحة، فهنالك تراجع بيّن لمن يمكن تسميتهم بالتقليديين، وتقدم لأصحاب التنوير في وسط الساحة، ونعني بهم من كان على خطى أهل البيت (ع).

نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.