نص خطبة :النهج العلوي ودوره في إصلاح واقع الأمة قديماً وحديثاً

نص خطبة :النهج العلوي ودوره في إصلاح واقع الأمة قديماً وحديثاً

عدد الزوار: 555

2013-10-13

 

  • في ذكرى النبأ العظيم:

 

مر بنا في أيام الأسبوع المنصرم ذكرى شهادة مولى المتقين علي بن أبي طالب (ع) الذي عاش مظلوماً، ومات مظلوماً، ولا زال يشكو ظلامته.

وللإمام علي (ع) خصوصية خاصة، أشارت إليها جميع الكتب السماوية، كما أن القرآن الكريم أعطى مساحة كبيرة من كينونته لعلي (ع) قسمٌ منها في فضائله ومقاماته، حتى بلغ إلى وصفه بالنبأ العظيم، حيث قال: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُوْنَ ~ عَنِ النَّبَأ العَظِيْمِ([3]). وفي ذلك إشارة تدلُّ على ما له (ع) من المقام والرتبة عند الله سبحانه وتعالى، مما يستوجب الدخول في دائرة الاستفهام المفتوح الذي لا نهاية له. فمن حقنا أن نسأل: من أين علي؟ وكيف؟ وإلى أين؟

كما أفرغ القرآن الكريم مساحة كافية لمن يقف على النقيض من علي (ع) والآيات في هذا الجانب من الكثرة بمكان، ولكن مع شديد الأسف، كأن القرآن لم يطرق أسماع الكثير من المسلمين، ولو طرقها فكأن عليها ما يمنع أن تنفتح على روح النص وجوهره، وعلى فرض أن هذا حصل، فإن بينهم وبين ترتيب الآثار بُعد المشرقين، لأن الطريق الموصل إلى هذا المصفى من العسل لا يمكن أن يُهتدى إليه ما لم يمسك الإنسان بالأسباب الموصلة إليه، ولا سبب ولا سبيل ولا طريق إلا محمد وآل محمد (ص).

يقول تعالى في سورة الزمر: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ ~ الَّذِيْنَ يَسْتَمِعُوْنَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُوْنَ أَحْسَنَهُ([4]). فهنالكم قول قرآني محكم هو أحسن القول، ولهذا رديف وبيان، هو أيضاً من أحسن القول، وهو كلام النبي (ص) والمعصومين من آله.

وقد يقول قائل: لم لا يلتفت المرء لذلك؟ فيجيبنا الإمام الغزالي، وهو أحد أركان مؤسسي العلوم في الحاضرة الإسلامية، من أتباع المدرسة الأخرى، فيقول وهو يصف من سمع ولم يعِ: عادة ضعاف العقول يعرفون الحق بالرجال، لا الرجال بالحق. وهذا روح وجوهر كلام علي (ع) حيث يقول: «الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله»([5]).

إنني أكرر دائماً: إننا لا نستجدي عظمة هذا البيت من أحد، إلا أننا من باب إبراز ما لهؤلاء من فرض الواقع والمصداقية على المخالف قبل المؤالف، وهذا دليل عظمة واستثناء منحصر بمحمد وآل محمد (ص)، لا أن ذلك من باب الرغبة والتشهي في ذكر بعض الأسماء والذوات، بل إنني أستغرب كثيراً ممن يطرق مخيلته مثل هذا الاستنتاج.

كما أن هنالك أمراً آخر، وهو أن كلمتي ربما تصل فتكون حجة على من سمع من أتباع هؤلاء الأعلام عند قومهم، وإلا فإن العَلَم عند غيرنا مهما كبر وعظم شأنه عندهم فإنه لا يرى العظمة متجسدة إلا في واحد من هؤلاء المنظومة النورانية العلوية المحمدية.      

ويضيف الغزالي قائلاً: والعاقل يقتدي بسيد العقلاء عليّ حيث يقول: لا تعرف الحقَّ بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله.          نحن اليوم أمام هذه المساحات المفتوحة والفضاء الذي لا حدّ له، والوسيلة الناقلة التي لا يستطيع أن يقف أمامها دول، ناهيك عن أفراد، بمعنى أنك لا تستطيع أن تكمم أفواهاً، أو تلغي أو تصادر أو تضحك على العقول أكثر مما كان، بصفة عامة أو بصفة خاصة، أي في وسطنا الخاص أو المحيط من حولنا، فالدول عاجزة عن تكميم الأفواه، ناهيك عن الأفراد الذين يحاولون أن يكمموا الأفوه، فقد انتهى هذا الدور، وأكل عليه الدهر وشرب.

فالدول التي ترغب في تكميم الأفواه عليها أن تنهج منهجاً منطقياً في التعامل مع الواقع، وذلك برفع السبب المؤدي للنتائج. وكذلك في مستوى الأفراد.

فالحق ظاهر أبلج كالشمس في رابعة النهار، فإن طلعت حلّ النهار وطويت صفحة الليل، ولا يمكن لأحدٍ عندئذٍ أن يدَّعي غير حلول النهار. ولا أوضحَ ولا أبْيَنَ ولا أجلى من الحق المتجلي في علي (ع).

 

  • مودة العترة:

 

إن أهل البيت (ع) يمثلون الامتداد الطبيعي لرسول الله (ص) ومن أراد الرسول فعليه بعلي (ع) لأنه القائل: «أنا مدينة العلم وعلي بابها»([6])، ومن أراد الرسالة فليطرق بابها من خلال الولاية، ومن أراد الإسلام فعليه أن ينتهج طريق الإيمان، ولا إيمان إلا بعلي (ع).

والكلام الذي أوجزته في دقيقة أو أقل إنما هو خلاصة وعصارة كمٍّ هائل من الروايات التي تصب في هذا الجانب.

ثم يقول (ص): «وأحبُّوا أهل بيتي لحبي». إلا أننا لا نجد حتى هذا القدر من الوصية، وهو الحب والميل القلبي. لقد كان ما كان، وحصل ما حصل، إذ ذهب النبي (ص) وحصل بعده ما حصل من اتجاهات وتشتت، ولم تقبل الأمة وصيته في بُعد الخلافة، وتسيير شؤون الأمة، ولكن هل عملت الأمة بأضعف الإيمان من الوصية وهو حب أهل بيته لحبه؟ يقول تعالى: ﴿قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرَاً إِلاّ المَوَدَّةَ فِيْ الْقُرْبَى﴾([7]).

كل من أراد أن يقرأ ويبحث ويتتبع فعليه أن يبدأ من موقع الإنصاف مع النفس، ثم يندفع لمحاكمة النصوص، لأنه ما لم يتجرد ويتحرك على أساس من قاعدة الإنصاف، فإنه لا يهتدي إلى نتيجة، ولا يصل إلى مطلوب، وهذا بقدر ما يفترض أن يكون فيما بيننا، لا بد أن يكون مع الآخرين من حولنا، فمن لا ينصف غيره فلا ينتظر الإنصاف منه، وهذا أمر طبيعي.

إن أهل البيت (ع) هم الامتداد الطبيعي للنبي (ص) وليس هذا دعوى بلا دليل، إنما هو واقع، عليه شاهد وبرهان من كتاب الله وسنة الحبيب المصطفى محمد (ص).

ففي صحيح البخاري عن النبي (ص) أنه قال لعلي (ع): «أنتَ مِنّي وأنا منك»([8]). وهذا الحديث ليس مما انفرد بروايته كتب الشيعة، إنما ورد في كتاب صحيح البخاري، الذي بلغ عندهم من المنزلة أن صاحب السفينة يحمله على متنها كي لا تغرق!.

وفيه أيضاً عن النبي (ص) في فاطمة الزهراء (ع): «إنما هي بضعة مني، يريبني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها»([9]).

فلو أخذنا بمنطق النبي (ص) بحق علي (ع) أنه منه، وبحق الزهراء (ع) أنها بضعة منه، فإن نور علي وفاطمة تمازجا، وانحلت عنهما أنوار، وفي كل إشراقة نور من أنوارهم يضاء الوجود بملكوته أجمع.

هذا عن السنة، وقد صحح تلك الروايات عندهم أكثر المحدثين تشدداً، وهو العلامة الألباني من المعاصرين، حيث خرجت هذه الروايات من دائرة النقد صحيحة سليمة، إلا أننا حتى لو أوردناها في مقام الاحتجاج لربما قيل عنها إنها ضعيفة، لا لضعف رجال السند، إنما لأنها تشير إلى مكمن عظمة في محمد وآل محمد (ص).

فأنت ترى مثلاً أن أبا طالب جعلوه في ضحضاح من نار! ولا ذنب للرجل ـ وقد خدم النبي (ص) وآواه ونصره ـ سوى أنه والد علي بن أبي طالب (ع).

أما القرآن الكريم، ففي ثلاث آيات منه الكفاية دليلاً على ما ندعي، أحدها آية المباهلة، وهي الحادية والستون من آل عمران، والثانية آية التطهير، وهي الثالثة والثلاثون من الأحزاب، وآية المودة، وهي الثالثة والعشرون من الشورى.

أقول: اقرأوا هذه الآيات بتجرد عن كونكم أتباعاً لأهل البيت (ع) فلو وجدتم من يمكن أن يشغل أذهانكم في تلك اللحظة، فإن الحق مع غيرهم. وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض، فإنهما لم تقوما إلا بمحمد وآل محمد (ص) ولأجل محمد وآل محمد (ص) شرفاً وتكريماً لهم.

وقد أبحر علماء العامة في مدرسة الحديث، في استعراض الأحاديث الواردة في حقهم (ع) ومن ذلك ما قام به صاحب المستدرك على الصحيحين، صحيح البخاري وصحيح مسلم.

فقد روى صاحب المستدرك حديث السفينة: «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلَّف عنها غرق»([10]). ولنسأل صاحب المستدرك: لِمَ لَمْ تركب السفينة؟ إنها (يَخت) عالمي، لا ملكي ولا محلي، إنما هو (يخت) رباني، من صنع الله، يقوده جبريل، ويدفعه ميكائيل، ويديره محمد وآل محمد (ص).

 

  • مخالفة الحق: 

 

قد يسأل سائل: وهل يمكن أن يرى أحد الحق، ثم لا يأخذ به؟ الجواب: نعم، إنه أمر وارد، وقد حصل مع علي (ع) كثيراً، فهناك من يعرف نهج علي (ع) ويُفترض أن يتعامل بتربيته وسلوكه وعلى أساس هديه، إلا أنه خالف ما يرى وما يعتقد. فقد كان (ع) بعد أن ضُرب، يشرب اللبن ويبقي منه بقية ثم يقول: احملوه إلى أسيركم، وكان يقول للحسن (ع): بحقي عليك يا بني إلا ما طيبتم مطعمه ومشربه، وارفقوا به إلى حين موتي، تطعمه مما تأكل وتسقيه مما تشرب، حتى تكون أكرم منه([11]). لكننا نرى أنه لما جيء به ليقتل، ولامه الحسنان على فعلته قال لهما: اصنعا ما شئتما أن تصنعا، ولا تعنفا من استزله الشيطان فصده عن السبيل، ولقد زجرت نفسي فلم تنزجر، ونهيتها فلم تنته، فدعها تذوق وبال أمرها ولها عذاب شديد([12]).

فقد كان الملعون مرآة لواقع مرّ، ونتاجاً لربع قرن من الزمن، فلم تكن عمليته الإرهابية وليدة ساعتها، إنما احتاج في التخطيط لها ربع قرن من الزمن، لتؤتي ثمارها بعد حين.

والنتيجة أنه كان يعرف قدر السفينة فلم يركبها.

ويذكر الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث الثقلين بلفظ: «يا أيُّها الناس، إنّي قد تركتُ فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا،كتاب الله وعترتي أهل بيتي»([13]). فهو يذكر الحديث ويصححه، ويجزم بصحته، فهل أخذ بما فيها وتمسك فيه؟

أركان العظمة في العترة الطاهرة:

إن مواطن الاقتدار عند أهل البيت (ع) تتمثل بالكثير من الجوانب، منها:

1 ـ المعرفة الحقيقية بالله تعالى، ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف، ولا أعرف لله سبحانه وتعالى، ولا أخوف منه منهم (ع).

2 ـ مكارم الأخلاق: فهم المثل الأعلى في ذلك، ونحن اليوم بمسيس الحاجة لذلك. لا أن نختلف مع بعضنا في كلمة أو موقف أو بيع وشراء فنطوي في من نختلف معه صفحة الإيمان والإسلام، ونفتح أبواب الآخرة، وكأن جبريل قد نزل في بيت فلان أو فلان فأعطاه مفاتيح الجنة والنار، وخوله أن يُدخل فيهما من يشاء ويخرج من يشاء.

3 ـ مقاماتهم العالية عند الله تعالى، وهي مقامات لا يعرفها إلا الله سبحانه وتعالى والنبي محمد (ص).

4 ـ المظلومية الدائمة، فلا زالت الظلامة تطارد هذا البيت منذ ذلك اليوم وحتى يومنا هذا، وينصبُّ عليهم الظلم من كل حدبٍ وصوب، ففي حياتهم تعرضوا للقتل، والسجن، والتشريد، والتضييق، والمحاربة، وقطع الأرزاق، وها نحن نجد آثارهم أو آثار ذريتهم تنتشر في بعض البلدان، التي كانت تمثل ملاذاً وحضناً دافئاً، إلا أنهم حتى في تلك البقاع لم يسلموا من ظلم أعدائهم.

انظروا إلى قبر يحيى بن زيد بن علي بن الحسين (ع)، وهو أحد الرجال الأبطال، فقد ذهب إلى سرخس قريباً من الحدود الأفغانية، في بلدة تدعى (ميامي) بينها وبين مشهد حوالي 90 كم، فأدركوه هناك وقتلوه وصلبوه، فكتب الخليفة للوالي أن أشخص إليّ رأس يحيى بن زيد، فحملوا رأسه، ولما بلغوا (كركان) حصلت هنالك معركة، فأُخذ الرأس ودُفن، فأرسل الخليفة إليهم بجيش فأخذوا الرأس منهم.

وأبرز النماذج لتلك الظلامات ظلامة علي (ع) ذلك لأنه لا يفترض أن يُظلم، حيث إن النبي (ص) ما انفكّ يؤكد منزلته ومقامه لمدة ثلاث وعشرين سنة. وكذلك القرآن الكريم في مواطن كثيرة.

 في الختام أقول: إن هذه هي الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك، وقد استشعرتُ كما استشعر الجميع، أن شهر رمضان في هذه السنة كان استثنائياً، حيث توجُّه الشباب المنقطع النظير نحو العبادة وإحياء المراسم، وهو ما لم نلمسه في السنوات الماضية بقدر ما لمسناه في هذه السنة، وهذه نعمة كبيرة لا بد أن نشكر الله تعالى عليها، وأن يتوجه الشباب بالشكر لله تعالى أولاً، أن وفقهم لهذا الأمر، ثم للوالدين لأنهما سبب في تحصيل هذا المناخ، ثم للحالة الإيمانية التي باتت تسود الوضع من خلال توجيه الأعلام المأمونين على الشريعة، وهذه نعمة كبيرة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن تستمر نحو الأفضل.

والأمر الآخر أن العيد قريب، فعلينا أن نرتب أوضاعنا في قراءة ما مضى، لنستعد في العام القادم بما هو أفضل، وأسأله تعالى أن يعيده علينا وعليكم وجميع المسلمين في كل مكان، وأن يجعل وضعهم أفضل مما هم عليه اليوم من الشتات والضياع والقتل، وأن يجعل بلدان المسمين جميعها آمنة مطمئنة مستقرة بفضل هذا الشهر الفضيل.

وهناك همسة خفيفة أود أن أؤكدها في هذا المقام، فربما حدثت مطارحات هنا أو هناك، في قناةٍ هنا أو هناك، من متحدث هنا أو هناك، فعلينا أن نلتزم أمراً واحداً لا غير، وهو أن نتحرك على أساس من (الوازع الديني) وليس الوازع الشخصي، ولا تصفية الحسابات، ولا التحيز لجهة، سواء كانت حزبية أم تنظيمية أم مرجعية أم قبلية أم لأجل شيخ أو سيد، فربما سار معك هؤلاء في الدنيا إلى نقطة ما في الطريق، ثم فارقوك وابتعدوا عنك.

فالوازع الديني يجب أن يحكم دخولنا في المناقشة أو الرد أو القبول، من أجل الوصول للحقيقة كما هي، لا لتدمير الأشخاص، فليس من صالح أحد أن تدمر الشخصيات، لا سيما العملاقة في علمها والمتقدمة في طرحها والواعية لما يجري من حولها.

انظروا إلى مراجعنا الذين يعيشون الحكمة والرشد والوعي، كيف يتعاملون مع الأحداث، فلا بد أن نتعامل معها وفق هذا المنهج.

كما أنني باسم كادر الجامع من إدارة وعاملين ومنظمين، ممن قاموا بالخدمة وتقديم المساعدة، وهم كثر في هذه السنة، بدءاً من أول الشهر، إلى مأدبة الإمام الحسن (ع) إلى ليالي الإحياء والشهادة، ألتمس من الجميع أن يعفوا عن أي خلل حصل، أو أي مفردة ربما لم توظف في موقعها الصحيح، وأعتذر عن الجميع، وعني شخصياً، فربما صدرت مني شدة في بعض الأحيان، لكنني أقسم ثلاثاً بالله ـ وأنا صائم ـ أن منشأ ذلك الحرص على قدسية هذا الجامع، والحفاظ على محبة الجميع فيه، فهو منكم وإليكم، ولن يتجاوز حدود أن يكون لكم، وأسأل الله تعالى أن يعيننا أن نكون في مستوى الخدمة، وأن يحفظ شيعة أمير المؤمنين، وأن يفرج عن إخواننا الأسرى في أي مكان كانوا، وأن يحقن دماء المسلمين في أي مكان.

أسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.