نص خطبة: المنتظرون في زمن غيبة الإمام عجل الله فرجه

نص خطبة: المنتظرون في زمن غيبة الإمام عجل الله فرجه

عدد الزوار: 2681

2015-06-15

شرائط الانتظار الإيجابي:

في الحديث الشريف عن جابر بن عبد الله الأنصاري ـ وهو أحد العشرة الذين قال فيهم النبي (ص): وأنت منا ـ عن النبي الأعظم محمد (ص) أنه قال في شأن الخلف الباقي من آل محمد (ع): «يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلا من امتحن الله قلبه للإيمان»([2]).

في زمن الغيبة والانتظار تفرض الكثير من الأمور نفسها على واقع الإنسان والأمة، منها ما يدخل في دور الإعداد والاستعداد، ومنها ما يدخل في دور الفتنة والامتحان.

الانتظار يتطلب منا مجموعة من الأمور التي لا بد من الوقوف عليها وانتزاعها من مصادرها، فكلنا ينتظر المهدي (عج) لكن الانتظار الإيجابي يتطلب منا الكثير، وعلينا أن نجند أنفسنا للأخذ بأسباب ذلك، والوقوف على مطالبه، كي نكون من المنتظرين في دائرة الإيجاب لا السلب، ومنها:

1 ـ تحصيل العلوم اللاهوتية والإنسانية: بدرجة تتناغم وحالة الانتظار، فالإيمان بالأمور المشهودة خارجاً له قيمته وأهميته، لكن الرجوع إلى عالم الغيب وما وراء الطبيعة يقع أيضاً في دائرة الأهمية التي يفترض أن تكون متقدمةً على ما هو محسوس وملموس في عالم الوجود خارجاً، لأننا مهما بلغنا من العلم فيما يتعلق بالذات المطلقة فنحن دون الوصول إلى حقيقة المعرفة.

ثم لننتقل إلى مربع أقرب إلينا، وهو معرفة الله تعالى ـ وإن كان الله سبحانه وتعالى أقرب إلينا مما يجري في عروقنا، لكن المعرفة مراتب نسبية ـ فالفيلسوف العارف الذي نهل من معارفها الصحيحة له نظرته في القرب من الله تعالى والتعاطي مع عوالم الغيب، أما من لا يحظون بهذا المستوى من العلم والمعرفة، فإنهم يبقون في حدود ما توصلوا إليه من نتائج عبر طرق أفضل ما يقال فيها: إنها مقدمات تحقق جزءاً من نسبية ما يمكن أن يوصل من خلاله إلى نتيجة مرضية، هذا إذا لم تتدخل العوامل الدخيلة فتحرف المسار عما يراد أن يوصل من خلاله إليه.

إن المعرفة اللاهوتية في الحوزات العلمية لها قيمتها وأثرها، ومع شديد الأسف غُيبت الفلسفة لفترة طويلة في أهم معاقل الحوزات العلمية التي عرفتها الطائفة، وأعني بها النجف الأشرف، فتلك الحوزة على ما هي عليه من قوة واقتدار في العلوم الثلاثة المهمة (الفقه والأصول والرجال) في استنباط الحكم الشرعي، إلا أنها لم تثبّت قدماً راسخة تجاري بها الحاضرة الكبرى في قم المقدسة في جانبها الفلسفي، لذلك كانت الانطلاقات محدودة، بل فردية في الكثير من حالاتها، كما هو الحال مع الشيخ الزنجاني، والشيخ الإصفهاني، وخاتمة المفكرين الإمام الشهيد الصدر الأول، رحمهم الله جميعاً.

أما إذا رمقنا بطرفنا الحوزة العلمية في قم، فسوف نجد لها جذوراً قوية وانعكاسات واضحة على أصول الاستنباط، مما فتح الباب واسعاً أمام المراجع فيها أن يستشرفوا الكثير من الآتي، فوصلوا إلى ما طمح به الأنبياء والرسل في أقصر فترة ممكنة، إذا ما اعتبرنا أن حجر الأساس في الحوزة العلمية في قم كان قد وضع في بدايات القرن الرابع عشر الهجري، على يدي يدي آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري (قدس سره). إلا أن جذور تلك الحوزة ترجع إلى زمن الأشعريين، ثم امتدت حتى أيام الدولة الصفوية، حيث انتقل رموز أخذوا منابع الحكمة المتعالية في إصفهان ـ العاصمة الدينية والسياسية آنذاك ـ إلى قم المقدسة، وفي طليعة هؤلاء الملا صدرا صاحب الأسفار الأربعة الذي لا زالت آثار مدرسته تفرض سيطرة واضحة بينة في مسارات البحث الفلسفي.

هذا ما يتعلق بالعلوم اللاهوتية. أما العلوم الإنسانية فعلى أبناء المجتمع أن يبذلوا جهدهم في تحصيل الشهادات العليا، فكما أننا نقول اليوم: إن المجتمع لا يقبل الشهادات المتدنية، فكذلك في زمن الظهور، لأن الإمام المهدي (عج) يتعامل مع جيل بنى نفسه، وتقدم في تحصيلاته، وأحرز الشهادات المتقدمة. فالإمام لا يتعامل مع جميع القضايا بناء على الأمور الغيبية والإعجازية، إنما يجري الكثير من الأمور بناءً على الحسابات الطبيعية، ومن تلك الحسابات والتفسير الطبيعي في زمن الانتظار أن تُعدَّ الأمة نفسها إعداداً جيداً في هذا الجانب.

أي أن المعجز يتدخل عند الحاجة مع عدم وجود البديل، أما عند وجود البديل فلا داعي لاستخدام لمعجز، فلو ظهر الإمام، وكانت الأمة تحتاج إلى مليون طبيب بشري مثلاً، وكان هذا العدد موجوداً، فلا داعي لاستخدام المعجز ليوجد مليون فرد يحملون شهادة الطب.

فيمكن للأمة إذن أن تعدّ نفسها وتصل إلى هذا المقام. أما الأمور التي تحتاج إلى تدخّل من الإمام المعصوم، بناء على الحساب الغيبي، فلها حساباتها ومربعاتها الخاصة.

2 ـ معرفة الإمام معرفةً تقرب من الحقيقة: فكلنا يعرف الإمام أنه ابن الإمام الحسن العسكري (ع) وأن أمه نرجس، وهذا نوع من أنواع المعرفة، أو أنه أمضى غيبةً صغرى، ودخل في غيبةٍ كبرى، ولكن ما هي المهام التي قام بها في غيبته الصغرى؟ وما هي التي يقوم بها في الغيبة الكبرى؟ فهذا شطر من المعرفة الذي ينبغي على الجيل المؤمن الرسالي أن يتعرفه ليتوصل من خلاله إلى معرفة الإمام الخلف الباقي من آل محمد (عج).

3 ـ الارتباط الروحي المباشر بالإمام أثناء غيبته: فهناك زيارات خاصة كزيارة الناحية، فلنسأل أنفسنا: ما هي علاقاتنا بهذه الزيارة؟ وكم تحظى به من الوقت المستقطع من رصيدنا الطويل المهدور، لنعيش علاقةً، ونحن نقرأ نصاً روحياً على لسان المهدي (عج) وهو يتعاطى مع واقعة كربلاء. وكذلك زيارة آل ياسين، التي تعني المنتظر (عج) مباشرة، فلنسأل أنفسنا أيضاً عن عدد المرات التي نقرأ فيها هذه الزيارة، فهل نحظى بها في السنة مرة؟ أو في الشهر أو الأسبوع مرة؟ أو بنصيب أكبر في اليوم مرة؟

إن هذه الزيارة من أعظم الزيارات التي تحدث العلاقة والأنس بإمام الزمان. وكذلك الزيارة الجامعة، فهي زيارة مهمة تعرّفنا العقائد والمقامات الثابتة لهم عليهم السلام، وممن يزار بتلك الزيارة هو الخلف الباقي من آل محمد (عج). فكم مرة نقرأ هذه الزيارة في أيام السنة؟ ها نحن نجد أن المناسبات المتعلقة بهم (ع) تمر علينا، وقلّما يحظى مسجدٌ أو حسينية بترديد ألفاظ تلك الزيارة المقدسة التي جرت على لسان الإمام الهادي من آل محمد (ع) حال أننا ننشغل بالكثير من الزيارات الموضوعة التي لم تصحّ أسانيدها، بل تصطدم مضامينها مع الثوابت في مدرستنا الحقة، مدرسة أهل البيت (ع) أما تلك الزيارات التي صحح علماؤنا أسانيدها، وتتفق مضامينها والقواعد العامة فإننا نعرض عنها.

وكذلك زيارة أمين الله، التي تعتبر من أصح الزيارات، فكم تجري على ألسنتنا في زمن غيبته (عج)؟ وكذلك الأدعية، ومنها دعاء العهد على الأقل، ولو في كل جمعة، مع أن هذا الدعاء وردت في تأكيده العديد من النصوص، ومنها ما ورد عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: «إن من قرأ هذا العهد أربعين صباحاً كان من أنصار الإمام (عج) وإذا مات قبل ظهوره يخرجه الله من قبره ليجاهد بين يدي الإمام، ويعطيه الله إزاء كل كلمةٍ ألف حسنة من كرامته، ويمحو عنه ألف سيئة»([3]).

وقد جرى على هذا الأمر أساطين الطائفة وكبارها، فقد كان السيد الإمام (قدس سره) يعتبر هذا الدعاء من ورده الصباحي.

ومن تلك الأدعية دعاء الندبة، الذي يشتمل على مفاتيح لأسرارٍ، يدركها من انصهر في الألفاظ المعبأة والمكتنزة فيها المعاني بشكل عجيب.

إنني أقرأ في بعض الأقطاب فأجده يقول: من أهم المفاتيح لعوالم الغيب تسبيح الزهراء في دبر كل صلاة. فالنبي (ص) لم يُتحف الزهراء (ع) بشيء بعد فدك إلا هذا التسبيح.

4 ـ التشرف بالخدمة: إننا نرى اليوم الكثير من المراسم ومجالس العزاء، لكن السؤال: ما الذي يحدث؟

تعالوا إلى هذه الرواية عن الإمام المهدي (عج) التي يقول فيها: «قد آذانا جهلاء الشيعة وحمقاؤهم»([4]).

يقول النبي الأعظم (ص): «من عمل على غير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلح»([5]). وهؤلاء هم الجهلاء الحمقاء.

فالأمر لا يدور مدار الاحتفال بالمناسبة أو إقامة مجلس العزاء أو اللطم أو الطبخ وغيره، فهذا جزء القضية وأدنى مراتبها، والمهم هو الهدف. فأنت ترى مثلاً أن جار المسجد يعرقل الشعائر، أو أن جار الحسينية يتسبب في إغلاقها، أو أن أخاً يشتكي على أخيه لخلاف على ولاية في حسينية، وهذا لا يتناسب مع ما نراه من ظاهر الارتباط بأهل البيت (ع) وتعظيم شعائرهم. فمن يخاطب الإمام الحسين (ع) بقوله: يا ليتنا كنا معكم، لا يكون صادقاً في كلامه هذا، وهو يرتكب مثل هذه المخالفات.

ولست أشير في كلامي هذا لواقعة بعينها حصلت هنا أو هناك، إنما أفترض مثل هذه الأمور، وأدرك أنها موجودة بالفعل بشكل عام، وأرجو أن لا يُحمل كلامي على محامل أخرى غير التي أعنيها.

5 ـ الأخذ بأيدي أيتام آل محمد (ع)  ـ وهم الشيعة ـ إلى دائرتهم المقدسة: فنحن بلا شك نعيش الكثير من التشتت والضياع، فليسأل أحدنا نفسه: هل أحمل مسؤولية تجاه ابن جاري أو قرابتي أو محلتي أو ابن الطائفة التي أنتمي إليها أو الوطن الذي أعيش معه فيه؟ أو أننا نتكل على الآخرين، ونلقي العهدة في رقاب غيرنا؟

قد يرى البعض أنه ليس الوحيد في الحي أو المحلة، أو أن فلاناً من الناس في المحلة أيضاً لكنه لا يفعل شيئاً، لذا يتقاعس، حال أن الأمر بالعكس، فإن كانت مثل هذه الأمور موجودة بالفعل فإن هذا لا يعفيك من التكليف، إنما يشدد عهدة التكليف في رقبتك، لأنها إن كانت مقسمة على اثنين على نحو الوجوب الكفائي، وتقاعس الآخر في أدائها، صارت متعينة فيك أنت، فإن تخليت عنها صرت مفرطاً بحق شرعي أو اجتماعي.

فهؤلاء الشباب الذين لم يتوجهوا الوجهة الصحيحة، يجعلوننا جميعاً في دائرة المسؤولية عنهم لأنهم أيتام آل محمد (ع).

6 ـ إيصال رسالة الإمام المهدي (عج) إلى آحاد الأمة: فقد صدرت عن الإمام المهدي (عج) توقيعات وأحاديث وتوجيهات، فكم قرأنا من ذلك كله؟

لقد اطلعت على كتاب للشهيد السيد حسن الشيرازي (رحمه الله) أسماه «كلمة المهدي» جمع فيه التواقيع والأحاديث والرسائل التي صدرت من الناحية المقدسة في الغيبة الصغرى وقبل المغيب الأول، فحبذا لو اطلعنا عليها وقرأناها كي ندرك بعضاً من الثقافة المهدوية.

وللسيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره) أيضاً موسوعة كبرى في الإمام المهدي (عج) تناول فيها الغيبة الكبرى والصغرى وما بعد الظهور.

7 ـ إقامة مجالس الذكر وما يتماشى مع لغة العصر: وليس معنى ذلك أننا لا نريد الخطيب كي نبكي، فنحن بحاجة إلى البكاء وغيره، إلا أن هنالك رسالة عصرية لا بد أن نؤديها من خلال المنبر، فنحن اليوم في القرن الخامس عشر الهجري، والحادي والعشرين الميلادي، ولسنا في القرن السادس أو السابع، فلا بد أن يرتقي الخطاب ويسمو.

وفي الفترة الأخيرة بدا الضعف يدب في حضور بعض المراسم، بل تكاد بعض المراسم المتعلقة بذكريات أهل البيت (ع) تغيب في بعض المدن والقرى. فعلينا أن نتنبّه لذلك، وأن لا نتخلى عن تلك المراسم والذكريات. وأن نقدم المدد والعون في سبيل استمرارها.

ولنكن صريحين مع أنفسنا أننا ليس بين أيدينا ما يغذينا سوى هذه المنتديات، فالكثير من قنواتنا الفضائية أصبحت مشغولة ببعضها، فهذا يقول والآخر يردّ، بل إن بعضها فتح علينا أبواب سوء.

8 ـ تأسيس المؤسسات ذات الطابع السلمي المهني الذي يرتقي بالمجتمع: فنحن أتباع طائفة لها رافدها الاقتصادي القوي، ولكن ما هي آثارها في العالم الخارجي؟

إن النقلة النوعية لا بد أن تكون لها آثارها الواضحة التي يقرأها الناس، فالمرجع السيد محمد حسين فضل الله (رحمه الله) عندما أسس مجموعة من المؤسسات ذات الطابع المدني السلمي الذي ينهض بالفقراء ويرعى مسيرتهم نجد أن الآثار كانت واضحة.

يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): «هلك فيَّ رجلان، محبٌّ غالٍ، ومبغضٌ قالٍ»([6]). وذلك لعدم الرغبة في المعرفة والإصغاء للحق والحقيقة.

فكم كنا نتمنى ـ ولا زلنا ـ أن تكون لمرجعياتنا مشاريع بالطابع المذكور. لكننا نجد حتى في مدينة قم المقدسة (المنفتحة) أن المراجع يتفاوتون فيما بينهم، فنجد مثلاً أنّ لآية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي (حفظه الله تعالى) منظومة متكاملة تتحرك على الأرض، فيما تجد غيره بمستوى أقل، وهكذا.

الخوارج:

لقد ابتليت الأمة منذ زمن طويل بالخوارج، فهم غدة سرطانية تقتات على جسد الأمة، وهذا هو تعريفهم المختصر، فإن استكشف المرض في أول حالاته ربما أتى بنتائج طيبة، وإلا فإن النتيجة ستكون حتمية، حيث تموت الغدة ويموت معها حاملها.

والخوارج في اللغة جمع خارجة([7])، وهو اسم مشتقّ من الخروج، وفي آخر تعاريف أهل اللغة إطلاق هذه الكلمة على كل طائفة من الناس لخروجهم. ولكن، على أي شيء خرج هؤلاء؟

يقول أهل اللغة: سُمُّوا بذلك لخروجهم على الناس([8]). فهؤلاء خرجوا على الناس في كل شيء، لأن السلك العام للناس هو الهدوء والسلام والمحبة والاستقرار والتعاون، أما هؤلاء فسلوكهم على العكس من ذلك تماماً.

وقال البعض: سموا بذلك لخروجهم عن الدين([9]). فهم يقلّبون الأمور تقليب الحُوَّل.

وذهب آخرون إلى أنهم جماعة خرجوا عن الحق، ولكن ما هو الحق؟ هل هو الدين؟ هل هو الإمام المفترض الطاعة وولي الأمر والخليفة، براً  كان أم فاجراً؟ كل هذا لم يُجب عليه هؤلاء، ولم يُعطوا تعريفاً واضحاً.

وذهب جماعة آخرون إلى أن هذا العنوان يتناول من خرجوا على علي بن أبي طالب (ع) ويرسل هذا التعريف إرسالاً أيضاً دون تفصيل.

رأي علماء الفرق:

لقد تشكلت فرق الخوارق من سبع فرق، وتحركوا على أساسها، لذا نجد أن خوارج اليوم من داعش أو القاعدة أو غيرهما يرجعون جميعاً في مصادرهم إلى سبع شُعب يستقون منها.

ويقول الشهرستاني في الملل والنحل: «كل من خرج عن الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجياً، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين، أو كان بعدهم على التابعين بإحسان والأئمة في كل زمان»([10]).

ويقول الأشعري: السبب الذي سُمّوا به خوارج هو خروجهم على علي بن أبي طالب.

ويبدو واضحاً مما ذكره هؤلاء وغيرهم، أن بين التعاريف تداخلاً، لذا تعتبر في عرف المصطلحات في الحوزات العلمية تعاريف قاصرة، لأنها ليست جامعة لحقيقة الأطراف، ولا مانعة من دخول الأغيار والطوارئ. ولكنها تعاريف اعتبارية تقرب لنا المعنى بمقدار معتد به.

وعلى التعريف الثاني الذي اختاره الأشعري غالبية الأمة في القديم والحديث، أي أن الخوارج هم من خرجوا على علي بن أبي طالب، وكذا الدراسات والبحوث والتحقيقات تتجه باتجاه هذا التعريف.

ثم أن التعريف الاصطلاحي لا يتجاوز التعريف اللغوي، بل هو قريب منه، لذا أعرضت عنه.

نشوء الخوارج:

ثم إننا نحتاج أن نتعرف الفترة الزمنية التي نشأ فيها هؤلاء، وهل أنهم كانوا قبل أمير المؤمنين (ع) أو فترة خلافته، أو بعد شهادته؟ فقد اختار أتباع مدرسة المذهب الظاهري أن الأمر كان بعد شهادة علي (ع) بكثير، والسبب في ذلك أن هناك شبهة نسب بين الظاهرية والخوارج، فلكي يدفعوا عن أنفسهم شبهة الخارجية، اتجهوا بهذا الاتجاه، كي يتقدم المذهب الظاهري، ويسبق ظهور الخوارج. وليس معنى هذا أن الظاهرية خوارج.

وقد ذهب جماعة إلى أن الخوارج خرجوا منذ زمن الرسول (ص). وقال آخرون: إن بذرتهم الأولى بذرت أيام الخليفة الثالث عثمان بن عفان. وقال غيرهم: إن الخوارج هم الذين خرجوا على علي (ع) وهو الرأي الأشهر، فهؤلاء هم الخوارج لانطباق العنوان عليهم بكل حذافيره.

والشواهد والأدلة على تلك الآراء موجودة، فمن قال: إنهم خرجوا زمن الرسول (ص) استدل بحادثة مفادها أن النبي (ص) عاد من إحدى غزواته فقسم الغنائم على المسلمين، فوقف ذو الخويصرة التميمي في وجه رسول الله (ص) فقال: اعدل يا محمد، فكانت تلك بذرة الخروج على النبي (ص) في إجراء التشريع.

وقال آخرون أن الخوارج ظهروا في زمن عثمان، فالحركة التي حصلت، وأدت إلى قتل الخليفة كانت تمثل البذرة الأولى للخوارج. وقد ناقش هذا الرأي الكثير من علماء العامة، ورأوا أن أولئك الذين خرجوا على عثمان رجعوا إلى دائرة الحق، فلا ينطبق عليهم العنوان، لأن رجوعهم لحاضرة الإسلام يبطل حمل الخوارج على من ثاروا على عثمان بن عفان.

أما الخارجون على علي (ع) فقد نص أكثر من عالم وعالم من أبناء العامة ممن يحملون إنصافاً ـ وهم كثر ـ على أنهم الفرقة التي ينطبق عليها عنوان الخوارج ولا يتناول غيرهم، وقد ساقوا في ذلك أدلتهم.

لقد واجه أمير المؤمنين (ع) في خلافته خروجين وليس خروجاً واحداً، فالخروج الأول كان في معركة الجمل في البصرة، وكان على رأس هؤلاء الزبير وطلحة، وقد ذهب ضحية ذلك آلاف المسلمين، وقد ذهب بعض علماء العامة إلى أن مبدأ الخوارج كان من هناك، حيث انبثقت مدرستهم.

وقد حاول البعض تبرير ذلك ولم يعتبره خروجاً، وجعله تحت قاعدة (اجتهد فأخطأ) والعجيب أن هذه القاعدة لا تعمل إلا في مربع واحد، فيما تفقد فاعليتها في المربعات الأخرى، فإن كان هؤلاء اجتهدوا فأخطأوا، وقد أراقوا دماء الآلاف، فلم لا يُعامل غيرهم أيضاً بالمعيار ذاته؟

أما الخروج الثاني فكان في معركة النهروان، التي انبثقت من معركة صفين، حيث رفعت المصاحف في وجه علي (ع). وقد بدأت انحرافة التاريخ الكبرى من معركة صفين، لأنها لم تحسم.

كان مالك الأشتر يقول لأمير المؤمنين (ع): ليس بيننا وبين النصر إلا فواق ناقة. إلا أن أمير المؤمنين (ع) يأمره بالرجوع. ولله درك يا علي!.

في تلك الأثناء رفع جمعٌ من هؤلاء السيوف والرماح في وجه علي (ع) فابتدأت عندئذٍ ظاهرة الخوارج.

صفات الخوارج:

إن لهؤلاء صفات مشتركة تخطت القرون المتطاولة حتى وصلت إلينا اليوم، فلا تكاد تجد فرقاً بينهم في الأمس واليوم، حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة. مع أن أمير المؤمنين (ع) استأصل شأفتهم، ولم ينج من سيفه سوى أقل من عشرة، إلا أنهم تكاثروا فيما بعد، حتى بلغوا ما بلغوه اليوم.

فمن صفاتهم ما صرح به أمير المؤمنين (ع) بقوله: «يقولون الحق بألسنتهم لا يجوزُ تراقيَهم ـ وأشار إلى حلقه ـ من أبغض خلق الله إليه»([11]). وفي بعض الروايات أنه أشار إلى حلقه ولم يتكلم([12])، فكم هي الغصة التي كان يعانيها من هؤلاء!

ولهم صفات أخرى أبرزها:

1 ـ تكفير عموم المسلمين: فعلى مبانيهم ومقاييسهم للدين يرون كفر الجميع، ولا يقفون عند تكفير الشيعة، فالجميع في نظرهم كفرة، لذا يُذبح الجميع بسيفهم الجائر.

2 ـ التخفي قبل الظهور: وهي صفة المنافقين، فتراهم يترددون على الجماعات، ويقومون بأعمال الخير، ودونك مبراتهم تملأ الدنيا، ودور التحفيظ للقرآن الكريم تطبق شرق الأرض وغربها، لكنها منابت سوء يتخفَّون بها ويتسترون، ومن خلالها ينطلقون.

فالقرّاء في مسجد الكوفة كانوا بالأمس يتجاوزون الألف، وهم حملة القرآن، وجباههم سود من كثرة العبادة، فكانوا يقومون الليل ويصومون النهار، ثم انتهى بهم الأمر إلى أن تشهر سيوفهم في وجه علي.

3 ـ أسماؤهم الكنى: فتجد أبا مصعب الزرقاوي مثلاً، وأبا فلان، وأبا فلان. وهكذا كان الخوارج في زمن علي (ع) وبعده، فتجد مثلاً أبا نُعامة، واسمه قَطري بن الفجاءة المازني، وهو رأس من رؤوسهم.

ومنهم أبو سماك، واسمه عمران بن حطان السدوسي، الخارجي المعروف، صاحب الأبيات المعروفة في مدح عبد الرحمن بن ملجم. وهو الذي دفعه وشجعه على قتل أمير المؤمنين (ع).

4 ـ تسمية الزعيم باسم الأمير: فبالأمس كانوا يسمونه بهذا الاسم معارضةً للإمام أمير المؤمنين (ع). ولا بد أن أذكر هنا أن هذا اللقب لا ينطبق إلا على الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) حصراً دون غيره. بل الأكثر من ذلك أن لدينا نصوصاً تنهانا أن نطلق هذا اللقب حتى على الأئمة (ع) وإن كانوا أمراء المؤمنين أيضاً بالمعنى اللغوي والشرعي. والسر في ذلك أن هذه تسمية السماء لعلي (ع) جرت على لسان النبي محمد (ص).