نص خطبة المنبر الحسيني بين رغبة الشباب و سطوة الولي
ورث الإمام الحسين (ع) تركة ثقيلة ومجتمعاً مهلهلاً أنهكته الحروب وأرهقته المعارك، فالمجتمع الذي عاش فيه الإمام الحسين (ع) كان مجتمعاً لا يحسد عليه، لأنه لم يبق فيه ما يؤمِّن له مواكبة المسيرة، بل على العكس من ذلك تماماً، إذ شكّل الكثير من العوائق أمام حركة الدفع للمسيرة الإسلامية التي أراد لها الإمام الحسين (ع) أن تأخذ مسارها الطبيعي في وجدان الأمة.
إن المجتمع الذي ورثه الإمام الحسين (ع) هو عبارة عن بقايا جيل الصحابة، حيث غادر معظمهم الدنيا، سواء في حياة النبي (ص) في معاركه الفاصلة، أم في عهد الخلافة من بعده، التي تمثلت في الخليفة الأول والثاني والثالث، وحركة الفتوحات التي ضربت شرقاً وغرباً واستهلكت الكثير من الصحابة.
ولو أن لقلم البحث والتحقيق مساراً طبيعياً، وفضاءً رحباً، لأمكن للباحث والمحقق والمدقق أن يضع يده على نقاط الضعف التي كانت تواكب حركة الفتح في الشرق أو الغرب، وبظني أن المقام لا يساعد على الدخول في معطيات هذا البعد، حفاظاً على وقتكم الشريف، لكن هذه البقية الباقية من الصحابة انشطرت على نفسها أيضاً إلى قسمين، قسم أبى إلا أن يواكب ما كان عليه، وأن يسير وفق معطيات من تقدمه من عموم ركب الصحابة، لذلك وجدوا ملاذهم في خلافة الشام، فرووا الأحاديث ووضعوها، وأمّنوا مشروعية واضحة في حدود المجتمع الذي كانت تتربع على رأسه الخلافة الأموية. والقسم الآخر وجد ملاذه في أهل البيت (ع) ، وهؤلاء أيضاً على قسمين، الأول هو من لم يحد قيد أنملة واحدة عن المسار، منذ أن غاب الرسول (ص) ، وركب في سفينة علي (ع) حتى آخر المطاف، ومن هؤلاء مثلاً حبيب بن مظاهر وأمثاله، وقسم آخر من هؤلاء أدركتهم السعادة ولكن بعد مخاض عسير مروا به، وطريق وعر اجتازوه.
وبهذه الثلة القليلة استطاع الإمام الحسين (ع) أن يبذر بذرته فيما يعبر عنه اليوم بالنهضة أو الثورة الحسينية أو الحراك الحسيني. هذا ما يتعلق بشريحة الصحابة.
أما الشريحة الثانية من هذا المجتمع الموروث فهم التابعون، الذين رأوا من رأى الرسول (ص) ولم يروا الرسول ذاته، وهؤلاء أيضاً ينبغي أن لا يقلل من قدرهم وشأنهم وما لهم من التأثير في المشهد بصفة عامة، كيف؟ ومن هؤلاء معظم جيل القراء والنساك وأصحاب صلاة الليل، حتى أن معظمهم عرف بجماعة القراء، لكثرة ما يحملون من القرآن سواء في أيديهم أم في قلوبهم عن ظهر الغيب، فهذه جماعة لها في الليل دوي كدوي النحل، بين قائم وقاعد وراكع وساجد، وهذه الأمور ليست هي الهدف، إنما العبرة بما يكون عليه المرء عندما يمتحن، وقد سارت الأمور مع هؤلاء كما أحبوا وأرادوا، ولكن عندما آلت الأمور لعلي (ع) دخلوا في مساحة الامتحان الحقيقي. قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوْا أَنْ يَقُوْلُوْا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُوْنَ﴾([2]).
لقد كان افتتان هؤلاء القوم بالصراط المستقيم، وطريق ذات الشوكة، والحبل المتين، والعروة الوثقى، والركن الوثيق، على ما كان يتمتع به علي (ع) من صفات الكمال الإنساني في حدود (الناسوت) وما أفيض عليه في مقام (اللاهوت) أيضاً، إلا أن هذه الشريحة تنكبت الطريق عن علي (ع) بل حاربته. وقد تخندق بقايا هذه الجماعة في قبال الإمام الحسين (ع) عندما آلت الأمور إليه في إمامته.
ثم تأتي طبقة الجمهور العام والسواد الأعظم، وهؤلاء في الأعم الأغلب من مفاصل حركة البشر، هم غثاء كغثاء السيل، ينعقون مع كل ناعق، حتى يصلوا إلى مرحلة الامتحان الآنفة الذكر، حيث يغربلوا فلا تيبقى منهم عندئذٍ إلا صبابة كصبابة الإناء، ويخرج معظمهم من الساحة، ويدير ظهره، وليس ثمة إلا من يستحق أن يبقى في الميدان.
يقول الإمام الحسين (ع): إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر. ونحن نسأل الإمام الحسين (ع): ما هذا الإصلاح بعد الفساد؟ وماذا كان يشغل الفساد من ا لمساحات في تلك الأمة؟
ولو قدر لنا وأُكرمنا أن نستشرف عالم الحسين الملكوتي لأجابنا قائلاً: إن الفساد لم يكن محصوراً في زاوية دون غيرها، إنما كان يستحوذ على المشهد بجميع أجزائه وأشراطه ,لذا ثار الإمام الحسين (ع) ليحدث حالة من التغيير في وسط الأمة، أساسها البناء الفكري والثقافي وإعادة الأمة إلى أصولها وقواعدها وثوابتها وقيمها، وتحرك بهذا الاتجاه وقدم الكثير.
إن هذا الوضع المأساوي يمكن أن يوضع في مجموعة من النقاط، أحاول أن أختصرها قدر الإمكان:
إن من أبرز السمات والصفات التي يمكن أن نرسم بها معالم هذه المرحلة، حالة الجمود الفكري والخواء الثقافي في مدرسة الصحابة، لأن الخليفة الثاني حظر على من سمع من النبي (ص) حديثاً أن يدونه، وبالتالي منع تدوين السنة مطلقاً، وما ترتب على ذلك من الأخطار لا يقل أهمية عما ترتب على إقصاء علي (ع) من شأن الخلافة الظاهرة، لكن الأمة إلى يومنا هذا لم ترجع لقراءة هذا المفصل الخطير الذي مرت به، وبظني أنه لولا القوة التي بني على أساسها هذا الدين الحنيف، وما تم تقديمه من دماء تشكل وقوداً لدفع الحركة، لما بقي من هذا الدين حتى الاسم، ناهيك عن الرسم الأصلي، لكنَّ ما أسسه النبي (ص) وما ثبته علي (ع) وما تحرك فيه الحسنان (ع) ثم الكوكبة النيرة من آل محمد (ع) هو الذي كفل لهذا الدين البقاء والاستمرار.
وبعد مرحلة الخلافة جاءت مرحلة الإمام علي (ع) فكانت أشبه بثورة ثقافية في وجدان الأمة، لأن غير علي (ع) لا يمكنه أن يصعد المنبر ويتفوه بقوله: سلوني قبل أن تفقدوني، فمن لا يستطيع أن يتحصل على جواب لامرأة بدوية في أبسط المسائل، لهو أعجز من أن يجيب عن المسائل الكبرى, لقد مكث علي (ع) صامتاً لربع قرن من الزمن، إلا فيما دعي له، أو ما رأى أنه تلبية للواجب، وكان ينتظر الكوفة، فحصل له ما أراد، وأحدث ذلك الحراك الثقافي.
ونحن هنا نسأل: كم قرأنا عن علي (ع) في جانبه الفكري؟ هل قرأنا عن حالة الحراك الثقافي التي زرعها في وجدان الأمة، ونهل منها العلماء الذين جاؤوا بعده؟ أو أننا لا زلنا نعيش على ضفاف ليست قريبة من ذلك النبع الصافي؟ أظن أننا لا زلنا بعيدين.وربما يقول القائل: كيف يكون الأمر كذلك، وما نعيشه اليوم هو وليد ذلك الحراك؟ فأقول: نعم، ولكن الكثير الكثير من عطاء علي (ع) لم يصل إلينا، وما وصل إلينا لم نقرأه، وما قرأناه لم نتفاعل معه، وحيث إن الأمور تصل إلى هذه المرحلة، فالإنسان على نفسه بصيرة، وعليه أن يراجع حسابه.
كلنا نتغنى بنهج البلاغة، ولكن ليسأل كل واحد منا: هل نجد على الرفوف في منازل كتاباً اسمه نهج البلاغة؟ وهل عمدنا أبناءنا بنهج البلاغة شفيعاً للقرآن الكريم؟ ثم كيف إذا سألنا ما هو أكثر صعوبةً، وهو: كم يستظهر أبناؤنا من نصوص لعلي (ع) تضمن لهم عيشاً سعيداً وحياةً كريمة بما تحمل الكلمة من معنى؟
ثم جاء دور الإمام الحسن (ع) في حركة الصلح (أو الهدنة) وهي مرحلة التقاط الأنفاس بعد حروب ثلاث طاحنة، مع غزوات فيما بينها أو تحركات هنا وهناك، فيما يعبر عنه اليوم في العرف العسكري والسياسي بالجيوب. وبقدر ما أرهق جيش علي (ع) إلا أنه لم يرفع يده عن التأسيس لما هو قادم, لقد ترك الإمام الحسن (ع) في الصلح مساحة ليست بالقليلة لآحاد الأمة كي يراجعوا الحسابات، فمنهم من راجع وصحح، ومنهم من ازداد في الوضع سوءاً وتحرك في مسار ربما يتعاكس مباشرة مع أصحاب القرار.
وهكذا يصل الأمر إلى المجتمع الحسيني الذي تناط به المسؤولية، حيث يصف الإمام الحسين (ع) أصحابه بقوله: ما رأيت أصحاباً أفضل من أصحابي. وهذا المجتمع له أيضاً مرحلتان: الأولى قبل المخاض، والأخرى بعد المخاض. فقد خرج مع الإمام الحسين (ع) من المدينة في المرحلة الأولى الكثير من الناس، والتحق به جمع أكثر في مكة المكرمة، ولكن عند وصوله إلى طريق عُسْفان، بين مكة والمدينة، التفت إليهم وخطبهم، وعرفهم بمآل الأمر، فتفرق عنه معظم الناس، وعادوا إلى مناسكهم، فتركوا النسك اللاهوتي المتمثل بسبط الرسالة، واختاروا النسك المجرد. ولما ثار الإمام الحسين (ع) أحدث في وسط الأمة تغييراً كبيراً لم يكن مألوفاً، وهذا التغيير الذي حصل على يديه ليس فقط فيما يشكل الصدمة في المجتمع، إنما كان أكثر من ذلك بكثير، وقد أخذنا نحن جانب العاطفة والمأساة، وفي ذلك الكثير من الخير والبركة والمحافظة على ثوابت هذا المذهب الحق، لكن العاطفة وقود، يدفع الإنسان إلى ما هو الأسمى، وهو استنطاق الدروس والعبر مما قدمه الإمام الحسين (ع). وبظني أن الأمة لو تعاطت مع معطيات ثورة الإمام الحسين (ع) كما ينبغي لما كان حالها كما هي عليه اليوم، حيث تستجدي ممن لا ينبغي أن يُستجدى منه.
وربما يتساءل البعض: لماذا تراجع المشروع الثقافي في بعض المراحل؟ فقد كان الشباب في يوم من الأيام في أوج نشاطهم وقوة عطائهم، وكان للمساجد والحسينيات دورها وعطاؤها، وكذلك المجالس الشخصية الخاصة. فلم حصلت هذه الحالة من الركود، الذي نأمل أن لا تكون حالة من صور الانقلاب على الذات في التعاطي مع هذا المشهد، وهو الحراك الثقافي؟. فلا شك أن الذين يبلغون من العمر اليوم بين الأربعين والخمسين سنة، كانوا قد شهدوا مراحل في أعمارهم المباركة، تميزت بالتصاعد في نشاطهم، إلا أننا في السنوات القليلة المتصرمة مرت علينا حالة من الجمود والتراجع والتخلي عن المسؤولية المناطة بنا.
وللإجابة عن هذا التساؤل يمكن أن ندرج مجموعة من الأسباب التي تقف وراء ذلك، وكما يلي:
1 ـ الاستبداد والضغط السياسي الذي يصادر في كثير من الحالات المشهد الثقافي، وهذا ليس بدعاً في المجتمعات الإسلامية، إنما هو في سائر المجتمعات الإنسانية، فأشد ما يخشاه السياسي هو وجود الإنسان المثقف والمجتمع الواعي، فمتى ما تثقف المجتمع وتنور الشباب، فقد ضربوا مسماراً في جدار يفترض أن لا تمتد إليه اليد، بل لا تشير إليه ولو عن بعد. فالمشهد السياسي منذ فترة معينة، قريبة أو بعيدة، كان أحد الأسباب في أن يدفع الناس الضريبة، ولا زالوا كذلك.
2 ـ انغلاق المجتمع على نفسه، وهذا من النوازل على الشباب الذين يفترض أن ينهضوا بمسؤوليتهم في وسط الأمة، فكلما انغلق المجتمع على نفسه، أو انغلق رجل الدين على نفسه، وكذلك الشريحة المثقفة، فمعنى ذلك أن حالة من المرض باتت تتسلل شيئاً فشيئاً، وربما تجد ذلك المجتمع أو الفرد بعد فترة قصيرة جثة هامدة، حيث انتزعت منه روح البعد الحركي فيما يؤمّنه من ثراء فكري وثقافي، وهذا أمر واضح وبين، فإن جميع المجتمعات التي تنكبت الطريق، وأرادت لنفسها أن تعيش الانزواء والانطواء، طويت صفحتها، وكم من الأسماء والعناوين لأشخاص وفرق وطوائف ونحل وتكتلات وأحزاب ومنظمات، تصرمت وانطوى عنوانها بسبب الانغلاق على النفس.
3 ـ وحدة الاتجاه الفكري في وسط المجتمع: حيث يتصور بعض الناس أن وحدة المسار الفكري في مجتمع ما هو الضمانة لوحدة ذلك المجتمع، والسر في البقاء والديمومة، وهذا خطأ فادح، واشتباه كبير، والحق أن تعدد المشارب والأذواق والأنظار في المجتمع الواحد هي التي تعطي حالة الدفع.
والمثال الواضح في حياتنا على هذا الأمر هو البيت، فعندما يكون هناك مجموعة من الأولاد كلهم في مستوى واحد، ولا يكون هناك تمايز فيما بينهم، ويكون مشرب التغذية الفكرية من الأب حصراً، إذ يحجر عليهم فلا يسمح لهم بالانفتاح على الآخرين من الأعمام والأخوال أو غيرهم من أبناء المجتمع وشركاء المسيرة، فإن هؤلاء مع مرور الأيام، وإن ترقَّوا قليلاً في مسارهم العلمي، إلا أنهم يحملون مجموعة من العقد التي يصعب فكها، وهذه الحالة تتسبب في أن يكون هؤلاء الأشخاص، بما يمثلون من إشغالٍ لزاوية من زوايا المجتمع بأكمله، حالة عطب وشلل.
والمجتمع بمنظومته العامة إذا أراد أن يعيش فكراً أحادياً، فهذا لا يعني سوى الجمود والكسل والموت في نهاية المطاف. ومن هنا فإن الأفكار بقدر ما تتشعب في قبال الإسلام فإن عوده يشتد، وبقدر ما تجتمع المذاهب على مذهب أهل البيت (ع) فإن عوده يشتد أيضاً، وهكذا فإن هذه الموارد تحافظ على القوة، وتوجد حالة من الحراك والدفع.
4 ـ الهروب من الواقع ومن تحمل المسؤوليات: فإن قسماً من الشباب صار يعيش هذه الحالة، ويؤمن بإكمال دراسته هو، دون الاكتراث بغيره.
ولا بد أن نشير هنا بوضوح إلى أن العطاء والقيام بالمسؤولية لن يشكل عائقاً في الترقي في تحصيل المعارف، بل على العكس من ذلك تماماً، فالقيام بالمسؤولية يعني الاحتكاك والتمازج، واكتساب الخبرات من الآخرين، وتوسّع المدارك، والإلحاح في مساحة العمل، وهذا يستدعي مستوجبات ما يؤمّن لهذا الإنسان من القدرة أن يتعاطى مع المشهد في الخارج كما ينبغي، وهذا لا يتأتى إلا من خلال القراءة والمتابعة والبحث لكي يرتقي ويرتقي المجتمع من حوله.
إن التخلي عن المسؤوليات يشكل خسارة كبيرة، ومعظم عظماء الأمة سطع نجمهم وقاموا بحركة التغيير في وسط الأمة حال أنهم لا يشق لهم غبار فيما وصلوا إليه من درجات عالية في مقام العلم والمعرفة.
خذ مثلاً لذلك الإمام الشهيد الصدر الأول (رضوان الله تعالى عليه) فمن كان يجاريه في علمه وتنوره وجهاده وعطائه؟ وهكذا الحال في إمام الأمة، الذي شكل مرجعية كبرى في زمن المرجعيات الكبرى، وأنار مشعلاً تستضيء بهديه جميع آحاد البشرية، حتى أن ما يحصل اليوم من حراك، لو فتشت عن جذوته لوجدت أنها من هناك، طال الزمان أم قصر.
5 ـ التقليد الأعمى للغير: وهذا مع شديد الأسف يبتني في كثير من الأحيان على اللاوعي، فقد يكون أحياناً مبنياً على الوعي إلا أن منشأه الحب والانجذاب والرغبة، وأحياناً أخرى لا يكون مبنياً على وعي أصلاً، وخير شاهد على ذلك صور اللباس التي يتدرعها الشباب البعيد عن منتديات الخير كالمساجد والحسينيات، وهو ضرب من التقليد الأعمى، لأنك لو سألت الشاب: هل لديك حالة من الحب لمن يرتدي مثل هذا اللباس؟ فسيجيبك بقوله: كلا، وقد يعلل ذلك بكونه كافراً مثلاً، لكنه يلبس ذات اللباس الذي يلبسه ذلك الكافر، وهذا هو التقليد الأعمى. وهكذا في المجالات الأخرى، فأنت تجد في هاتفه النقال أو جهاز الكومبيوتر المحمول ما يدل على التقليد الأعمى الذي يجرنا إلى المهالك. وبظني أن المجتمع الإسلامي لو لم يُبتلَ منذ اليوم الأول بهذا اللون من التقليد الأعمى لما حصل ما حصل لعلي (ع) ولا للحسن (ع) ولما قتل الحسين (ع) بذلك المشهد المأساوي.
6 ـ الاقتراب الثقافي المشوش: إن حالة الابتعاث للخارج، بعنوانها الأولي، حالة إيجابية وصحية، سواء للبنين أم البنات، ولكن فتّش عن العناوين الثانوية، فمن السهل أن أبعث ولدي إلى أمريكا، بل حسب الإحصائيات المدروسة أن النسبة العالية ممن ابتعثوا هم من أصحاب المستويات الهابطة في التحصيل، ففي الزمن السابق كان من غير الممكن الحصول على بعثة لأقرب الدول، لمن كان معدله دون الخمسة والتسعين، أما الذهاب إلى أمريكا وأمثالها فيحتاج إلى نسبة أعلى، أما اليوم فتغير الأمر كثيراً وأصبح من السهل على أصحاب المعدلات الهابطة أن يحصلوا على بعثة.
إن البعثات حالة صحية بالعنوان الأولي كما قلنا، ولو كان البناء العلمي الأكاديمي العالي بقدر ما يحتاجه أبناء الشعب كاملاً، لما احتجنا إلى السفر والبعثات، وبموازنة بسيطة نرى أن زمن الملك خالد مثلاً، فتحت فيه من الجامعات الكبرى أكثر مما فتح في الفترة الأخيرة، وحتى العناوين المطروحة اليوم لا تتماشى مع ما كان، وبالتالي فإن البعثات حاجة ملحة، ولكننا كآباء وأولياء أمور، علينا أن ندرك حجم مسؤولياتنا تجاه أولادنا. إن الاقتراب الثقافي المشوه والمشوش قد يحصل في داخل البلد أيضاً كما يحصل في خارجه.
7 ـ تغليب البعد الأخروي على الجانب الحياتي: فلا تجد وسطية بين متطلبات الحياة وما ينتظرنا في عالم الآخرة، فإما أن نستغرق في الدنيا وندير الظهر للآخرة، أو أن نستغرق في شأن الآخرة وندير ظهورنا لأمور الدنيا، فنعيش الجهل والفقر والتفكك الأسري والضياع والشتات الاجتماعي، وما إلى ذلك من الأمور.
فالموازنة في حال التجاذب بين الشأن الدنيوي والشأن الأخروي هو الأمر الذي يكفل لنا الاستقامة.
إن هذا الشباب الطليعي الذي تحدثنا عنه له أدوار يفترض أن يقوم بها، ولكن ـ مع الأسف ـ هناك تخلٍّ واضح عن تحمل المسؤولية. وكلكم يعلم مدى هجمة العدو الشرسة، والغزو الثقافي المركّز، وغياب روح الانضباط في المحافل الدينية من خلال ما يُطرح فيها، فأنت تستعد للإفادة من عشرة محرم، لكنك تجد أنها لا تقدم لك الزاد الذي أراد الحسين (ع) أن يقدمه لك.
وأود هنا أن أسأل هذا السؤال: لو دعي أحدكم إلى وليمة في مكان معين، فماذا يتصور؟ لا شك أنه يتصور ما يتناسب مع مقامه، وكل بحسبه، فعندما يجد ما هو دون ذلك فسوف يشعر بالغبن، وهكذا الحال في الجانب المعنوي، إذ يأتي الآتي للحسينية ليحضر المجلس، ولديه رغبة ملحة أن يخرج بزاد مناسب، لأن الداعي لهذا المأتم هو الحسين (ع) ولا بد أن يكون الزاد الذي يقدم متناسباً مع مقامه.
إن هذه الحالة من غياب روح الانضباط في المجالس تؤدي بنا للوقوع في مثل هذا الشرك.
8 ـ عدم ترك المساحة للشباب الطليعي، والمؤمن الرسالي، أن يقوم بدوره، فالشباب مسؤول، وكلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالشاب ذو العشرين عاماً مسؤول عن ذي الخمسة عشر عاماً، وهذا عن ابن عشر سنين، وهكذا الأمر صعوداً ونزولاً.
وهذا الأمر الأخير يقف وراءه عاملان يشتركان معاً أحياناً في تحقيقه، وقد يفترقان، ليضيّقا الدائرة على الطليعة المؤمنة، والشريحة المثقفة، ويمنعاها أن تنهض بدورها، وهما:
الأول: رجال الدين وأولياء الوقوفات، كالمساجد والحسينيات والمدارس الدينية، فرجل الدين قد تحصل له شريحة كبيرة من المجتمع، إلا أنه لا يقترب منها، ولا يعيش واقعها، لذلك قيل: رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، فالمجتمع مرآة لرجل الدين، وينبغي أن يعرض نفسه على هذه المرآة، وأن يقرأ المجتمع من حوله، فالمجتمع اليوم لم يعد يقبل بأقل القليل، وأصبح يتطلب الكثير، فعلى رجل الدين أن يمنحه الكل، لعله يرضى عن البعض.
إن تصدي رجل الدين للمنبر أو غيره، يعدُّ مسؤولية وأمانة، فهو يخاطب عقول الجيل من حوله، ابتداءً بالطفل الصغير وانتهاءً بالكبير، مروراً بالشباب والكهول، فلا بد أن نراعي متطلبات هذه الشرائح.
إن غياب دور رجل الدين، وعدم قدرته في التعاطي والنزول للواقع، والأخذ بيد المجتمع لما يمكن أن يرتقي إليه يعتبر كارثة، بسبب عدم وجود المساحة الكافية للطليعة المؤمنة لتنهض بدورها.
وكذا الولاة على الوقوفات، فهم أيضاً في دائرة المسؤولية، فالولاية على المسجد أو الحسينية أو المكتبة أو المدرسة أو غيرها لا تعني الملكية الشخصية، إنما هي مسؤولية مناطة بالإنسان، لذا يقال في الفقه: إذا قصر الولي عن القيام بلوازم الوقف، فإن الحاكم الشرعي يتدخل في الأمر، ويستبدل به غيره.
فعلى رجل الدين أن ينزل لمستوى المجتمع، ويأخذ ويعطي، ليرتقي ويرتقي المجتمع به. وعلى ولاة الأوقاف أن يتركوا مساحة لغيرهم ليتفاعل معهم ويتفاعلوا معه، وإلا سوف يأتي اليوم الذي يستغنى به عنهم.
ومما يجدر بنا ذكره في أيام عشرة محرم الحرام، أننا يجب أن نؤجّل ما لدينا من مشاكل إلى ما بعد العشرة، أما في هذه الأيام فهناك أكثر من جهة تتربص بنا، ولا ينبغي أن نسلّم القياد لأحد، لنقاد كما تقاد الخراف، فنحن أكرم من ذلك، لأن الله تعالى كرمنا، وبذل الأئمة (ع) الكثير من أجلنا، والمؤمن كيّس فطن، ولديه حدس وحالة من الذوق والالتفات، ومن المعروف أن من تخلى عن الجمع، تخلى عنه الجمع.
الثاني: السلطة الرسمية، فعلينا أن نقدر الظرف، وأننا نعيش في دولة لا نتّحد معها في المشرب المذهبي، والطابع العام من أبناء الشعب لا نتفق معهم في المذهب، كما أننا لا ننتمي للمذهب الرسمي للدولة، وعلينا أن نقدر هذه المساحة ونتعاطى معها بقدر ما يمكن أن يؤمّن لنا ما نرغب في أن نصل إليه، ولا ينبغي أن نحمّل الساحة أكثر مما تتحمل، وأن نفجر وضعاً نحن في غنىً عنه. لذا أوصي بالحيطة والحذر، والتأمل والتدبر، وقراءة المشهد من جميع النواحي، وأن لا نندفع، لأن ضريبة الاندفاع باهضة التكاليف. وهذا لا يعني أن نقف مكتوفي الأيدي، ولا أن نملي على أنفسنا ما لا يملى علينا، فهناك أشياء كثيرة في المسجد لم تُملَ علينا، فلماذا نمليها على أنفسنا، فقد يمتنع بعضنا مثلاً من قراءة دعاء التوسل ليلة الأربعاء، مع أن أحداً لم يُملِ عليه ذلك، كل ذلك لأن هذا البعض يظن أنه سوف يمنع، ولكن الأجدر به أن يقرأ الدعاء ما دام لم يمنع، أما إذا مُنع فعندئذ يمكن له أن يمتنع.
وهكذا في إقامة الاحتفالات والجمع للفقراء، وغيرها، فلا ينبغي لنا أن نصدر مرسوماً بالمنع وهو لم يصدر أصلاً، إنما الصحيح أن نقيم الاحتفالات وأن نقرأ الأدعية، ما دامت مشروعة وغير ممنوعة.
نسأل الله تعالى أن يوسع من مداركنا، وأن يوسع صدورنا لتستوعب الكثير من أبنائنا، هؤلاء الشباب المؤمن الطيب الذين ينظر إليهم الخلف الباقي من آل محمد (عج) بعين البصيرة، ويعلق عليهم الكثير الكثير.
وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.