نص خطبة:المسلمون بين الواقعية والانتكاس

نص خطبة:المسلمون بين الواقعية والانتكاس

عدد الزوار: 1929

2016-07-24

الجمعة 17 / 10 / 1437 هـ 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

زمن الانتظار:

جاء في الحديث الشريف عن أبي سعيد الخدري عن النبي الأعظم محمد (ص) قال: «لا تقوم الساعةُ حتى تمتلئ الأرض ظلماً وعدواناً. قال: ثم يخرج رجل من عترتي ـ أو من أهل بيتي ـ يملؤها قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وعُدواناً»([2]).

فترة الغيبة التي هي فترة الانقطاع بين الأمة وبين إمامها المفترض الطاعة من قبل الله سبحانه وتعالى، من أشد الفترات صعوبة على أبناء الأمة. فعن الإمام علي (ع) قال: «والذي بعثه بالحق، لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً، وَلَتُغَرْبَلُنَّ غَربلةً، وَلَتُسَاطُنَّ سوْطَ القدر، حتى يعود أسفلُكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم‏»([3]). والغربلة تعني فيما تعنيه، خلط الأوراق، ثم الدخول في الصراعات الخارجية، فلا يبقى إلا صبابة كصبابة الإناء، والقلة القليلة هم الذين يسجلون ثباتاً وحضوراً والتزاماً بالمبدأ.

الارتباط بالله عز وجل:

ومن الأمور التي نكون بمسيس الحاجة إليها في هذه الفترة أن نتعرف أبعادها، ما لها من المعدات، وما يترتب عليها من الأثر، وفي كلا الموردين والمسارين نحتاج إلى المعين والمساعد الذي يأخذ بأيدينا للوصول إلى نهاية المسار كي نتماهى مع أصل القضية وتأصيلاتها:

فالرافد الأول هو الموروث الواصل إلينا.

والرافد الثاني هو الاعتماد على المطلق جلت قدرته.

التخصص في غربلة الموروث:

أما الموروث فيحتاج منا الكثير، وهذه ليست بضاعة رخيصة كي يتم تداولها بين الناس عامة، بغض النظر عما يمتلكونه من مقومات تساعدهم على الاقتراب من ذلك البحث. لذلك من لهم الاختصاص يُفترض أن يقدموا ما يحتاجه الناس من حولهم. فلا شك ولا شبهة أن حركة التصحيح وإعادة قراءة الموروث والتقويم والانتقاء بدأت عجلتها تأخذ دورتها، لكنها ليست بالشكل المرضي، إنما لا زالت تدور في حركة وئيدة بطيئة جداً، فإذا ما دارت على نفسها دورة كاملة، احتاجت الكثير من الوقت لتعيد الحركة.

إن المتخصصين تُلقى إليهم الأوراق، ويكون التسليم لهم في جميع المجالات، فلا بدع أيضاً لمن قطعوا مشوارهم الطبيعي ضمن حدود الحاضنة الطبيعية ـ وهي الحوزة العلمية ـ أن يكون لهم حضورهم في مساحة اختصاصهم، ولا يعني ذلك أن تغلق الأبواب أمام جميع الباحثين والمفكرين والمثقفين، لكن صاحب الاختصاص هو الأولى من غيره، وهذا من إعطاء الحق لذي الحق، إذ لا يمكن لنا أن نجعل ممن بذل جهوداً مضنية وواصل الليل بالنهار والشدة بالرخاء، والضعف بالقوة، والغربة بالحضر، لسنين طويلة، رغبة في أن يمسك ببعض آليات البحث، يتنحى جانباً، أو ندفعه نحن ليتنحى فيجلس في زاوية، ويدع الساحة تختار لنفسها ما تختار.

إن هذا المنطق المفترض ليس جديداً، إنما كانت له رواسبه في المياه الراكدة الآسنة في بعض الفصول الزمنية، منذ أن عرج رسول الله (ص) إلى الرفيق الأعلى وحتى يومنا هذا.

إن الباحث مهما كانت إمكانياته وقدراته يبقى ذلك الإنسان الذي لا يتمتع بعصمة من الوقوع في الخطأ، أو الخلط بين الغث والسمين في مورد من الموارد، إلا أن هذا ليس منتهى المسألة. فنحن لا نشك في نوايا أعلامنا أيدهم الله، عندما يتحركون في كشف النقاب عن مسألة ما، أنهم يتعاطونها رغبة في الأجر والثواب والتقرب إلى الله من جهة، ورفع عهدة التكليف عن سائر الناس من جهة أخرى. وكما يقول سيدنا الإمام (قدس سره): إن الاجتهاد في بعده الأوليّ واجب موجّه لجميع المكلفين، ولكن حيث يلزم من ذلك تعطيل مصالح الناس أصبح التكليف الكفائي المنهوض به من قبل بعض الذوات التي نذرت نفسها لهذا المسار، مُسقطاً للتكليف عن الآخرين.

فلو قدر لي أو لك أن نعيش في زمن لا يوجد فيه المجتهد القادر على استنباط الحكم الشرعي من مظانّه، للزمني ولزمك البحث والتحري والكشف والتنقيب والتحقيق حتى الخلوص إلى دليل على أساس منه يُنتزع الحكم وتجرى التطبيقات العملية وفقاً لذلك، سواء في باب العبادة أم في باب المعاملة.

إذن، لم لا نترك الفرصة لمن نهضوا في الفترات الأخيرة؟ وإن كانوا قلة، لكن نتاجهم في منتهى الجودة والروعة، وقد لامسوا أوتاراً من الصعب أن تتم ملامستها في بعض المراحل. فالجهود ينبغي أن تحتضن، لا سيما تلك التي تنظر من خلال مرئيات الانفتاح على الواقع القريب من جهة، وعلى المديات البعيدة من جهة أخرى، مع مراعاة دقيقة للتكاليف الشرعية، بمعنى أن يكون الحراك فكرياً مسيَّجاً بعاصمية الدين من خلال التزام أحكامه وليس التمرد عليها.

فمثلاً، يقرأ بعضهم النص القرآني أو الروائي بناء على مرتكزات اللغة، وهذه قراءة مشلولة ناقصة، لأن اللغوي بما هو لغوي، إنما يتحرك مع ظاهر اللفظ، لا الغوص في أعماقه من خلال فقهه للمعنى المكتنَز في اللفظ، بحيث يؤثر في بناء الكلمة.

بناء على ذلك أهمس في أذن كل أكاديمي قطع مشواره في علوم اللغة أن يكون منصفاً مع نفسه، لا سيما أن الحوزة ليست عقيمة في هذا الجانب، إذ كان الكتاب الأول الذي يدرَّس في الحوزة العلمية، عندما كانت الحوزة في مراحل ازهارها، يدرس في السنة الثالثة من الجامعة في الدراسة الأكاديمية. لذلك كان الأفذاذ والعظماء.

الميزان العلمي في النقد والتحقيق:   

فالنقد والبحث لا يبنى على الآراء الشخصية والذوقية، لأنك ترى شيئاً يرى غيرُك خلافَه، والعكس بالعكس، إنما يُبنى على موازين علمية دقيقة، فلو كان لكل إنسان رأي في كل شأن من شؤون الحياة، لما كان للحياة أن تستقيم.

وقد قد يسأل سائل: ما هو الدافع الرئيس والمحرك الذي يكمن وراء هذه الحالة من محاولات الانفراد بالآراء والتشبث بها؟ الجواب: إنه الغرور. فعندما يعيش الإنسان مساحة الغرور، أو يستحوذ الغرور على عقليته يصبح الآخر في نظره لا شيء. والحال أنك اليوم لا يمكنك أن تلغي أحداً، لأن الجميع يمتلكون عقولاً، والكثير منها نيرة راشدة، تقرأ كما تقرأ أنت، وتتصفح كما تتصفح، وتتابع كما تتابع، وتمايز بين الأشباه والأغيار، نعم، هنالك تفاوت، لكن ذلك لا يعطي المبرر ولا المسوغ لي ولا لغيري أن نلغي الآخر، إنما بقدر ما يريد أن يعطى المساحة والقدر الكافي من الاحترام في حركة عقله، عليه أن يمنح هذه المساحة للآخر، كي يحصل التقارب لا التنابذ، والتعاون لا الصراع، والمحبة لا العداوة في نهاية المطاف، فنحن كثيراً ما نبدأ بمسألة بسيطة على بساط الحب والود، لكنها سرعان ما تتحول إلى جذوة من نار يصطلي بها الطرفان والعياذ بالله. والحق لم يتعدد في يوم من الأيام، فهو إما في هذا الطرف أو ذاك، فإن كان الحق معي فنعمت القضية، وإلا فعليّ أن أتواضع وألقي القياد، ولا يمنع من يتحرك في يوم ما في مربعات معينة، أن يتراجع فيتوقف في مربع آخر يجد فيه الحق والصواب، فالتصحيح أولى من السير بغير هدىً والتخبط الأعمى.

من هنا لا بد أن يجد مفهوم نظرة الإسلام للحياة مساحته في أوساطنا، وهي نظرة التسامح والمحبة والنورانية والعلم والمعرفة، وهي التي سادت العصور السابقة، ولا بد أن تكون حاضرة اليوم لتعطينا التجدد والتمدد، أما إراقة الدماء وإقامة الدول الجائرة كما يراد لها أن تقام، كما في (الدولة الإسلامية) المزعومة، ولا أدري أي دولة إسلامية تلك؟ هل هي التي تنحر الطفل أمام أعين الناس؟ ومع شديد الأسف، نجد أن هناك قنوات فضائية معروفة تسميها بكل وقاحة وقلة أدب: (الدولة الإسلامية). وقد رأيتم المشهد المروع الذي يذبح فيه الطفل الفلسطيني بمرأى ومسمع من العالم بدم بارد.              

لقد قامت انتفاضة عارمة في فلسطين كادت أن تطيح باليهود يوم قتل الطفل الشهيد محمد الدرة في حضن والده، لكننا لا نجد ردة فعل مماثلة لما حصل مع هذا الطفل الذي ذبح بطريقة أبشع بكثير من تلك! فهل هذه قيمتنا كعرب وأمة إسلامية؟ إذا كان هذا هو شأننا فلننتظر القادم الأسوأ.

حرمة دماء المسلمين:

إن هذه الأمور ليست جديدة، إنما هي قديمة، لأن الأمة ابتعدت عن رقابة السماء عليها. وهؤلاء الدواعش الذين يدعون لإقامة (دولة إسلامية) على أساس إراقة الدماء، وهتك الأعراض، ونهب الأموال، وحرق الأرض، لا يعيشون رقابة الله عليهم. يقول تعالى: ﴿وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُوْنَ مُحِيْطٌ﴾([4])، ويقول عز وجل: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ﴾([5])، فما من حركة ولا فعل إلا وهو مدوّن يكتبه كرام كاتبون.

عن أحد الصادقين عليهما السلام، قال: «أُتي رسول الله (ص) فقيل: قتيل في مسجد جهينة. فقام رسول الله يمشي حتى انتهى إلى مسجدهم. قال: وتسامع الناس فأتوه (ع) فقال: من قتل هذا؟ فقالوا: يا رسول الله (ص) ما ندري من قتله. فقال: قتيل من المسلمين، بين ظَهراني المسلمين، لا يُدرى من قتله؟ والله الذي بعثني بالحق، لو أن أهل السماوات والأرض شركوا في دم مسلم، أو رضوا به، لأكبهم الله على مناخرهم في النار. أو قال: على وجوههم»([6]).

انظروا إلى مدى المسؤولية التي يتحملها المسلمون في قتل مسلم، فليس القاتل وحده مجرماً، إنما الساكت أيضاً، ومن لا يحرك ساكناً، ولا يلامس وتراً من أوتار ضميره، هؤلاء لا يقلون بشاعة في الإجرام عن القاتل.

إننا اليوم لا نجد شخصاً واحداً يقتل، إنما نرى جماعات وجماعات، وليس القاتل أو المقتول من المسلمين فحسب، فهذه الطائرات الأجنبية اليوم تقصف المسلمين بلا تمييز.

نسأل الله سبحانه وتعالى العفو والرحمة والسداد والأمن والاطمئنان ودفع البلاء عنا. اللهم اشغل أعداء الإسلام بأنفسهم أينما كانوا، فالمؤامرة كبيرة علينا نحن المسلمين، والمسلمون نائمون.

وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.