نص خطبة:المسجد بين تأسيس الإسلام و نظرة المسلمين اليوم

نص خطبة:المسجد بين تأسيس الإسلام و نظرة المسلمين اليوم

عدد الزوار: 3675

2019-04-03

الجمعة 1440/7/22هـ - 2019/3/29م

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وآله الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصةً لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

في الحديث الشريف عن النبي الأعظم (ص): « من أفضل أيامكم يوم الجمعة... فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ»([2]).

عمارة المسجد في الإسلام:

وفي الحديث الشريف: «من بنى مسجداً لله، بنى الله له في الجنة مثله»([3]).

للمسجد بين المسلمين خصوصية يعيشها المسلمون فيما بينهم. فأول مسجد في المدينة وضع قواعده النبي الأعظم (ص) هو مسجد قُبا، ثم بنى مسجده الشريف. ومن هنا بدأ المسجد يأخذ موقعيته في وسط أبناء الأمة المسلمة.

وللمسجد عمارتان: عمارة مادية، وأخرى معنوية. وفي كل منهما أجر، فالذين يعمرون مساجد الله في كلا البعدين، لهم من الخصوصية ما لهم، حتى أن القرآن الكريم خصصهم ببعض المكرمات. قال تعالى: ﴿إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى‏ أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدينَ﴾([4]). إذن هنالك إيمان بالله، وتسليم لله فيما يتعلق بأصل التوحيد، وهو الأساس في بناء إيمان الإنسان المسلم، وكذا الإيمان باليوم الآخر، لما له من الخصوصيات، لأن الإنسان إذا ما وضع نصب عينيه ما في العالم الآخر من الخصوصيات، انضبطت جميع تصرفاته القولية والفعلية.

ثم إقامة الصلاة، وهي عمود الدين، ومعراج المؤمن، والواسطة بين العبد وربه. وهي لا تقاس بطولها وقصرها، إنما تقاس بما تولده في داخل الإنسان من حالة النورانية الخاصة، التي ينسلّ منها ذلكم الخيط النوراني، حتى ترتقي وترتفع به إلى عوالم الغيب، حيث العرش.

وكذلك إيتاء الزكاة، ففيه إشارة واضحة بينة لما للبعد المالي من أثر في بناء المجتمعات، كأحسن ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع، من تقدم ورقي وسعادة وكمال وثراء ورفاهية، فبغير المال لا يصل الإنسان إلى هدف، والقرآن صريح في ذلك حيث يقول: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيْبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾([5]). فالدنيا حق لي ولك وللآخر ما دمنا درجنا على هذا الكوكب، فعليك أن تأخذ نصيبك دون تعدٍّ على الآخرين، وقتها تعيش السعادة، ومن يعيش من حولك سيناله الكثير من ذلك أيضاً.

ثم قالت الآية الكريمة: ﴿وَلَمْ يَخْشَ إِلّا اللهَ﴾، وهذه التربية في الارتباط بالله، وأن لا يرى الإنسان إلا ما يكون في دائرة المطلق، خصوصية لا يصل إليها إلا الأولياء بعد مجاهدة كبيرة مع النفس.

فالباعث للمسجد هو الشوق إلى الله تعالى، والحضور في دائرة المطلق من خلال واحد من بيوته يفتح أمام الإنسان الكثير من المسارات التي على أساسها يشخص ويعيّن وينطلق، وهذا أمر مهم جداً.

ثم يقول تعالى: ﴿فَعَسَى‏ أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدينَ﴾، فبعد تلك المسيرة الطويلة بين الإنسان ونفسه، ثم بينه وبين ربه، ثم الرجوع إلى عوالم الغيب في النفس، ومن النفس إلى النفس، ثم إلى الناس، مسارات تتواصل فيما بينها فيرشد الإنسان المسلم، بناء على الضوابط والقواعد الأساس، من آية محكمة، أو رواية صحيحة عن محمد وآل محمد.

وللمساجد خصوصية عند الله تعالى، حددها وسيّجها، ولا يمكن أن نتجاوز تلك الحدود وذلك السياج. قال تعالى: ﴿وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلَا تَدْعُوْا مَعَ اللهِ أَحَدَاً﴾([6]). وللأسف، أصبحت الدنيا اليوم بشكل آخر، ولم نرعَ قوله تعالى: ﴿فَلَا تَدْعُوْا مَعَ اللهِ أَحَدَاً﴾، وصار المسجد باسم فلان أو فلان، حال أن المساجد بيوت الله في الأرض، والمسلمون فيها شركاء، وعندما انقسم الصفّ، وأصبح هذا المسجد لهذه الطائفة السنية، وذاك لتلك الطائفة الشيعية، ضاعت الأمة، فالمسجد لا يقيَّد بطائفة، ولا بباذل فيه، ولا بمؤسس له، ولا بإمام يؤم الجماعة فيه، وإنما جميع المسلمين شركاء في أي مسجد يقام في مشارق الأرض ومغاربها.

فالمسجد موطن العبادة الأول في الإسلام، من مكة إلى المدينة، ثم تشعبت البلدان وتعددت المساجد فيها.

والقرآن الكريم يحرك فينا واقعاً مفروضاً علينا كمسلمين، في أي بلد كان يعيش حالة من التعدد المذهبي، فيقول: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ‏ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فيهَا اسْمُهُ وَسَعَى‏ في‏ خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلّا خائِفينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظيمٌ﴾([7]). فالخراب يشمل التخريب المادي المباشر من الهدم والتكسير وعدم رعاية النظافة وغير ذلك. كما يشمل قطع الطرق، ومنع المؤمنين من إقامة الصلاة والحضور في جماعتها في أي مكان كان. فهذا خراب أيضاً، وتشويه لصورة المسجد التي ينبغي أن تكون شاخصة أمام نواظر جميع الناس.

فمن يسعى في خراب المساجد، صغرت أو كبرت، لا يدخلها إلا خائفاً، لأنه مصنَّف على الأعداء، فليس من حقه أساساً أن يدخلها، لأنه يسعى للخراب، إنما يدخلها من يسعى لعمارتها. وعمارة المسجد تكون ولو بصلاة ركعتين فيها، أو تلاوة القرآن فيها، أو الدعاء والتسبيح والتهليل فيها، أو بالصلاة على محمد وآل محمد فيها.

ثم يقول تعالى: ﴿ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظيمٌ﴾ وبذلك خسروا الدنيا والآخرة، وهذا هو الخسران المبين.

قدسية المسجد وأهميته:

والمساجد أحب البقاع إلى الله تعالى، وهنالك اليوم عزوف عام عن المساجد لدى الفريقين، الخاصة والعامة، وإن كنت لا أرغب بهذا التوصيف والتقسيم، وكم هو ثقيل على نفسي، لكنه واقع نعيشه، فأذكره من باب أنه موجود، لا من باب القناعة بالموجود.

فالمساجد أحب البقاع إلى الله، لأنها:

1 ـ فيها مصداق الإقرار لله بالعبودية حال التوجه للصلاة والسجود والخشوع لله سبحانه وتعالى، وهو عروج خاص لا يشعر به إلا من يلتفت لما للسجود من قيمة وأثر على المكون الروحي الداخلي.

2 ـ منها ترتفع أصوات الداعين الله سبحانه وتعالى، وبسبب ذلك يستجاب الدعاء. فمن يدعو مفرداً قد لا يكون مؤهلاً لنظرة اللطف من قبل المطلق له، ولكن الآخر قد يكون أكثر أهلية منه لذلك، فيستجاب للجميع بسبب داعٍ واحد، مؤمناً كان أم مؤمنةً. وهذه من النعم الكبرى التي يهيئها المسجد للمؤمنين.

ومن هنا يمكن لمن لا يستطيع الصلاة في المسجد جماعةً، أن يصلي بأهل بيته، فقد تكون المرأة أو الولد أقرب إلى الله تعالى منه، فيتقدم للصلاة بهم، ويروضهم عليها، ويغرس هذه البذرة الطيبة في نفوسهم، ليرى بعد ذلك كم هي البركة غزيرة. لكن الصورة اليوم مقلوبة للأسف، فتجد رب الأسرة غاية ما يقوم به أن ينهض لصلاة الفجر، دون أن يكترث بأهل بيته وأبنائه. حال أنه راعٍ، ومسؤول عن رعيته.

3 ـ المساجد مواطن نزول الرحمة الإلهية، في العالمين الدنيوي والأخروي، فزادنا اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل، فمن عمل هنا صالحاً نال الجزاء الأوفى هناك. قال تعالى في شأن زكريا (ع): ﴿فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ‏ يُصَلِّي‏ فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى‏ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحينَ﴾([8]). فهذه البشرى والرحمة الإلهية جاءته من ربه وهو قائم يصلي في المحراب، وهو عنوان خاص لبيت من بيوت الله تعالى.

لقد أكدت الشريعة المقدسة تعظيم المساجد وتقديسها والحفاظ عليها، وتعظيمها من تعظيم الشعائر. قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ‏ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾([9]). وهذه قراءة للشعائر قد لا يلتفت إليها بعضنا، لأن قراءتنا أحياناً ناقصة، فلا نرى تعظيم الشعائر إلا في حدود بعض الطقوس التي نمارسها بخصوص بعض المناسبات، حال أن المسجد هو المنطلق والأساس والحجر الذي ارتفع على أساسه بناء الإسلام، وثُبّتت قواعده وأصلت أصوله، على يدي النبي الأعظم محمد (ص).

ضرورة رعاية حرمة المسجد:

ونسأل: من هم رواد المساجد؟ قد أجيب بلون من الجواب، أو تجيب هي بلون آخر من الجواب، ولكن أصدق الحديث ما جاء عن الله تعالى في كتابه المنزل على النبي المرسل: ﴿في‏ بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ‏ أَنْ‏ تُرْفَعَ‏ وَيُذْكَرَ فيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصال‏ ~ رِجالٌ‏ لا تُلْهيهِمْ‏ تِجارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيْتَاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ﴾([10]).

فلننظر لحالنا اليوم، إذ أصبحت تُلهينا التجارة والبيع عن ذكر الله، بل تبادل الرسائل في الجوّال ونحن تحت سقف المسجد. وكذلك الأحاديث التي لا طائل من ورائها، وننسى أننا في محضر الله تعالى، وأننا نقدم القرابين العبادية بين يدي الله تعالى في زمن لا يتجاوز الدقائق المعدودة.

فالمسجد محل عبادة ووصول، ولا ينبغي التنصل من المسؤولية تجاهه، فالجميع معنيّ باحترامه وأداء حقه، فهو ليس محلاً لتبادل أطراف الحديث أو غير ذلك، ومن أراد أن يتبادل أطراف الحديث ففي الجوامع والمساجد مكاتبُ مفتوحة ومهيأة وفيها ما لذ وطاب، والخدمة في أفضل المستويات. فمن شاء أن يقضي وقتاً خاصاً للحديث أو غيره فليأت تلك المكاتب، ويترك للمسجد حرمته وخصوصيته العبادية.

ولا يفوتني هنا أن أقدم شكري لمن رسموا هذه اللوحة الجميلة لهذا الجامع، وجعلوا منها لوحةً يرغب الآخر في استنساخها، فأنتم أهلها، وأنتم الذين نقشتموها، ورفعتموها عالية، فلا تسمحوا لها بالتشوه والضياع، وبيدنا نحن. فلا مجال هنا للمجاملة على أساس الصداقة أو القرابة، فنحن جميعاً نأتي إلى الجامع للصلاة والتعبد، والمسؤولية تقع على عاتق الجميع، فلا تسمحوا بخسارتنا لهذه الصورة الجميلة واللوحة الرائعة، ولا تسمحوا أن يخسرها المشهد المجتمعي بشكل عام، لأنني إذا خرجت من هذا المسجد، ودخلت مكاناً آخر، وسمعت ما يقال بحقه، من أنه في أحسن حالاته، فلا شك أنني أشعر بالسعادة لأن لي يداً وحظاً في رسم هذه الصورة الجميلة، وأعنيك أنتَ وأنتِ، وجميع من له يد ودور في ذلك.

فحق المسجد علينا الاشتغال بالعبادة فيه، وهل فُتحت المساجد إلا لهذا الأمر؟ فلماذا نشغله بما ليس من شأنه؟

إنني هنا لا أعنيكم أنتم، بل أؤكد شكري وتقديري لكم جميعاً، ووالله لولا الوقفة التي وقفتموها من حيث الحفاظ على هدوء الجامع ونظافته وتطوير مساحاته وأركانه، لما وصلنا إلى هذه اللوحة الجميلة التي نُحسد عليها، ولولا هذه الصورة الجميلة لما جاء الأعزة من هنا أو هناك، ولما تجشموا عناء الوصول إلى هنا، ونحن نتشرف بخدمتكم.

إن الإسهام بعمارة المساجد أمر مهم وضروري، وكلٌّ بحسبه، وقدر استطاعته، فلا أقل من الهدوء في المسجد، وعدم الضجيج، وكذلك في بيت الله، أمام الكعبة المشرفة، وعند مقام إبراهيم (ع) وحرم النبي الأعظم (ص). فعلى المسلم أن يكون سفيراً لكتاب الله، ولمحمد بن عبد الله (ص).

وكذلك أخذ الزينة عند الذهاب لكل مسجد. قال تعالى: ﴿يا بَني‏ آدَمَ خُذُوا زينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِ‏ مَسْجِد﴾([11])، والحمد لله أننا نرى ذلك ونلمسه، ولكن من باب التأكيد، كي لا نفتر ونتراجع، فتحقيق الانتصارات في الحياة اليومية ربما يكون سهلاً، إلا أن الحفاظ عليها هو الأهم والأصعب، والاستمرار في النجاح أهم من النجاح.

يقول الحديث الشريف عن النبي محمد (ص): « من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربَنَّ مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم»([12]).

أما النهي عن البيع والشراء في المساجد، فيقول الحديث الشريف: «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك»([13]).

فالمسجد بيت الله وليس بيتي أو بيتك، ولا هو مكتب للعقار أو التجارة، أو البيع والشراء.

وللمسجد دور في التكافل الاجتماعي، إذ يمكن أن تقع الغفلة والنسيان عن الأخ أو الصديق أو القريب خارج المسجد، ولكن في المسجد يجتمع هؤلاء، فيلتفت بعضهم لبعض.

وحسب الدراسات والإحصاءات الحديثة، لا تمر دقيقة واحدة في هذا الكوكب، دون أن يُرفع فيها نداء: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

كما يوجد في جميع أنحاء العالم ثلاثة ملايين وستمئة ألف مسجد، بمعدل مسجد واحد لكل 500 مسلم. وفي بلادنا العزيزة وحدها ـ التي تبلغ 30 مليون نسمة ـ أربعة وتسعون ألف مسجد. وهذه إحصائية حديثة في سنة 2019 م أعدتها شركة الخدمات المهنية والاستشارية، مع مركز تطوير الاقتصاد الإسلامي في دبي.

فما هو انعكاس هذه الكثرة من المساجد على مسيرتنا؟ لقد كان المسجد قبل ألف ومئتي سنة عبارة عن جامعة تضيء العالم بالعلوم والمعارف، فهل هي كالأمس؟

وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.