نص خطبة:المثالية بين الواقع والخيال (2)

نص خطبة:المثالية بين الواقع والخيال (2)

عدد الزوار: 2138

2016-02-22

الجمعة 10 / 5 / 1437 هـ 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

﴿قُلْ سيْرُوْا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوْا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلُ كَانِ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِيْنَ ~ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لَلدِّيْنِ القَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُوْنَ ~ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحَاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُوْنَ﴾([2]).

المثالية الذاتية:

كان الحديث فيما مضى حول مجموعة من النظريات التي بنى عليها أرباب المعسكر الشرقي والغربي منهجهم في الحياة. وسيكون حديثنا استتباعاً لما مضى من الكلام في المذهب الثاني من مذاهب المثالية، وهو مذهب له أنصاره وأعوانه، وبدأت امتداداته في الآونة الأخير تتسلل إلى بعض الأروقة المحسوبة على الدين.

فالمثالية الذاتية هي مذهب (فلسفة الأنا) وقد سبق قبل سنوات أن تحدثت عما تعنيه مفردة (الأنا) وأشبعت الموضوع بحثاً آنذاك. فهذا المذهب يبني نظريته على أساس من جعل الـمُثُل مبدأ الوجود وذاتيته، حيث تُردّ حقيقة العالم الخارجي الذي نعيشه نحن كتشخصات إلى التمثلات الفردية، فهذا الوجود من ذرته إلى مجرته، بما فيه، لا يتعدى تلك (الأنا) المأسورة فيّ أنا وأنت وهو، ولا يشغل أكثر من هذه المساحة، بل الأكثر من ذلك أنه في دائرة الصور المبهمة ليس إلا.

المثالية المادية:

ثم وجد أرباب هذه المدرسة فيما بعد أنهم يصطدمون مع الكثير من الحقائق التي يلمسونها لمس اليد، فجاءت المثالية المادية على أنقاض المذهب الذي سلفت الإشارة له.

وقد طربت النفوس أيضاً للمدرسة المادية، وظنوا أن الخلل في المذهب الأَنَوي قد تم تجاوزه، لكن الحقيقة على خلاف ذلك تماماً، فما تقدموا به من خطوات قد أرجعهم إلى المربع الأول. فما الذي يقوله هذا المذهب في تعريف حدود مدرسته؟

إنه ينفي وجود الحقيقة الخارجية بالمطلق! فلا شيء له وجود في الخارج بالمطلق، ويعتبر أن الوجودات المادية كالجبال والنخيل والبحار وغيرها، لا وجود لها في الواقع، فأنا في نظره لا حقيقة لي تشغل هذه المساحة التي أشغلها، من حيث بنائي المادي كإنسان! ونحن الآن في هذا الجامع لا وجود حقيقياً لنا! وكل ذلك خيال لا أساس له. فكل ما يجري هو عبارة عن (صور متتالية) في نظرهم .

والسؤال هنا: هل هذه الصور لخيال أو لوجود حقيقي؟ فالخيال يفترض أنه لا شيء، فهل يمكن أن يعكس شيئاً؟ وأي شيء اصطدمت به هذه الصورة بحيث نقلت تشخُّصاً خارجياً؟

لذا يستغرب بعض أرباب الفلسفة الإسلامية، من بعض عمالقة الفكر في الغرب أنهم يخضعون لمثل هذه القراءات والاستنتاجات والنظريات التي يمكن لأصغر الناس من المسلمين أن يضع يده على موطن العطب فيها.

الحذر من الثقافات المشوهة:

أيها الأحبة الشباب: علينا أن لا ننخدع بأسماء الكتب التي تُستعرض هنا أو هناك. أو أسماء بعض من يُنعتون بعمالقة الفكر كما يُروَّج أو يسوق لهم في أوساطنا، فالمسلم متى ما رجع إلى هويته وانطلق على أساس مصادره فقد استثمر القوة الكامنة، ولكن عليه أن يقرأ النص كما أرادت له السماء أن يُقرأ، إن كان المقروء هو القرآن الكريم. وأن يقرأ السنة المطهرة للنبي وآله صلوات الله عليهم، كما أرادوا لها أن تُقرأ. أما أن نقرأ القرآن من خلال الاستعانة بتخديش هنا أو هناك، فهذا لا يستنطق النص، وإذا كان لم يخرج من المربع الأول وهو الاستنطاق فكيف يستنتج؟ وكيف يرتب الآثار. وهنا تكمن الإشكالية.

لذلك على النشء من شبابنا المسلم الطيب المعتدل الوسطي، أن يعيش القرآن كما هو، وأن يعيش السنة المطهرة كما هي، بأن يجمع بين المفاهيم المكتنزة في هذين المصدرين، ثم يحاول أن يفكّ الشفرات العالقة بها، فالشفرات ليست في داخل النص، إنما تولدت بسبب ابتعادنا عن المنابع الأصيلة الثرة، والجهود التي بذلها العلماء من أبناء الأمة الإسلامية من الفريقين، ولكن في دائرة الاعتدال، ففي عقيدتي أن التطرف لا يعرف مذهباً بعينه، فمتى ما وجد مساحة يشغلها تحرك من خلالها، لذلك تجد مسلك التضليل والتكفير، وربما حتى إباحة الدم لو أتيحت الفرصة لدى بعض الجهات، فربما تقوم بمثل تلك الأمور.

فمن قتل الشهيد المطهري لم يكن من خارج المذهب، إنما هو شيعي متطرف، والذين أجهزوا على السيد الشهيد الصدر (رضوان الله عليه) من خلال الوشاية به لم يكونوا من خارج المذهب، وإن كان رأس الهرم معروفاً، وعليه ما يستحق من لعائن الله. بل الأكثر من ذلك أن من قالوا للإمام الحسن: السلام عليك يا مُذلّ المؤمنين، لم يكونوا قد أتوا من أفريقيا أو من غيرها، إنما هم من شيعته من أهل الكوفة. وعلى ذلك قس ما سواه من شواهد التاريخ الغابر والتاريخ المعاصر، مما يضع يدك على المفردات.

المثالية النسبية:

وبالعودة لحديثنا عن المثالية المادية نقول: إنها ترى أن هذه الوجودات لا وجود حقيقياً لها في الخارج إنما هي في تمثلاتنا الذهنية فقط!

ثم إنهم لما وجدوا أنفسهم بين إفراط وتفريط، وأن أصل المدرسة سوف يذهب من بين أيديهم أدراج الرياح، طرحوا ما يسمى بالمثالية النسبية، وهي مطية لدى هؤلاء المفكرين، فمتى ما حُشروا في زاوية ضيقة طرحوا مفهوم النسبية في كل شيء، وهي محاولة للالتفاف على الحقائق من أجل الهروب بما يمكن أن يحتفظ به من المكاسب، وهذا المسار أيضاً ليس بدعاً ولا حكراً على أتباع المدارس المادية بشقيها الواقعي والمثالي، إنما هناك جمهرة من المسلمين تغرق في هذا الوحل، وتتنقل بين جنبات هذا المستنقع، لأنه استخدام للمفهوم في غير ما وضع له، وسوء تقدير ومعرفة في التعاطي مع أصل المفهوم، لذا تنتهي الأمور بهم إلى ما هم عليه.

لقد طرحت المثالية النسبية (أو المتعالية) لتقول: إن ما نعرفه عن العالم من دراسات ومحسوسات ما هو إلا مفاهيم وحدوس إنتاج فكري محض!. وهذا من العجائب.

يقول القرآن الكريم: ﴿وَفِيْ أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُوْنَ﴾([3])، أي أن السماء ترشدك للحقيقة.

إننا لا نجد شيئاً جديداً في عالم التنظير هذا، فكل ما نراه إنما هو عيال على المدرسة الفهلوية أو المدرسة اليونانية.

كان هنالك أحد العلماء الكبار في نيسابور. وقد زرتم إيران ونيسابور ورأيتم كيف أن الأحواض كبيرة في المدارس وأضرحة المعصومين، وكذلك في ضريح السيدة المعصومة (ع). فكان هذا العالم يريد أن يثبت لطلابه بالدليل أن ما أمامهم لا يعدو أن يكون صورة وخيالاً انطبع في الذهن عن حوض في الخارج، وليس هو كذلك في الحقيقة. وكان الجو في غاية البرودة، والثلوج تتساقط. فما كان من اثنين من طلابه إلا أن حملاه وقذفاه في وسط الحوض!.

إن المفردات الجميلة لدى هؤلاء يطرب لها البعض كثيراً إذا كان فيها شيء من الملامسة لأمور بعيدة عن منصرف الذهن، ولو أنه وقف على حقيقة المفردات لما وصلت الأمور إلى هذا الحد.

فالمثالية النسبية ما هي إلا محاولة من هؤلاء أن يجدوا نقطة التقاء تذلَّل على أساسها الكثير من الصعاب، وهذا ما نعيشه اليوم عندما يصطدم البعض بفكر ضحل ويشعر أنه حشر في الزاوية الضيقة، فيلتمس الطرق كي يتخلص مما هو فيه، وهذا موجود في المدارس الفكرية سواء كانت محسوبة على الإسلام أم خارج دائرته.

المثالية المطلقة (الهيغلية):

ثم إنهم لما وجدوا أنفسهم في ضائقة اختاروا لهم ملاذاً جديداً. فالإنسان قد يدخل أحياناً في منهج معين، إلا أنه عندما يجد أن الخسائر أصبحت كبيرة جداً، وما عاد يجمع من حوله مكاسب، تحصل حالة من التمرد الداخلي، فينتج عنه فريق أو حزب أو جماعة أو تكتل. وبهذا خرجت جماعة من داخل المذهب النسبي، الذي يفترض أن يكون نسبياً توافقياً بين الواقعي والمثالي، فكانت (المثالية المطلقة). فرأوا عدم إضافتهم إلى أي أمر معين، وأن يبقوا في حدود المثل المطلقة، دون أي سؤال عن حيثيات تلك المثل. وهذه من مصائب الفكر وكوارثه أيضاً.

ومع شديد الأسف أصبحنا اليوم نأخذ بسفاسف الأمور من حيث لا نشعر، ونندفع في اتجاهات يفترض أن نضع عليها منذ الوهلة الأولى خطين متقاطعين، لأننا ما عدنا من الذين لا يقرأون ولا يتدبرون ولا يتبصرون أمورهم ولا يستعينون بالأخرين من حولهم، وإن وجد من لا يحمل تلك المقومات اليوم فعليه أن يراجع نفسه، ليجد أنه لا بد أن يقرأ ويستنطق ويستعين بالآخرين، فلا أحد يستطيع اليوم أن يدّعي لنفسه كل شيء. قال الشاعر:

وقل لمن يدعي في العلم فلسفةً   علمت شيئاً وغابت عنك أشياءُ

كان زعيم المثالية المطلقة (فريدريش هيغل) وقد امتحن الله به البشر. ورحم الله الإمام السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) الذي أتى إلى هذا الهيكل الذي يرى فيه الحداثيون والماركسيون والشيوعيون وأتباع هذه المدارس هرماً شامخاً، فتلاعب به كدمية، وبعثر جميع أوراقه وهو يحرك قلمه بأنامله.

يقول السيد الإمام (قدس سره): جاء الوقت الذي تُرمى فيه نظرياته في قمامة التاريخ. ومع شديد الأسف، ما زال هناك إلى اليوم من يلهث وراء هيغل.

هذا المذهب الهيغلي يمازج بين الـمُثُل والواقعية، فهو لا يذهب إلى المثل العالية مباشرة، إنما ينظر إلى الواقع، بمعنى أن كل ما كان عقلياً يدركه العقل فهو واقعي، وإلا فلا واقعية له. ومن لوازم ذلك أن الله شبحانه وتعالى لا واقع له! والعياذ بالله.

ولكن لو سألنا أصحاب هذا الاتجاه: هل أن الكهرباء يدركها العقل؟ إنها طاقة مفيدة وقاتلة في الوقت نفسه، ولكن هل من يدرك العقل حقيقتها؟ أو أننا ندرك خطرها من خلال آثارها الدالة عليها، وهي آثار خارجية؟

الاعتصام بالقرآن والسنة:

أيها الأحبة: وسط هذه الرؤى والنظريات ماذا يجب علينا أن نفعل؟ أقول: إن الملاذ الأول والركن الركين الذي نعتصم به هو القرآن الكريم، وهو هذا الكتاب ما بين الدفتين، الذي يقرؤه المسلمون جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها ليلاً ونهاراً، في صلواتهم وفرائضهم التي توجب قراءة القرآن، وكذلك في نوافلهم، وفي ما هو أعم من ذلك، بلا زيادة حرف ولا نقيصة، وهو القرآن المنزل على قلب الحبيب المصطفى محمد (ص).

فالأمر الأول من خطة العمل التي يفترض أن نرسمها ونسير وفقها هو اعتماد المنهج القرآني والهدي المحمدي أساساً للأمة، فلا يمكن أن ننفرد بالقرآن وندّعي أنه وحده يكفينا، فهو حمّالٌ ذو وجوه كما يقول المولى علي (ع) ولكن ينبغي أن نستعين على معرفته بالهدي، وهو عبارة عن السنة المطهرة التي جاء بها النبي الأعظم محمد (ص) تبياناً لما تضمنه القرآن الكريم من كل شيء. والمذاهب العامة تقف عند هذا الحد، أما المدرسة الخاصة، مدرسة أهل البيت (ع) فترى أن السنة أخذت استمراريتها حتى الغيبة الكبرى للخلف الباقي (عج) فما صدر عن الأئمة (ع) يشكل جزءاً من السنة المطهرة هي عين السنة الصادرة عن النبي محمد (ص).

فليس المهم للمسلم أن يُكثر من نُسخ القرآن الكريم في المنزل، وإن كان ذلك بركة وحفظاً بلا كلام، والنظر إلى كتاب الله فيه أجر عظيم، ولكن الأهم هو أن يقرأ ويتدبر؟. كما لا يكفي أن أضع في البيت مجموعة من الأحاديث المطوية في طيات الكتب، وأباشرها بالنظر المادي حين دخولي وخروجي، ما لم أتصفح وأقرأ وأقف وأضع علامات وأراجع، وربما كانت هناك مفردة لا أستطيع فهمها فأستعين بذوي الاختصاص في هذا الجانب لكي أصل إلى الهدف.

رعاية الأحكام الشرعية:

والأمر الثاني هو تطبيق الأحكام والقوانين الدينية في مشارب الحياة، فتقليد مرجع معين، مع مخالفة الأحكام الصادرة عنه لا يعدّ تقليداً. فإن قال في المسألة المعينة: يجب ذلك، فلا بد أن أؤدي العمل الذي أفتى بوجوبه. وإن قال: هذا حرام، لا بد أن أقف عند حدّ الحرام. لا في الأمور العبادية، ولكن في الأمور المعاملاتية أيضاً. لا أن يكون المبدأ في حياتي هو البراغماتية.

إننا نجد البعض أحياناً يدخل في متاهات مع محيطه حول مسألة التقليد، لكنه لا يستحضر مسألة شرعية واحدة من مسائل المرجع الذي يقلده. فهو ينطلق من عصبية جاهلية عمياء. تجده أحياناً لا يدرك أي طرفيه أطول لكنه يشتبك مع هذا، ويختصم مع ذاك، ويتقاطع مع ذلك، من أجل المرجعية. فهل أن المرجع جعله وكيلاً عنه في ذلك؟.

فمن المعروف أن أولى الناس بالمرجع هم الوكلاء، فهل رأيتم وكيلاً قال: إن المرجع أناط بي مسؤولية الترويج لمرجعيته؟ ناهيك عن الدفاع عن قضايا هنا وهناك.

إن مرجعيتنا طاهرة نقية طيبة صادقة ملتزمة عصامية في كثير من الأمور، فعلينا أن لا نتاجر بها، ولا نطعن من خلالها الآخر.

فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

والأمر الثالث هو النهوض بمسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسط الأمة، فمسألة أن هذا الأمر بعيد عنا فلا يعنينا، باعتبار أنه في البيت الفلاني أو القرية الفلانية أو الاستراحة الفلانية خلاف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأنت معنيٌّ بهذا كله، فالقرية قريتك، والأسرة الفلانية أهلك، والاستراحة استراحتك. فلا تقل: إن هذا لا يعنيني. فالمسلمون في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

إن الفساد إنما يكبر وينتشر، ويشمل جميع نواحي الأرض لغياب مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾([4]).

قد يقول البعض: إن هنالك حوزة ورجال دين كثيرين، معنيين بذلك، وها نحن نتكفل شؤونهم! وهذا باطل لأمرين، أحدهما أن وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية الجميع، وهو فريضة على كل مسلم. والأمر الآخر أني لا أعرف أحداً من رجال المال أو غيرهم، تكفل بشؤون رجل دين واحد، من خلال راتب ثابت، ومن أثبت لي ذلك دفعت له كل ما أنفقه عليه. فلا يمنَنّ أحد على أحد. فالمنة على رجال الدين للخلف الباقي (عج) لأنه نصب مراجع، وهم الذين يؤمّنون هذه الزاوية.

إن البعض ممن يتناول الموضوع بهذا الشكل لا يعنيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقدر ما يعنيه الإجهاز على مشروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كي تخلو له الساحة.

قبل خمس سنوات قلت: إن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من النعم الموجودة في هذا البلد، أما التجاوزات هنا وهناك فمسؤول عنها من يتجاوز حدوده ويتخطاها. فالدول التي ليس فيها هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلغ بها الفساد إلى مرحلة العلن مع أنها دول إسلامية، فالخمور والفجور تُسوَّق بأبخس الأثمان، أما نحن فلا شيء من ذلك ولله الحمد، ولولا هذا الجهاز لتفشّى الأمر، لأن الناس ليسوا بمعصومين، ومن يطلب الحرام في بعض الدول المجاورة والبعيدة، لو تسنّى له أن يطلبه في بلاده لما توقف، وربما سعى في ترويجه. نعم، نحن لسنا مع التجاوزات، من أي جهاز كانت. فالوزارات والهيئات والتشكيلات هي مسؤوليات وُضعت في حد ذاتها لتأمين الخدمة والأمن والسلامة وغيرها، ولا يعني التصرف السيئ لأحد أصحاب الحسبة أن المشروع برمته يكون فاسداً.

إننا مسؤولون جميعاً عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن عرف مثلاً أن هناك بؤرة فاسدة فمسؤوليته الشرعية أن يبلغ عنها الجهات المختصة، فالتستر على الجرائم شراكة في الجريمة، سواء كان في ملف أمني أم اجتماعي أم غيره. ومن كانت لديه أي شبهة أو ريب أو شك أو تردد في حركة مشبوهة من شخص أو سيارة فإن المسؤولية الشرعية تقتضي إبلاغ الجهات المختصة. وكذلك أي انحرافات سلوكية تعصف بمحلات أو استراحات أو مزارع فلا بد من الإبلاغ. فالوطن للجميع، ومسؤوليته تقع على عاتق الجميع.

ومن الملاحظ هنا أن أكثر الذين يتناولون المسارات الدينية هم من الذين يريدون التخلص من الدين برمته، ويخرجون من هذه الهوية، لكنهم يخشون ذلك في العلن، لأن في مجتمعنا قوة عاصمة رادعة قوية جداً، فأقل انحرافة من أحد لا تقبل منه حتى يعود.

نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.