نص خطبة:المبادئ المستمدة من ذكرى مولد إمام المتقين عليه السلام

نص خطبة:المبادئ المستمدة من ذكرى مولد إمام المتقين عليه السلام

عدد الزوار: 562

2013-05-27

انبثاق النور:

في الحديث الشريف: «يا علي أنت مني بمنزلة هرون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»([2]). وفي حديث آخر: «إن علياً منّي بمنزلة النور من النور»([3]).

بارك الله لنا ولكم ميلاد أمير المؤمنين (ع)، ورزقنا وإياكم شرف الوصول عاجلاً لأعتابه الطاهرة، وثبتنا وإياكم على الولاء الصادق لمحمد وآل محمد (ص).

تمر بنا اليوم ذكرى ميلاد الإمام علي (ع)، وهي ذكرى تكتنف بين جنباتها الكثير من المبادئ والقيم، ففي ذكرى المولد الشريف نستظل ونستنير ونتبرك ونتدبر ونتنور. فعلي (ع) تغريدةُ من يفقهُ ما تعني الإمامة، وأنشودة الأمم التي تحترم نفسها، والسورة التي تُرددها آناء الليل وأطراف النهار، الإنسانيةُ التي تقرأ في علي (ع) أنشودها.

لقد تفرّد علي (ع) وتقدم بتفرده، ولولا ما قَدّمَ لما تقدم. فهناك مقامات بين علي (ع) والسماء، لا يدركها، ولا يشخّص معناها إلا النبي الأعظم محمد (ص)، لذلك عندما نجتمع لإحياء مراسم الذكرى، فإنما ننطلق على أساس من مبدأ قرآني ثابت يعكسه قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوْبِ([4]).

والشعائر: جمع الشعيرة، وهي العلامة، وأصلها الأمر المرتبط بشيء كأنه من علائمه ومزاياه، فكأنّ الشعيرة تلازم الشيء ملازمة الشعار، وهو الثوب الملاصق للجسد.

وللشعيرة إسقاطان: الأول على الجانب المادي، والآخر على الجانب المعنوي.

ومن خلال ما تقدم من تأسيس في قراءة الخطاب، لا يمكن أن نستوحي المعطى والمراد من جوهرية المعنى، إلا بعد أن نسلط الضوء كما ينبغي على معطيات الجانب المادي.

فشأن علي (ع) شأن سائر البشر، من حيث إنه يتكون من روح وجسد، ولكن من حقي وحقك وحق الآخر أن يسأل: هل لذلك التكون المادي والروحي في عليّ (ع) خاصية ينفرد بها عن غيره من البشر، إلا من اختص بالتميز كالنبي محمد (ص)؟

الجواب: نعم، لأن المبدأ الأول الذي أشرقت على أساسه أنوار النبوة، ممثلةً بالنبي الأعظم (ص) وأنوار الإمامة المتمثلة بشخص علي (ع) إنما هو نور واحد. يقول النبي الأعظم (ص): «خُلقتُ أنا وعلي من نور واحد»([5]). ولك أن تسأل ما شئت عن خصائص ذلك النور.

ثم يأتي القالب الظاهري الذي تقلبت فيه تلك الأرواح المقدسة، ففي هذا القالب تجسدت كينونة بشرية، يجري عليها ما يجري على سائر البشر، من الصحة والسقم، والقوة والضعف، والتقلب في المراتب العُمْرية، من الشباب والكهولة ثم الشيخوخة  التي لا تصل بهم إلى أرذل العمر، فهذا ممتنع في حق محمد وآل محمد (ع).

تعظيم الشعائر:

 أيها الأخوة الأعزاء: إذا كان للآية منطوق له القابلية في السراية على مصاديق متكثرة، فإنّ المصداق الأقرب والأكثر قدرة على فرض الذات على مفهوم سيّال، هو إحياء الذكريات المتعلقة بمواليد وشهادات محمد وآل محمد (ع).

يقول الإمام الباقر (ع): «اجتمِعُوا وتذاكروا تحفَّ بكم الملائكة، رحم الله من أحيا أمرنا»([6]). فمراسمنا خارج حدود الدعوى أنها من مصاديق البدع، فنحن عندما نقيمها فإننا نلبي نداءً خالداً أسس له القرآن الكريم في تعظيم الشعائر، وبينته السنة المطهرة، كما في الحديث الذي أوردته عن الإمام الباقر (ع) في الاجتماع وإحياء الأمر.

فللاجتماع خصوصياته، ومنها أن نتداول فيما بيننا الأمور، ونتذاكر المقامات الخاصة بهم، أما أن ترفرف الملائكة على رؤوس الجمع الذي اجتمع لإحياء مناسباتهم، فهو اختيار السماء. وطوبى لمن صار مصداقاً للترحم عليه من قبل المعصوم (ع) حيث يقول: رحم الله من أحيا أمرنا.

إن الاجتماع في ذكرى مناسبات أهل البيت (ع) مطلب أساسي يحمل قيمة كبرى لا يمكن أن نفرِّط بها في أي حال من الأحوال، لأنها الهادية لطريق الحق، والمثبتة لعنصر الولاء، والمشخِّصة لعالم التكليف. ولكن لا بد من التذاكر، كما في منطوق النص. فإذا ما اجتمعنا في محافلنا ومنتدياتنا الصغيرة والكبيرة، فإن تلك المنتديات لا بد أن تعمر بالتذاكر، فإن لم تكن مستغرقة بذلك، فلا أقل أن نستحضرهم في بعض المواطن، ونخصص لهم جزءاً من الوقت. فكم هو جميل أن تشرف جلساتنا واستراحاتنا واجتماعاتنا بنصّ شريف صادر عن محمد وآل محمد (ص) في حق محمد وآل محمد (ص).

يقولون الإمام الصادق (ع) وهو يخاطب جمعاً من شيعته، ومنهم الفضيل: «تجلسون وتتحدثون؟ فقال: نعم، فقال (ع): إنّ تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا، فرحم الله من أحيا أمرنا. يا فضيل، من ذَكَرَنا، أو ذُكرنا عنده، ففاضت عيناه، ولو مثل جناح الذباب، غفر الله ذنوبه لو كانت مثل زبد البحر»([7]).

فكم هي قيمة المجلس الذي يحظى باستقطاع من المحبة في قلب الإمام الصادق (ع)؟!

وعن معتب مولى أبي عبد الله (ع) قال: سمعته يقول لداود بن سرحان: «يا داود، أبلغ مواليَّ عني السلام، وأني أقول: رحم الله عبداً اجتمع مع آخر فتذاكر أمرنا، فإنَّ ثالثهما ملك يستغفر لهما، وما اجتمع اثنان على ذكرنا إلا باهى الله تعالى بهما الملائكة، فإن اجتمعتم فاشتغلوا بالذكر، فإنّ في اجتماعكم ومذاكرتكم إحياءنا، وخير الناس بعدنا من ذاكر بأمرنا، ودعا إلى ذكرنا»([8]).

فكم هو جميل أن نتلقى سلاماً من ذات الإمام الصادق (ع) في عالم الخلد، ونحن نعيش في عالم الغيبة، إنها البركة التي لا تتناهى، شريطة أن تكون لها مساحة من قلوبنا ووجداننا وأرواحنا كي تثبت وتستقرّ.

والإمام علي (ع) وهو يتجلى لخواطرنا، ويتجسد أمام نواظرنا من خلال موروث غني وثريّ، يطلُّ علينا من عالم هو فيه، إلى عالم نتحرك نحن فيه. فكم من الجميل أن نعيش التصاقاً هو الأشد، لأن ما يحيط بنا ويدخلنا في دائرة التشكيك في معتقداتنا كثيرٌ، ولكن متى ما طهرت المواليد ـ وهي طاهرة ببركة الولاء لمحمد وآل محمد (ص) ـ وحسنت التربية، وهي المسؤولية الملقاة على عاتق الآباء والأمهات وأبناء المجتمع فيما بينهم بكل أطيافهم وألوانهم، حلّقنا في عالم النورانية الذي لا يستشرفه إلا من عاش محمداً وآل محمد (ع) قلباً وقالباً.

عن أم سلمة المؤمنة الصادقة قالت: سمعت رسول الله (ص) يقول: «ما اجتمع قوم يذكرون فضل علي بن أبي طالب، إلا هبطت عليهم ملائكة السماء حتى تحفَّ بهم، فإذا تفرقوا عرجت الملائكة إلى السماء، فيقول لهم الملائكة: إن نشَمُّ من رائحتكم ما لا نشَمُّه من الملائكة، فلم نرَ رائحةً أطيب منها. فيقولون: كنا عند قوم يذكرون محمداً وأهل بيته، فعَلِقَ فينا من ريحهم فتعطرنا، فيقولون: اهبطوا بنا إليهم، فيقولون: تفرقوا ومضى كل واحد منهم إلى منزله، فيقولون: اهبطوا بنا حتى نتعطر بذلك المكان»([9]).

فكم لكم ـ يا أتباع علي (ع)، ويا من تعيشون ولاءه، وتنصهرون في حبه ـ من مقام تتمناه الملائكة، فلا تغبطوا أحداً على شيء من الأجر، لأنكم موضوع الغبطة والحسد، فالغبطة ممن آمن، والحسد ممن خالف.

نور محمد (ص) وعلي (ع):

إنه عالم الأنوار والقدس واللطف، ذلك العالم الذي يتقلب فيه الملائكة، بل عالم قربٍ من المطلق أكثر من الإنسان بما هو إنسان، فما هذه الخاصية التي بات الملك يغبط أخاه الملك عليها؟!

أي نور ذلك النور؟! وأي بهاء ذلك البهاء؟! وأي عطر ذلك العطر؟! إنه عطر علي (ع) ونوره، وعلينا أن نقترب لنحاول استكشاف ما يعني ذلك النور. وبظني أننا لن نستطيع أن نهتدي سبيلاً موصلاً طال أم قصر، لاستكشاف حقيقة ذلك النور، ما لم نستعن بما له القدرة أن يوصلنا إلى تلك الحقيقة، ألا وهو النبي (ص) القائل: «أول ما خلق الله سبحانه وتعالى نوري، ابتدعه من نوره، واشتقه من جلال عظمته، فأقبل يطوف بالقدرة([10])، حتى وصل إلى جلال العظمة في ثمانين ألف سنة، ثم سجد لله تعظيماً. ففتق منه نور علي (ع)، فكان نوري محيطاً بالعظمة، ونور علي محيطاً بالقدرة. ثم خلق العرش واللوح والشمس وضوء النهار ونور الأبصار والعقل والمعرفة وأبصار العباد وأسماعهم وقلوبهم من نوري، ونوري مشتق من نوره، فنحن الأولون، ونحن الآخرون، ونحن السابقون، ونحن المسبحون ونحن الشافعون...»([11]).

فقد خلق الله علياً (ع) من نور النبي (ص) وهذه مراتب لا ينبغي أن يساوم أو يزايد عليها أحد من الناس، فالله تعالى لا يقاس به بشر، لأنه موجد البشر، وحقيقته معمّاة على البشر، فمن نور الله نور النبي (ص)، ومنه نور علي (ع)، وبعد أن تشكل عنصر النورانية في الحقيقة المحمدية والإشراق العلوي، انحلّت مجموعة من المكونات في هذا الكون.

هكذا هي الحقيقة العلوية والمحمدية.

ثم إن هذه الحقيقة تحتاج إلى مشير، متى ما أحدثنا الإشارة من خلاله انتقلنا إلى معطيات تلك الذات واستحضرناها، والمشير هنا هو الاسم، فللاسم قيمة كبرى تدلل على عظمة الإنسان نفسه.

فهل كان لاسم علي (ع) من الخاصية والعناية أكثر مما يمكن أن يعطي اللفظُ من دلالة على معناه؟ الجواب: نعم، لأن ذات علي (ع) ليست كسائر الذوات، فلا بد أن يكون الاسم الدال عليها له ارتباط بالمبدأ، فعليٌّ من العلوّ، والعلي الأعلى هو الله سبحانه وتعالى، وهو الذي اشتق لعلي (ع) من اسمه اسماً.

تقول فاطمة بنت أسد، أم الإمام (ع)، وهي المرأة المجهولة القدر، المتنكَّر لها من الكثير من الناس: «لما أردت أن أخرج هتف بي هاتف: يا فاطمة سميه علياً، فهو عليٌّ، والله العلي الأعلى، يقول: إني شققت اسمه من اسمي، وأدبته بأدبي، ووقفته على غامض علمي، وهو الذي يكسر الأصنام في بيتي، وهو الذي يؤذّن فوق ظهر بيتي، ويقدسني ويمجدني، فطوبى لمن أحبه وأطاعه، ووسيل لمن أبغضه وعصاه»([12]).

وتفنن المفسرون والمؤرخون والباحثون في مداليل مفردة (علي) فبين قائل يقول: إنه سمي بذلك لأنه كان أعلى الناس عِلماً بعد رسول الله محمد (ص) فهو عليّ في علمه، أي صاحب منزلة ومقام رفيع.

وقيل: إنما سمي بذلك لأنه علا كل من بارزه من المشركين، فكلنا يعلم أن سيف علي (ع) عندما يعلو رأس واحد من رجال الشرك الذين قاتلوا النبي (ص) في حياته، فإن النبي (ص) يعني فيما يعنيه الرفعة والعلو، لأن كلمة الله هي العليا، وعلي صنو محمد (ص).

وقيل: إنما سمي بذلك لأن له في الجنة داراً تعلو حتى تحاذي منازل الأنبياء. وقيل: بل سمي بذلك لأن زواجه في أعلى السماوات، ولم يتزوج أحد من الخلق في ذلك المكان إلا علي (ع).

وقيل: إنما سمي بعلي لأنه علا ظهر النبي محمد (ص) بقدميه. فهناك مكانان لا يجارَيان: أحدهما الرخامة الحمراء التي وطأها علي (ع) بعد الولادة بقدميه، وهي الموازية للبيت المعمور في السماء السابعة. والمكان الآخر الأكثر شرفاً ورفعة وسمواً، هو أكتاف النبي محمد (ص). ولم يعلُ أحدٌ ظهر نبيٍّ غير علي، وذلك عند حطّ الأصنام من فوق ظهر الكعبة.

هذا هو علي العظمة والقدس والكبرياء والعلم والجهاد والصبر والتواضع والمبادئ والقيم والتضحية والشهادة، وهو ينتظرنا جميعاً، وفي الدارين معاً. أما في هذه الدار فأن نمثل نماذج صغيرة تتحرك في الأرض، تشير بفعلها الطيب وقولها الطيب إلى محتدٍ وأساسٍ وأصلٍ تركن إليه، يتمثل بعلي (ع). وأما في الآخرة فطوبى لنا جميعاً، فعلي (ع) هو الذي يوقِّع صحائف أعمالنا، ويجتاز بنا على الصراط، ويشرع أمامنا أبواب الجنان، ويسقينا على الحوض بيده بتبريك من النبي محمد (ص).

إن الحديث عن علي (ع) وفضائله ومنزلته لا ينتهي، ولو أن الدنيا برمتها أقيمت احتفاءً به لما وفته حقه.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.